نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التريمسة...حين يلتقي العائد بظلّه

24/06/2025 - عبير داغر إسبر

انهيار إمبراطورية إيران

17/06/2025 - براءة الحمدو

حزب حاكم جديد في سورية

08/06/2025 - بشير البكر

المفتي قبلان صاحب الرؤية

02/06/2025 - يوسف بزي

المثقف من قرامشي إلى «تويتر»

24/05/2025 - د. عبدالله الغذامي :

التانغو" فوق حطام المنطقة

22/05/2025 - عالية منصور


سوريا المستحيلة: سؤال “نحن” بعد خراب “الكلّ




ما الذي يجعل السوري سورياً اليوم؟ هذا سؤال يكاد يكون فاحشاً في عنفه المعرفي، لأنه يفترض وجود جوهر ما قابل للتعريف حيث لا يوجد سوى فراغ مُؤسس على دمار. سؤال يحمل في طياته عنف السذاجة الأنطولوجية التي لا تزال تبحث عن “جوهر” في زمن تبخّرت فيه كل الجواهر، أو تحولت إلى أشباح تطارد أطلال ما كان يُسمى وطناً. فالهوية السورية، إن جاز الحديث عنها دون الوقوع في فخ التشيؤ المفاهيمي، ليست معطى ثابتاً نبحث عن تعريفه، وإنما جرح مفتوح نحاول فهم آليات نزفه المستمر. بعد عقود من التمزق الذي تجاوز حدود المجاز ليصبح واقعاً مادياً ملموساً،


