فلسطين وسوريا بين بيروت وباريس
في بيروت، وتحديداً في مدرسة «الليسيه» العلمانية الفرنسية وفي الأحياء التي صار اسمُها بعد العام 1975 «الشرقية»، انتسب سمير فكرياً إلى اليسار وسياسياً وإنسانياً إلى القضية الفلسطينية. مثّل الأمر يومها أوّل مواجهة فرديّة له مع سائدٍ في حيّز جغرافي كانت أكثريّة سكّانه في مقلب فكريّ وسياسي مختلف، وأحياناً مناقض. وهذا أتاح له فهماً دقيقاً لذاك السائد ولأسباب رفضه له وموجباتها.
وفي العام 1981، بعد ستّ سنوات من الحرب الأهلية والاجتياحين السوري (1976) والإسرائيلي الأول (1978) اللذين غيّرا من خصائصها وجعلاها في الكثير من جوانبها إقليمية، استقرّ سمير في باريس للدراسة الجامعية، وحصّل العام 1984 دبلوم دراسات معمّقة في الفلسفة السياسية من جامعة السوربون، والعام 1990 دكتوراه في التاريخ المعاصر من جامعة باريس الرابعة.
والأهمّ أن سميراً خاض في سنواته الباريسية التي استمرّت حتى العام 1993 تجارب كتابية عديدة. فإضافة إلى نشره في صحيفة «لوريان لوجور» الفرنكوفونية البيروتية، كتب في دورية «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية ثم عمل في «مجلة الدراسات الفلسطينية»، وأصدر العام 1992، بالشراكة مع المؤرّخ والناشر السوري فاروق مردم بك، كتابه الأول (بالفرنسية) «مسالك بين باريس والقدس: فرنسا والصراع العربي الإسرائيلي» وفيه تأريخ لتطوّر مواقف الدوائر السياسية والثقافية الفرنسية من المسألة الفلسطينية، وتحليل لميول الجماعات اليهودية أو المتحدّرة من أصول عربية تجاه المسألة إياها.
وسمير اكتشف خلال إقامته الباريسية قضايا العالم العربي التحرّرية إذ جمعته باريس بمثّقفين منشقّين ومنفيّين، سوريّين بخاصة، فترابطت عنده مع الوقت قضايا التحرّر من الاحتلال بقضايا الحرّيات الشخصية والعامة، أي التحرّر من الاستبداد بمختلف أشكاله.
هكذا، حمل معه إلى بيروت بعد عودته للتدريس في الجامعة اليسوعية وللعمل في صحيفة «النهار» ودار نشرها تجربةً جعلته يقرّر خوض الكتابة باللغتين ضمن مشروع سياسي فكري أفُقُه إحداث نهضة عربية جديدة. ونشرَ في نفس الوقت كتابه الثاني (بالفرنسية)، المستند إلى أطروحته الجامعية، حول الحرب اللبنانية بين العامين 1975 و1982، حين طوى الاجتياح الإسرائيلي الثاني والاحتلال الذي تبعه مرحلة طويلة من مراحلها.
في العام 1995، أسّس سمير مجلة شهرية، «لوريان إكسبرس»، عاشت لثلاث سنوات واستقطبت كتّاباً وكاتبات قرّروا المغامرة بكتابة مختلفة، فيها حيوية وثقافة نقدية ومواقف اجتماعية تقدّمية أخرجت الاستخدام الصحافي الفرنكوفوني اللبناني من طابع يميني محافظ سيطر عليه لعقود طويلة.
وفي أواخر التسعينات ومطلع الألفية الثانية، ومع احتدام الصراع السياسي في بيروت إثر تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي وسعي النظام السوري إلى خنق الأصوات اللبنانية المعارضة لاستمرار هيمنته، بات لافتتاحيّات قصير الأسبوعية في «النهار» أصداء واسعة، واكتسب مصداقيةً في أوساط طلابية ومهنية وجدت في نصوصه وضوحاً سياسياً ورفضاً للتدجين أو للرقابة الذاتية، وتحليلاً دقيقاً للتطوّرات في لبنان وسوريا، حيث كان الأسد الأب يورّث السلطة لابنه، وفلسطين حيث اندلعت الانتفاضة الثانية. وأدّى الأمر إلى ملاحقة رئيس جهاز الأمن العام اللبناني لقصير لتخويفه، فصادر جواز سفره، قبل أن يعيده نتيجة حملة استنكارات وبيانات تضامنٍ من حقوقيين وسياسيين وديبلوماسيين.
