أكثر من 270 عائلة يقبع أفرادها بين جدران وأسقف هشة بُنيت سابقاً كسكن مؤقت لعمّال بناء أجانب، لم يستطع بعضها الصمود في وجه قصف الأمطار والرياح الشديدة التي شهدها الغرب الليبي هذه الأيام، تكاد الأيدي تتجمد من البرد عند الدخول لإحدى الغرف والأزِقة الضيقة المكتظّة بعوائل وأطفال نزحوا هرباً من مدينتهم إبان أحداث الثورة في ليبيا التي أدت بعد سقوط النظام السابق فيها إلى نشوب نزاعات عديدة بين مدن وقبائل متجاورة، أغلبها غرب البلاد، ومن ضمنها مدينتي "مصراته" و"تاورغاء" الواقعتان على بعد نحو 250 كيلومترا شرق طرابلس. وأدّى النزاع المسلّح حينها إلى نزوح كل سكّان تاورغاء وتوزيع أكثر من 25 ألف نازح على مخيمات في مدن طرابلس، وبنغازي، وبني وليد، وترهونة، واجدابيا ومناطق أخرى متفرقة. وفي مفارقةٍ عجيبة تظهر وراء المخيم المتهالك عمارات شاهقة وحديثة قيد الإنهاء توقّف العمل فيها بعد تلك الأحداث، لتبقى الشقق العصرية البديلة عن الشقاء فارغة، وتزيد الغرف الضيقة المرتصّة في المخيم نازحاً جديداً مع كل طفل يولد.
حذائي المُبتل يؤلمني
"يتسللُ البردُ إلى عظامي عبر حذائي الذي يبتلُ في البيت، ويزيد بللاً مع ملابسي في المدرسة، لقد سئمنا واكتفينا من كل سقمٍ وفاقة ولا نريد المزيد مع استمرار الإقامة في المخيم، صحيح أن ذاكرتي لا تحتضن الكثير عن مدينتي التي استقيت جل تفاصيلها من حديث من شهد العيش فيها واعياً، لقد مرّت سبع سنين قبل أن أخرج منها صغيرة، ولكني ببساطة أريد العودة إلي هناك"، هذا ما تقوله وملامح الإصرار تعلو وجهها الأسمر المُنْهَك، "سُلَيمة" إحدى المتفوقات في مدرسة المخيم التي أُغلِقت مؤقتاً بسبب احتلال المياه لها، مدرسة صغيرة ووحيدة لأطفال المخيم، تُعَدُّ فصول قِسْميها الابتدائي والإعدادي على الأصابع، وتفصلهما باحة ضيّقة لا تتّسع لملعب كرة طائرة.
أين أخدوا ولدي
غير بعيد عن المدرسة وداخل غرفة زادَها بردُ الجدران قتامةً، تتساءل "أم ونيس" عن مصير ابنها الذي أُخْطِرت بموته خلال اجتياح تاورغاء قبل تلك السبع العِجاف، ولم يجلب لها أحد ما يثبت ذلك حتى الآن.
استبشرت العجوز السبعينية الصابرة مع أبنائها وأحفادها بوصول صوت أنّاتها للآذانِ حين رأت كاميرا وكالة الأنباء الألمانية (د. ب. أ)، وقالت "لا أريد من الدنيا سوى شيئين، أن أعرف مصير ابني الذي لم أرى طلّته، ولم يُحضر أحد جثّته أو شهادةً وفاته، وأن أعود لتاورغاء، حتى لو احتميت واستظللت بشجرة زيتون واحدة تبقّت لنا هناك".
وأجهشت قائلة، "إبني "ونيس" لم يك جندياً مع القذافي لكي يُسجن أو يُقتل، ومع كل محاولاتنا لم نتأكّد من مصيره بعد، ظننته لاحقاً بنا حين هربنا من جحيم الحرب كما فعل الجميع، لا زال غائباً ولا زلت أعاني غصتين في قلبي، غصة المفقود الذي لا أدري أفوق الأرض يُعاني الأسر، أم تحتها يقبع جثمانه، وغصة موطن افتقدناه ولا أدري إن كان في العمر بقية لأشهد عودة إلى أحضانه".
غَرَقَ العش وتَأجَّل الزواج
في طرف المخيم يجلس "أكرم "، حائراً أمام عشٍ كان يجهزّه للزواج، اخترقت المياه سقفه الهش المصنوع مما وَجَدَ من صفيحٍ مهترئٍ وقماش، و عبرت القطرات جدرانه المخلخلة منسلّة عبر الطوب لتشكل واحة تُنذر بعدم ملائمة البيت للإقامة، وحاجته للترميم قبل فرحة الانتهاء من بنائه وتلاقي الأحبة في أركانه.