 وبعد انهيار الأوهام التأسيسية التي كانت تحمل على عاتقها مهمة إنتاج معنى للانتماء، نقف أمام حطام مفاهيمي لا يتطلب مجرد إعادة بناء، وإنما اعترافاً جذرياً ومؤلماً بأن البناء الأول لم يكن سوى وهم مؤسس على عنف منظم.
وإذا كان هذا العنف المؤسس قد دفن تحت طبقات من الخطابات التبريرية لعقود، فإن لحظة الانتفاضة السورية كشفت ليس فقط عن هشاشة البناء الوهمي، لكن أيضاً عن تعقيد إشكالية العنف ذاته كأداة تغيير – إشكالية تتطلب إعادة قراءة نقدية لمنطق التحرر كما صاغه منظروه الكلاسيكيون. فانون، في “معذبو الأرض”، رأى في العنف الثوري أداة تطهير نفسي، وسيلة لكسر عقدة الدونية المُستبطنة واستعادة الذات المسلوبة. العنف، في التصور الفانوني، موجّه بالضرورة نحو المُستعمِر وبُناه، يهدف لتفكيك نظام الهيمنة وإعادة بناء الذات المُحرَّرة. لكن ما حدث في سوريا يُمثّل انحرافاً مأساوياً، وحتى خيانة موضوعية، لهذا المسار التحرري.
الريف السوري، المُهمَّش تاريخياً والمسحوق اقتصادياً، لم يُوجّه عنفه التحرري نحو بُنى السلطة التي أنتجت تهميشه، بل نحو المدينة كرمز ثقافي. هذا الانزياح من السياسي إلى الثقافي، من البنيوي إلى الرمزي، حوّل الثورة من مشروع تحرر جماعي إلى مشروع ثأر طبقي. الفلاح الذي كان “ملعوناً” في الخطاب المديني النخبوي، لم يسعَ لكسر اللعنة ذاتها كنظام إقصاء، وإنما لقلبها: أن يصبح هو اللاعن، والمدينة الملعونة. هذا التحوّل كشف عن عمق الأزمة السورية. العنف لم يُنتج وعياً تحررياً على العكس تماماً، أنتج وعياً انتقامياً. والوعي الانتقامي، بطبيعته، عاجز عن التأسيس، قادر فقط على الهدم. حين دخل “الغربتلية” – تسمية تحمل كل الاحتقار الطبقي – إلى دمشق، لم يدخلوا كمحررين يحملون مشروعاً بديلاً، وإنما كمنتقمين يريدون محو كل ما يُذكّرهم بإقصائهم التاريخي. المقاهي الأنيقة، الحياة الثقافية، أنماط اللباس والسلوك، كلها صارت أهدافاً لعنف رمزي يسعى لمحو آثار “التفوّق” المديني المزعوم.
لكن هذا المحو لا يُنتج تحرراً وإنما استلاباً مضاعفاً. الريف الذي يفرض ثقافته بالقوة لا يُحرّر ذاته، على العكس يُثبت عجزه عن إنتاج هيمنة ثقافية طوعية. والمدينة التي تنكفئ على ذاتها لا تدافع عن قيم حقيقية وإنما عن امتيازات وهمية. كلاهما أسير لجدلية سيد/عبد لم تُكسر بل انقلبت، وكلاهما عاجز عن تخيّل علاقة تتجاوز ثنائية الهيمنة/الخضوع. وهذا العجز المُزدوج عن تجاوز منطق الثأر الرمزي لا يقف عند حدود العلاقات الاجتماعية، لكنه يتسلل إلى بنية السلطة ذاتها، فيُعيد تشكيل مفهوم الحكم من إدارة سياسية محايدة نسبياً إلى أداة انتقام تاريخي مُؤسس على وهم الأصالة المستعادة. الانقلاب الأخطر حدث في مفهوم الدولة ذاته. سوريا ما بعد الأسد لا تحكمها دولة بالمعنى الحديث – مؤسسات، قوانين، إجراءات – وإنما “حالة” شعبوية تستمد شرعيتها من ادعاء تمثيل “الشعب الحقيقي”. لكن من هو هذا الشعب؟ ليس مجموع المواطنين بتنوعهم، وإنما صورة مُتخيّلة لـ”السوري الأصيل”: المتدين، المحافظ، البسيط، غير الملوّث بـ”أمراض” الحداثة.
هذا الاختزال للشعب في نموذج واحد ليس بريئاً. إنه آلية إقصاء ممنهجة تحوّل كل من لا يطابق النموذج إلى “دخيل” أو “منحرف”. وزارة الثقافة التي تحوّلت من مؤسسة إنتاج ثقافي إلى منبر ترويج شعبوي تُجسّد هذا التحوّل. الثقافة لم تعد إنتاج معنى وطرح أسئلة، أصبحت تعمل على تأكيد هوية وتكريس يقينيات. المسرح، الأدب، الفن التشكيلي – كل أشكال الإبداع المُركّب – صارت مشبوهة لأنها تتطلب تأملاً، والتأمل خطر على اليقين الهوياتي. في المقابل، يُحتفى بالأشكال الثقافية “الشعبية” ليس لقيمتها الفنية، وإنما لوظيفتها الأيديولوجية: تأكيد صورة الذات الجماعية المُتخيّلة. الدبكة، الأغنية الشعبية، الحكاية التراثية، قصائد الثأر، تُستدعى لا كتراث حي يتطور، وإنما كمتحف هوياتي جامد. والمفارقة أن هذا “الشعبي” المُحتفى به ليس شعبياً حقاً – أي نابعاً من الناس وتفاعلاتهم الحية – لكنه مُصنّع من فوق، مُوجّه لخدمة سردية السلطة الجديدة عن “الأصالة” المستعادة.