انتفاضة الاستقلال
توالت بعد ذلك التطوّرات في البلد والمنطقة، وتطوّرت بموازاتها كتابات سمير وأنشطته. ففي العام 2003، أصدر كتابه الثالث «تاريخ بيروت» (بالفرنسية)، بأسلوب ومقاربة استوحاهما من فرناند بروديل في «تاريخه الشامل والطويل» ومن ألبرت حوراني في دراسة الأعيان والعائلات والثقافة والاقتصاد والعمران. وحلّل في الكتاب تطوّر المدينة وعلاقتها بسائر المناطق اللبنانية كما بسوريا وفلسطين وبالموانئ والمدن المتوسّطية.
ثم أصدر العام 2004 كتابين (بالعربية) جمعا أبرز مقالاته في «النهار»: وأحدهما «عسكر على مين؟» فيه تلك المرتبطة بالأحوال اللبنانية وبمواجهة الآلة الأمنية وسياساتها القمعية، وثانيهما «ديمقراطية سوريا واستقلال لبنان» وفيه ربط بين شرطية أفول الدكتاتورية في سوريا وتحقّق الاستقلال اللبناني الثاني. تزامن صدور الكتابين مع مشاركة سمير قصير الفاعلة في تأسيس حركة سياسية، «اليسار الديمقراطي»، آلفت بين شيوعيّين خارجين من حزبهم، ويساريّين من مشارب وأجيال وخلفيات مختلفة، بهدف التوفيق وطنياً بين المسألة الاجتماعية والمسألة الديمقراطية، والبحث عربياً في المساهمة بالكفاحات التحرّرية من الاحتلالات الخارجية ومن استبداد الأنظمة وفسادها على حدّ سواء.
في مطلع العام 2005، صدر لقصير كتاب جديد (بالفرنسية) عنوانه «تأملات في شقاء العرب»، وفيه محاولة لتحليل الأوضاع العربية انطلاقاً من رفضين: رفض الثقافوية في التعامل مع شؤون المنطقة واعتبارها محكومة بأنظمة التسلّط والعنف وبعدم ملاءمة الديمقراطية لمجتمعاتها، ورفض «منطق الضحية» الذي يُخرج نفسه من المسؤولية مكتفياً بترداد المظالم وتبعاتها.
وفي شباط/فبراير من العام نفسه، وبُعيد اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري في تفجير ضخم في قلب العاصمة بيروت، تفرّغ قصير للشأن السياسي كتابةً وندواتٍ وتظاهرات وتغطيةً إعلامية وعملاً ضمن «اليسار الديمقراطي» والتحالف العريض المعارض الذي اتّهم النظام السوري بالاغتيال. وكان من أبرز المحرّكين لما عدّه مئات ألوف اللبنانيين في تجمعاتهم في ساحة الشهداء «انتفاضةَ الاستقلال» ضدّ النظام المذكور وسطوة مخابراته على مختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية في لبنان.
ومع اندحار الجيش السوري من بيروت ثم من باقي المناطق (بعد 29 عاماً من اجتياحه) نتيجة الضغوط الخارجية على دمشق ونتيجة التحرّكات الشعبية اللبنانية التي توجّتها مظاهرة 14 آذار/مارس المليونية، انتقل قصير سريعاً إلى التحذير من الاكتفاء بالانسحاب العسكري السوري دون التفكير بالإصلاح السياسي وتجديد النخب، ودون إطلاق «انتفاضة في الانتفاضة».
في 2 حزيران/يونيو، قتل انفجار صباحي سميراً في سيّارته. واستَهلّ اغتيالُه مرحلة اغتيالات استمرّت حتى العام 2013 أطاحت بسياسيين وصحافيين وأمنيّين، كان المُشترك الأساسيّ بينهم، معارضتهم نظام الأسد وحليفه اللبناني حزب الله، وتمسّكهم بالتحقيق الدولي في الاغتيالات جميعها.
واليوم، بعد ما يقارب العقدين من الزمن، وبعد ثورات وانتفاضات من تونس إلى القاهرة وطرابلس وصنعاء والمنامة ودمشق وحمص وحلب، ومن الجزائر إلى الخرطوم فبغداد والبصرة وبيروت، وبعد ثورات مضادة وحروب وتدخّلات سحقت معظم منجزات الثورات ومدّدت «لشقاء العرب»، ما زال قتَلة قصير طليقين، وما زال الإفلات من العقاب محصِّناً للاغتيالات في لبنان (الذي شهد اغتيالاً جديداً لكاتبٍ وناشرٍ هو لقمان سليم، العام 2021)، وفي المنطقة بأسرها.
وفي المقابل، ما زال الدفاع عن الذاكرة وفعل الكتابة النقدية والتأريخ مستمرَّين أيضاً، ومثلهما العمل توثيقاً وسرداً وتصدّياً لقتَلة سمير بهدف إحقاق العدالة، أو بعضِها، ولو بعد حين…
القدس العربي