لا بدّ في البدء، من تفسير الإعجاب بالشرع، والتبنّي الظاهري له؛ وبعض الأسباب، هي من طبيعة نفسية، وبعضها الآخر، من طبيعة عملية. واستعراض هذه الأسباب يُسهم في رصد تحوّلات العلاقات الأميركية السورية الراهنة، واستشراف مآلاتها المحتملة على المديين القصير والمتوسط، وذلك على الشكل الآتي:
أولاً، الجانب النفسي: دهاء الشّرع
في هذا الجانب شقّان؛ يتعلّق الأول بالانبهار بقدرته وهو شبه معزول في محافظة إدلب، على توحيد البندقية إلى حدّ كبير، سواء بالقوة العسكرية، أو بالمهارة التفاوضية، ثم باستيعاب دروس الحروب التاريخية والحديثة، ومنها على وجه خاص، تجارب الفصائل ضد الجيش النظامي وحلفائه من الميليشيات المحلية والأجنبية، من أجل صياغة الاستراتيجية أو المعادلة الميدانية المناسبة لإسقاط النظام، بأقصر وقت، وبأقل خسائر من كلا الطرفين المتحاربين.
الشرع يلتقي الرؤساء والوفود، ويحاورهم بلغته الجديدة، التي هي مختلفة جذرياً عن صوتياته ومرئياته في سابق السنوات
كذلك قدرته على الانضباط وضبط جنوده، وهو ما تجلّى في العفو عن جنود النظام، لحظة استسلامهم، وعدم اللحاق بالميليشيات الأجنبية المنسحبة وتركها تغادر بسلام. وهذه الخاصية أسهمت في تسارع انهيار النظام بشكل دراماتيكي. أما الشقّ الثاني من الانبهار الأميركي بالشرع، فهو ماضيه الجهادي، في العراق ثم في سوريا، بين 2003 و2011، وانتقاله من فصيل عراقي محلّي في الموصل، إلى تنظيم القاعدة- فرع العراق، ثم تنظيم الدولة الإسلامية، ثم انشقاقه عنه، وانضمامه إلى تنظيم القاعدة-المركز، وبعد ذلك، انفكاكه عن القاعدة بطريقة ملتوية فيها قدر كبير من الدهاء، وتخلصه تدريجياً من رواسب السلفية الجهادية، واصطباغه بصبغة التنظيم المحلي، واكتمال هذا التحوّل أخيراً، بقيادة سوريا الجديدة، بوصفه قائداً وطنياً.هذه الإنجازات والتحوّلات تثير اهتمام أعدائه، وربما أكثر من أصدقائه وحلفائه. فعندما كان الشرع يلتقي الرؤساء والوفود، ويحاورهم بلغته الجديدة، التي هي مختلفة جذرياً عن صوتياته ومرئياته في سابق السنوات، لما كان قائد جبهة النصرة، أو جبهة فتح الشام لاحقاً، فإن أكثر ما كان يثير محاوريه، شكله، ونوع خطابه، ربما أكثر مما كان يعنيهم مضمون تلك الكلمات، وهي من النوع العملي، والمباشر، والموجز، ومن دون حمولات أيديولوجية. وقد أجاد الشرع اللعب على هذه المفارقات الشديدة، بين ماضيه وحاضره، لاستجلاب الدعم لمسيرته، واستمالة محاوريه إلى رؤاه الحالمة وخططه الاستنهاضية.