هكذا تتحوّل الدولة من إطار تنظيمي محايد نسبياً إلى أداة فرض نموذج ثقافي أحادي. والمواطنة من حق مكفول للجميع إلى امتياز مشروط بالمطابقة. من لا يُطابق النموذج – العلماني، المثقف النقدي، المختلف جندرياً أو دينياً – يصير في أحسن الأحوال مواطناً من الدرجة الثانية، وفي أسوئها عدواً داخلياً يجب “إصلاحه” أو إسكاته.
وهذا التراتب الجديد للمواطنة، المُؤسس على منطق الإقصاء المُتستر بخطاب الأصالة، لا يُفرز مجرد تمييز سياسي تقني، وإنما يُولّد صدمة وجودية تخترق النسيج الاجتماعي برمته. إنه يُجبر المُستبعدين والمُستبعِدين على السواء على البحث عن ملاذات هوياتية أكثر بدائية، ملاذات تُعيد إنتاج منطق الإقصاء ذاته وتمنحه شرعية “طبيعية” تُخفي طابعه المُصطنع والمُؤقت. على المستوى النفسي-الرمزي، ما نشهده يتجاوز مجرد التحوّل السياسي ليُصبح نكوصاً وجدانياً جماعياً له ديناميكياته الخاصة. المجتمع السوري، المُنهك بصدمة العنف المُتراكم، لا يبحث فقط عن الأمان المادي، بل عن معنى للانتماء في عالم تبخّرت فيه كل المرجعيات القديمة. هنا تتحوّل الطائفة والعشيرة والمنطقة من مكونات اجتماعية طبيعية إلى ملاجئ نفسية مُصطنعة، تُقدم وهماً بالأمان الهوياتي في مواجهة فوضى المعنى التي تُهدد بابتلاع كل شيء.
والسلطة الجديدة، بحنكة سياسية لا تخلو من الخبث، تستثمر في هذا النكوص الجماعي. إنها لا تُغذّيه فقط، لكن تُعيد تشكيله وتوجيهه بما يخدم مشروعها في إعادة تعريف الهوية الوطنية. هكذا يتحول الخوف من الآخر المختلف من مجرد انفعال عفوي، إلى سياسة مدروسة تُحوّل القلق الوجودي إلى رأسمال سياسي، والصدمة الجماعية إلى أداة سيطرة.
“الغربتلية” في دمشق هم تجسيد حي لقلق هوياتي خطير نوعاً ما. وجودهم يُجبر المدينة على مواجهة أوهامها عن ذاتها: لم تكن يوماً عاصمة كوزموبوليتية حقيقية، كانت مدينة سلطة تعيش على أوهام التفوّق الحضاري. والآن، حين انهارت السلطة القديمة وحلّت محلها سلطة تستمد شرعيتها من “الأطراف”، تجد المدينة نفسها عارية من أي مشروع ثقافي حقيقي.
ردّ الفعل المديني – الانكفاء، التقوقع، الحنين لماضٍ مُتخيّل – يُعمّق الأزمة ويرسخها بدلاً من حلّها. بمعنى بدلاً من إعادة تعريف الذات المدينية على أسس أكثر شمولاً وديمقراطية، تختار النخب المدينية التحصّن خلف جدران رمزية أعلى. اللهجة “الراقية”، الذوق “الرفيع”، الثقافة “العالية”، كلها تتحوّل من أدوات تواصل إلى أسلحة دفاع طبقي، وهذا الدفاع محكوم بالفشل. الثقافة التي تتحصّن خلف الجدران تموت اختناقاً، والهوية التي تُعرَّف بالسلب – لست ريفياً، لست متخلفاً، لست… – هوية فارغة من أي محتوى إيجابي. المدينة التي ترثي ماضيها دون أن تُنتج مستقبلاً تحكم على نفسها بالمتحفية، بأن تصير ذكرى لذاتها.
وهذا الانكفاء المديني المَرَضي، في عجزه عن تقديم بديل حقيقي للنموذج الثقافي الذي تفرضه السلطة الجديدة، لا يكشف فقط عن إفلاس النخب التقليدية، لكنه يُعرّي بوحشية نادرة الوهم التأسيسي الأكبر الذي كان يحكم مجمل المشروع السوري: وهم إمكانية وجود “شعب واحد” في مجتمع لم يتصالح يوماً مع تناقضاته الجوهرية، مجتمع بُني على إنكار أزماته الوجودية لا على حلها. “الشعب السوري واحد” – شعار رُفع طويلاً لم يكن يوماً حقيقة بل رغبة، أو بالأحرى، كذبة ضرورية لتماسك كيان هش. الثورة، التي كان يُفترض أن تُحقق هذه الوحدة عبر النضال المشترك ضد الاستبداد، كشفت عن عمق التشظّي بدلاً من معالجته. والأسوأ، حوّلت التنوع من ثروة كامنة إلى لعنة فاعلة.
