أدرك أحمد الشرع مبكرًا أن العالم لا يرفع العقوبات، ولا يستثمر، ولا يطبع العلاقات مع جماعات مسلحة، بل مع دول قيد التشكل تمتلك مؤسسات وخارطة طريق سياسية—ولو إن كانت ناقصة أو غير مكتملة.

من سلطة أمر واقع إلى دولة انتقالية

جرى هذا التحول عبر «مؤتمر النصر» في كانون الثاني/يناير 2025، الذي شكّل نقطة الانطلاق لتأسيس سلطة انتقالية ذات طابع مؤسسي.

وعلى إثره:

  • أُقرّ إطار دستوري انتقالي لمرحلة مدتها خمس سنوات.
  • جرى التخطيط لانتخابات جزئية للهيئة التشريعية في أيلول/سبتمبر 2025، مع تعيين الجزء الآخر.
  • تأسست مؤسسات وطنية انتقالية غلب عليها الطابع التكنوقراطي.

ورثت القيادة الجديدة دولة فاشلة، منهكة، معزولة، ومصنّفة فعليًا خارج النظام المالي والدبلوماسي العالمي.

الوفد السوري الأميركي في القصر الجمهوري بدمشق يستقبلهن الرئيس أحمد الشرع

لم يكن التحدي في “الحكم” بحد ذاته، بل في جعل الحكم معترفًا به.

ومن هذه الزاوية، يمكن القول إن الإنجاز الأهم بعد التحرير كان كسر العزلة الدولية المفروضة على سوريا لعقد كامل، وإعادة إدخالها—ولو بشروط—إلى معادلة السياسة العالمية.

من اليسار إلى اليمين السيدات: علياء نطفجي -سراب الفتى- ربى هاشم- ريم البزم- هند الحناوي

تفكك العزلة الدولية: ماذا انتهى فعليًا؟

بعد عام واحد من سقوط نظام الأسد، أسفر الانخراط الدولي عن تحولات ملموسة.

انتهت العزلة السياسية والدبلوماسية وتفكك الجزء الأكبر من العزلة العقابية، لكن العزلة المالية ما تزال قائمة، ولم تنخفض بعد علاوة المخاطر أو «ضريبة الخوف من المجهول»، كما أن الثقة الكاملة لم تُستعد حتى الآن.

ورغم ذلك، يمكن رصد ثلاث نتائج واضحة:

1- انتهاء العزلة السياسية

تحقق اعتراف عملي بالحكومة الانتقالية، مع عودة العلاقات الرسمية وتكثيف الزيارات السياسية.

2- تفكك جزئي للعزلة الاقتصادية

رُفعت معظم العقوبات، رغم بقاء قيود تصنيف “الدولة الراعية للإرهاب”.

ولا يزال الانفتاح الغربي مشروطًا بالشمولية، وحماية حقوق الأقليات، والحكم الرشيد.

3- انتهاء فعلي للعزلة الدبلوماسية

شهدت سوريا تعاملًا مباشرًا مع واشنطن وأوروبا والأمم المتحدة، تُوّج بأول زيارة لرئيس سوري إلى البيت الأبيض في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، تلتها زيارة غير مسبوقة لوفد من مجلس الأمن الدولي—في إشارة واضحة إلى عودة سوريا إلى الخارطة الدولية.

4- علاوة المخاطر (Risk Premium)

هذه الفجوة بين الاعتراف السياسي والاندماج الاقتصادي تُترجم عمليًا بما يُعرف في الأسواق بـ علاوة المخاطر، والتي يمكن تسميتها هنا «ضريبة الخوف من المجهول». فهي لا تُفرض بقرار سياسي، بل تُحتسب تلقائيًا في كل عقد، وكل تمويل، وكل بوليصة تأمين، وكل تحويل مصرفي. وكلما طال أمد الغموض وغياب قابلية التنبؤ، ارتفعت هذه الضريبة، وانخفضت الجدوى الاقتصادية، مهما كانت النوايا السياسية إيجابية.

تحدي البنى الأمنية المنفصلة داخل الدولة

لا توجد دولة ذات سيادة مستقرة تقوم على أقاليم أو كانتونات تمتلك قوى عسكرية مستقلة عن السلطة المركزية. فوجود قوى مسلحة موازية يبقي الدولة في حالة هشاشة دائمة، ويحوّل أي خلاف سياسي أو دستوري إلى خطر أمني محتمل. وينطبق هذا التحدي على مناطق لا تزال تحتفظ بترتيبات أمنية منفصلة، سواء في الشمال الشرقي حيث قوات سوريا الديمقراطية (SDF)، أو في الجنوب كما هو الحال في السويداء. الاستقرار طويل الأمد يفترض إطارًا أمنيًا موحّدًا يخضع لسلطة مدنية واحدة، بوصفه قاعدة سيادية لا شعارًا سياسيًا.

الأمن ومكافحة الإرهاب: بوابة الشرعية الدولية

شكّل ملف مكافحة تنظيم داعش عنصرًا أساسيًا في إعادة التموضع الدولي لسوريا.

وقد جرى تعاون مع التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، في ظل وجود عسكري أمريكي محدود، ومع توجه لتقليص البصمة العسكرية—في إطار علاقة براغماتية مشروطة تهدف إلى منع عودة الفوضى العابرة للحدود.

إعادة التموضع الجيوسياسي

بعد الأسد، أعادت سوريا التوازن في علاقاتها الخارجية.

لم تعد العلاقة مع إيران علاقة ارتهان أمني، ولم تعد العلاقة مع روسيا علاقة “إنقاذ نظام”. ومع الولايات المتحدة، انتقلت العلاقة من العداء المطلق إلى براغماتية قائمة على المصالح المتقاطعة.

هذا التوازن لا يعني سيادة مكتملة، لكنه يعني استعادة هامش القرار الوطني.

الخلاصة

إنجاز ما بعد التحرير لا يكمن فقط في إسقاط نظام، بل في إعادة سوريا إلى التاريخ السياسي والاقتصادي للعالم.

لقد فُتح الباب، لكن العبور لم يكتمل بعد.

ما سيحدد النجاح في المرحلة المقبلة ليس خطاب النصر، بل القدرة على خفض ضريبة الخوف من المجهول—أي خفض علاوة المخاطر—لأنها وحدها ما يحوّل الاعتراف السياسي إلى اندماج اقتصادي، والانفتاح المشروط إلى دولة استقرت فعليًا في العالم.
----------
ولاية بنسلفينيا – ورقة استراتيجية
البيت الابيض بالعربي