ثانياً، الجانب العملي: خروج إيران
لكن الجانب النفسي السابق ذكره، ليس كافياً؛ فهو مؤقت بطبيعته، وينحسر بمرور الأزمان والأحداث، ينسخ بعضها بعضاً. وكذلك لأن السياسات لا تنبني على العواطف بل على المصالح. فما الذي وجده الأميركيون في شخصية الشرع من مواصفات ومهارات مفيدة، يمكن أن تخدم مصالحهم؟ وهل كان الشرع واعياً تماماً لهذه الناحية واستغلّها أحسن الاستغلال؟
شكّل التبنّي لسوريا الجديدة عاملاً أساساً في اصلاح العلاقة الأميركية السورية
قد يكون الشرع محظوظاً بأعدائه المحليين والخارجيين بقدر ما هو متصف بمواصفات القائد الكفء، والمرن، والصلب، في وقت واحد. فقد أسقط النظام المتحالف مع إيران، في اللحظة التي فقدت فيها طهران دورها في المنطقة، كقوة صدّ أمام السلفية الجهادية في العراق وسوريا، وهو الدور البراغماتي الذي شجع الرئيس السابق باراك أوباما (2009-2017) على عقد الاتفاق النووي معها عام 2015، وعلى إعطائها منحة إضافية، وهو الدور الإقليمي في المنطقة، والذي اعتبره من حقها الطبيعي.
لقد فقدت إيران هذا الدور في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما هجمت حركة حماس الموالية لإيران، على غلاف غزة، فوقع أكثر من 1200 قتيل إسرائيلي، بين جندي ومدني، كما أُسر أكثر من 250 إسرائيلي، مدني وعسكري. بنتيجة ذلك، رفعت الولايات المتحدة الغطاء، وسمحت تدريجياً، باستهداف أذرع إيران، ثم إيران نفسها في عهد ترامب إثر عودته المظفرة إلى البيت الأبيض. حينئذ، بات أحمد الشرع، الجهادي السابق، والعدو السابق، صديقاً للولايات المتحدة عدوة إيران حالياً، كما كانت الجمهورية الإسلامية في إيران، عدوة الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) ابتداءً، ثم أصبح الطرفان صديقين عملياً، في زمن الرئاسة الديموقراطية، لوجود عدو مشترك، هو التنظيمات السلفية السنية الجهادية، وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
أما الدور المرسوم للشرع في سوريا الآن، هو أن يكون قوة صدّ، أمام عدوين هما:
أولاً: داعش، الذي استغل انهيار النظام السابق، للخروج من قمقمه، ونشر بعض خلاياه في المناطق، ومحاولة اختراق الجيش الجديد، والأجهزة الأمنية، من خلال زرع أفراد ذوي سجلّ نظيف، كما فعلت ذلك حركة طالبان أكثر من مرة خلال صراعها الطويل مع التحالف الدولي (2001-2021). وهو ما أدى إلى فقدان الثقة تدريجياً، بالقوات الأفغانية التي درّبتها الولايات المتحدة وسلّحتها، إلى أن حانت لحظة التخلّي عن المشروع برمته، وتسليم طالبان البلاد، مع سلاح أميركي بمليارات الدولارات.
ما يوصف بأنه إعجاب بشخصية الشّرع، يتعدّى شخص ترامب إلى عدد لا يُستهان به من أعضاء إدارته، والبنتاغون
ثانياً: إيران وحزب الله، اللذين يلملمان خسائرهما في حرب السنتين (2023-2025)، ويحاولان ترميم الصفوف، وتذخير أسلحتهما، وإمداد قواتهما، من أجل استعادة سوريا أولاً؛ لأن استعادتها هو الخطوة الجوهرية لاستعادة قوة الحزب في لبنان، بوصفها طريق عبور وإمداد. ولنجاح خطة العودة، لا بدّ من كسر العلاقة الجديدة والوثيقة بين الشرع وترامب. ومن دون ذلك، من الصعب إنجاز الخطوة الأولى. ولا يمكن كسر العلاقة بين الرجلين، إلا بإثبات أمرين: عدم استغناء الشرع عن ماضيه، أو عجزه عن القيام بدوره الجديد، أو الاثنان معاً.ثالثاً: التبنّي السعودي لسوريا الجديدة
شكّل التبنّي لسوريا الجديدة عاملاً أساساً في اصلاح العلاقة الأميركية السورية. وقد تجلى ذلك واضحاً في مؤتمر الاستثمار الذي استضافته العاصمة السعودية الرياض وحضره الرئيس الأميركي دونالد ترامب، حيث أعلن في كلمته خلال المؤتمر قرار رفع العقوبات عن سوريا بناء لتمني الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي. وهو ما دفع الأمير محمد بن سلمان إلى شُكر الرئيس ترامب مباشرة خلال كلمته بوضع يديه على صدره، في إشارة تحوّلت خلال ساعات إلى رمز سوري سعودي في التأكيد على دور المملكة وولي عهدها في هذا الانفتاح الأميركي على سوريا.