الليبرالية السورية، في تجلياتها التاريخية المُؤسفة، لم تكن سوى قناع أنيق لنخبوية عاجزة عن مواجهة تناقضاتها الجوهرية. تبنّت خطاب التنوع والتعددية كموضة فكرية استهلاكية، دون أن تغوص في الجذور الأصيلة للإقصاء الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يُفرغ هذا الخطاب من أي مضمون حقيقي. احتفت بالفولكلور الطائفي والإثني كديكور “تنوع ثقافي” برّاق، دون أن تسائل البُنى الهيكلية التي تُحوّل هذا التنوع من ثراء حضاري كامن إلى تراتبية اجتماعية قاتلة. وحين جاءت لحظة الاختبار الحقيقي، انهارت هذه الليبرالية الهشّة كبناء من ورق مُبلل بدموع أوهامها الخاصة.
لكن انهيار الليبرالية النخبوية لا يعني استحالة الليبرالية كمشروع تحرري جذري –  ليبرالية تتجاوز حدود الخطاب الثقافوي المُتسطح لتغوص في العمق الاجتماعي-الاقتصادي للأزمة. ما قد ينبثق من رحم الكارثة الحالية ليس ليبرالية صالونات دمشق المُتعالية، لكن ليبرالية اجتماعية جذرية تفهم أن الحرية الحقيقية لا تُبنى على امتيازات طبقية مُقدسة، وإنما على عدالة توزيعية تجعل التنوع الثقافي ممكناً لا مُستحيلاً. ليبرالية تُدرك أن المساواة ليست تهديداً للحرية وإنما شرطها الوجودي، وأن الديمقراطية الحقيقية تتطلب تفكيك هياكل الهيمنة الاقتصادية التي تُحوّل الخيارات السياسية إلى ترف نخبوي.
في الواقع السوري المُمزق اليوم، حيث انهارت كل المرجعيات القديمة وتعرّت كل الأوهام التأسيسية، قد تكمن إمكانية نادرة لولادة ليبرالية من نوع مختلف تماماً. ليبرالية تنطلق من الضرورة الوجودية لإيجاد صيغ عيش مشترك تُحترم فيها الاختلافات دون أن تُحوّل إلى تراتبيات، وليس من حلم الطبقة الوسطى المدينية بـ”التسامح” المُجرد. ليبرالية تُدرك أن أصعب أسئلة الحرية تُطرح في القرى المُهمشة وضواحي المدن المنسية، حيث يتقاطع القهر السياسي مع الحرمان الاقتصادي ليُولّد أشكالاً من العنف تتطلب حلولاً تتجاوز الوصفات الليبرالية التقليدية.
ما حلّ محل الليبرالية المنهارة ليس، للأسف، قيم تعددية حقيقية تحترم الاختلاف كقيمة بذاتها، وإنما صراع هويات صفري يُحوّل كل تنوع إلى تهديد وجودي مُحدق. كل جماعة تسعى لفرض نموذجها كالنموذج الوحيد “الأصيل” لسوريا: السُنّة يريدون سوريا سُنّية تُطهّر نفسها من “الانحرافات” العلوية، العلويون يحنّون لسوريا الأسد التي كانت تحميهم من “همجية” الأغلبية، الأكراد يحلمون بحكم ذاتي يُحررهم من قيود العروبة المُصطنعة، المسيحيون يبحثون عن ضامن خارجي يحميهم من مصير مسيحيي العراق.
أما الدروز، في تناقضهم التراجيدي المُعبّر، فيُجسدون ربما أكثر من أي جماعة أخرى المأزق الوجودي للأقليات في زمن انهيار الدولة. إنهم يُناشدون، بوعي نظري حاد، قيام دولة حديثة جامعة تحترم المواطنة كمبدأ متعال على الانتماءات الأولية – وهو الموقف الوحيد المنطقي في مجتمع متعدد. لكنهم، في الممارسة الفعلية وتحت ضغط الخوف الوجودي المُبرر من مصير قد يكون أبشع من كل ما شهدته المنطقة، ينطوون على أنفسهم في حماية دفاعية تُشبه حماية القنفذ – وهو انطواء يُناقض خطابهم النظري حول الدولة الجامعة ويُحوّلهم، رغماً عنهم، إلى مُشاركين في منطق التشظّي الذي يدّعون رفضه. إنها مأساة الوعي المُستنير الذي تُقيّده الشروط المادية للخوف، والذي يجد نفسه محكوماً بإعادة إنتاج ما يُفكّكه فكرياً.
وفي خضم هذا الصراع الدموي للهويات المُتحاربة والمُتحصّنة، حيث تضيع إمكانية سوريا كفضاء مشترك يتّسع للجميع دون أن يمحو أحداً، تأتي السلطة الجديدة – المُنبثقة من رحم الأغلبية السُنّية المُهمّشة تاريخياً – لا كحاملة لمشروع مواطنة جامعة يُحرّر الجميع من دوّامة الإقصاء، وإنما كمُعيدة إنتاج لنفس منطق الهيمنة الذي عانت منه، مُكتفية بقلب الأدوار دون كسر اللعبة ذاتها. “سوريا المُحرّرة” – في سخرية مُؤلمة – تتحوّل من حلم بالتحرر الجماعي إلى مشروع إقصاء جديد، حيث لا تعود سوريا هنا وطناً للجميع بل أرضاً لمن يُطابق تعريفاً ضيّقاً وقهرياً للهوية “الصحيحة”، وحيث تتحوّل الأقليات من شركاء في بناء المستقبل إلى “ضيوف” مُؤقتين مشروطة إقامتهم بصمتهم وحسن سلوكهم وقبولهم لدورهم الهامشي في مسرحية الأصالة المُستعادة – وهكذا تكتمل الدائرة الجهنمية للانتقام التاريخي الذي يُفني إمكانية أي مستقبل حقيقي مُشترك، مُحوّلاً الثورة من مشروع تحرر إلى آلة لإعادة توزيع القهر.
بعد هذا التشريح المؤلم، أين المخرج؟ ربما تكمن الإجابة ليس في البحث عن “مخرج” بالمعنى التقليدي – كحل سحري يُعيدنا إلى وهم الوحدة المفقودة – وإنما في تجاوز جذري لكل التعريفات النظرية المُجردة للعقد الاجتماعي والهوية الوطنية الجامعة. المطلوب اليوم ليس إعادة بناء سوريا على أنقاض حلم مُتشظ، لكن الانطلاق من لحظة اعتراف صادقة ووحشية بالواقع كما هو: سوريا هي، فعلياً وبلا مواربة، تجمّع هويات متعددة ومُختلفة، أحياناً مُتصارعة وأحياناً مُتنافرة، وأحياناً تكره بعضها البعض في سياق تاريخي حقيقي.
هذا الاعتراف، رغم قسوته، قد يكون هو نقطة البداية الوحيدة الممكنة لبناء شيء جديد. فبدلاً من إضاعة الوقت في محاولات مُضنية لفرض هوية “وطنية” مُصطنعة من الأعلى، أو في اختراع تاريخ مشترك لم يكن موجوداً أصلاً، المطلوب هو تطوير ديناميكية عملية للعيش المشترك خارج دائرة العنف الطائفي المُدمر. ديناميكية تقبل بالاختلاف كحقيقة وجودية لا يمكن محوها، وتبني عليها بدلاً من محاولة إنكارها أو تجاوزها.
لكن هذا يتطلب، بالضرورة، أن تتخلص كل جماعة – بلا استثناء – من سردية المظلومية المُقدسة التي تُحوّلها إلى ضحية أبدية مُبررة في كل أفعالها. على السُنّة أن يتوقفوا عن النحيب حول “سنوات القهر” العلوي ويبدأوا ببناء نموذج حكم يُثبت نضجهم السياسي. على العلويين أن يتجاوزوا عقدة الخوف الوجودي ويشاركوا في بناء مستقبل لا يقوم على حمايتهم من الأغلبية. على الأكراد أن يُقرروا إن كانوا جزءاً من المشروع السوري أم لا، وأن يتحملوا مسؤولية خيارهم. على المسيحيين أن يتوقفوا عن البحث عن ضامن خارجي ويُشاركوا في بناء ضمانات داخلية. على الدروز أن يُترجموا خطابهم النظري حول الدولة الجامعة إلى ممارسة فعلية.
وعلى الجميع، دون استثناء، أن يبدأوا العمل الحقيقي الشاق والمُمل على بناء قاعدة مشتركة للعيش – وليس قاعدة مبنية على حب مُتبادل مُستحيل، وإنما على مصالح مشتركة ملموسة وقواعد لعبة واضحة تحمي الجميع من عنف الجميع. هذا عمل يومي، تراكمي، لا يحتمل رومانسية الخطابات الكبرى أو شاعرية الأحلام الوطنية، لكنه يتطلب براغماتية صارمة وصبراً استراتيجياً على المدى الطويل.
إن الأجيال القادمة قد تحمل بذرة هذا التغيير، لكن فقط إذا تعلمت من كوارث آبائها وأمهاتها درساً مختلفاً: أن العيش المشترك ليس حلماً رومانسياً يُحقق بالشعارات، لكنه عملية معقدة وشاقة تتطلب تنازلات مُؤلمة من الجميع والاستعداد لقبول “الآخر” ليس كأخ مُحب، وإنما كجار ضروري يجب التعامل معه بحذر واحترام متبادل.
في النهاية، وبعد كل هذا التفكيك والبناء، نعود لنواجه السؤال الذي طرحناه في البداية: ما الذي يجعل السوري سورياً اليوم؟ ربما الإجابة الوحيدة الممكنة والصادقة هي: لا شيء سوى القدر الجغرافي والضرورة التاريخية للعيش على نفس الأرض. وربما هذا كافٍ، إذا تعلمنا كيف نبني عليه بدلاً من البحث عن ما هو أكثر منه. مهمة متواضعة ومُحبطة، لكنها المهمة الوحيدة المُتاحة للذين يريدون مستقبلاً بدلاً من كابوس مُتكرر.
---------
اوكسجين سوريا

شادي أبو كرم
الثلاثاء 24 يونيو 2025