داعش مجدداً كأداة بديلة
قبل أسبوع، أطلق عنصر في الأمن السوري الرصاص على دورية أميركية سورية مشتركة قرب مدينة تدمر، فسقط ثلاثة جنود أميركيين ومترجم مدني. ثم وقعت عمليات أخرى، في معرّة النعمان، وغيرها، استهدافاً لرجال الأمن. داعش تبنى العمليات اللاحقة، ولم يتبنّ العملية الأخطر، وهي إطلاق النار على الدورية المشتركة. قد يكون ذلك لأن رجل الأمن المذكور، وقد قُتل أثناء العملية، ليس عضواً في داعش، بل يحمل فكراً قريباً منه، وقد يكون عميلاً للتنظيم المذكور، والهدف من العملية، زرع الشك في طبيعة الدولة السورية الجديدة، وفي قدرة الشرع على ضبط الأفراد المتشدّدين من تنظيمه السابق، هيئة تحرير الشام.
لا بدّ في البدء، من تفسير الإعجاب بالشّرع، والتبنّي الظاهري له؛ وبعض الأسباب، هي من طبيعة نفسية، وبعضها الآخر، من طبيعة عملية
لكن اللافت أن هذه العملية الخطيرة في معانيها، تبعتها بعد أيام قليلة عملية كبيرة في أستراليا، حيث استُهدف حفل يهودي، على يد والد وابنه، يقال إنهما باكستانيان أو هنديان، وليسا عضوين في داعش، بل مستلهمين لأفكاره. وداعش لم يتبنّ هذه العملية، بل مدحها، في بيان ملتبس. ثمة هدف مشترك بين هاتين العمليتين، حتى لو تباعدت المسافات، وهو إعادة تظهير الخطر الجهادي السني، من أجل عكس التقارب الحالي بين الولايات المتحدة والجهادي السابق أحمد الشرع. المفارقة العجيبة أن أحمد آخر في أستراليا (أحمد الأحمد) أفشل هذا المسار المحبوك بعناية، حتى لو بدا عفوياً، باعتبار أن الخطر الإرهابي يبقى في الفكر حتى لو اندثر التنظيمlأما الاختبار الأول من نوعه، للتحالف الأميركي-السوري في قتال داعش، فكان بعد أسبوع من الاختراق الخطير في تدمر؛ إذ شنّت القوات الأميركية ضربات مركّزة على معاقل تنظيم داعش، بالمدفعية الصاروخية، والطائرات الهجومية، والمروحيات، في ثلاثة مواضع محدّدة، في ريف دير الزور قرب الحدود العراقية شرقاً، وريف الرقّة في الشمال، وريف حمص في الوسط، وهي عبارة عن جبال منتشرة في بادية الشام. وتلك الضربات التي وصفها ترامب بأنها كانت دقيقة، وفعّالة، كانت نتيجة التنسيق الاستخباري الوثيق بين واشنطن ودمشق. وعلى هذا، فإن ما جرى منذ 13 الشهر الجاري، كانت إشارة قوية على جدية دمشق في الانضمام إلى التحالف الدولي ضد داعش، وتوثيقاً للعلاقات التي تظلّلها مصالح مشتركة.
----------
اساس ميديا


الصفحات
سياسة