وبِحُرقة في الصوت، يقول الشاب الثلاثيني: " ننتظر أنا وخطيبتي هذا البيت منذ ثلاث سنين، وبسبب الأمطار، سيستغرق إنهاؤه وقتاً سأهدره، ومالاً لا أملكه، أنا عسكريٌ وأقوم بوظائف أخرى لأعيل أبويّ وإخوتي الستّة المقيمين في غرفة أخرى بالمخيم، كل ما أردته ومن اختارتني رفيقاً هو بعض الاستقلالية، وحياة زوجية حتى داخل منزل لم نكن نراه سابقاً يليق بالأغنام فما بالك بالبشر، ومع هذا فقد رضينا به قبل أن يغرق، والظروف أتت بأحكامٍ قاسيةٍ كعادتها طيلة السنين السبع.
غيض من فيض
هذا غيض من فيض ما يُعاني منه آلاف النازحين من مدينة تاورغاء، مأساة مستمرة تطرأ على أذهان الليبيين، وجرح نازف يقض المضاجع عند الحديث عن لم الشمل والمصالحة الشاملة في ليبيا، فبعد عودة أغلب نازحي مناطق "المشاشية" و"ككلة" و"الزنتان" و"ورشفّانه" إلى بيوتهم، استعصى حل قضية نازحي "تاورغاء" على كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
أحد أبناء تاورغاء المسؤولين عن ملف العودة "محمد رضوان" يقول لـ (د. ب.أ) " لقد تحاورنا طويلاً مع الأطراف المناظرة التي تم تخويلها بملف العودة من مدينة مصراته ووصلنا معهم أخيراً إلى اتفاق يُفضي على علاّته إلى العودة وتعويض الطرفين، ولكن أطرافاً أخرى "لم تشترك في الحوار ولم يسمّها" تقف حائلاً دون التطبيق"، أطراف أكّد أنها من مصراته أيضاً ولكن مصلحتها ليست في الوصول إلى حل وإنهاء أزمة نازحين تفصلهم أيام قليلة فقط عن إنهاء عامهم السابع من التشرّد والغربة داخل الوطن وبين الأهل".
حذائي المُبتل يؤلمني
"يتسللُ البردُ إلى عظامي عبر حذائي الذي يبتلُ في البيت، ويزيد بللاً مع ملابسي في المدرسة، لقد سئمنا واكتفينا من كل سقمٍ وفاقة ولا نريد المزيد مع استمرار الإقامة في المخيم، صحيح أن ذاكرتي لا تحتضن الكثير عن مدينتي التي استقيت جل تفاصيلها من حديث من شهد العيش فيها واعياً، لقد مرّت سبع سنين قبل أن أخرج منها صغيرة، ولكني ببساطة أريد العودة إلي هناك"، هذا ما تقوله وملامح الإصرار تعلو وجهها الأسمر المُنْهَك، "سُلَيمة" إحدى المتفوقات في مدرسة المخيم التي أُغلِقت مؤقتاً بسبب احتلال المياه لها، مدرسة صغيرة ووحيدة لأطفال المخيم، تُعَدُّ فصول قِسْميها الابتدائي والإعدادي على الأصابع، وتفصلهما باحة ضيّقة لا تتّسع لملعب كرة طائرة.
أين أخدوا ولدي
غير بعيد عن المدرسة وداخل غرفة زادَها بردُ الجدران قتامةً، تتساءل "أم ونيس" عن مصير ابنها الذي أُخْطِرت بموته خلال اجتياح تاورغاء قبل تلك السبع العِجاف، ولم يجلب لها أحد ما يثبت ذلك حتى الآن.
استبشرت العجوز السبعينية الصابرة مع أبنائها وأحفادها بوصول صوت أنّاتها للآذانِ حين رأت كاميرا وكالة الأنباء الألمانية (د. ب. أ)، وقالت "لا أريد من الدنيا سوى شيئين، أن أعرف مصير ابني الذي لم أرى طلّته، ولم يُحضر أحد جثّته أو شهادةً وفاته، وأن أعود لتاورغاء، حتى لو احتميت واستظللت بشجرة زيتون واحدة تبقّت لنا هناك".
وأجهشت قائلة، "إبني "ونيس" لم يك جندياً مع القذافي لكي يُسجن أو يُقتل، ومع كل محاولاتنا لم نتأكّد من مصيره بعد، ظننته لاحقاً بنا حين هربنا من جحيم الحرب كما فعل الجميع، لا زال غائباً ولا زلت أعاني غصتين في قلبي، غصة المفقود الذي لا أدري أفوق الأرض يُعاني الأسر، أم تحتها يقبع جثمانه، وغصة موطن افتقدناه ولا أدري إن كان في العمر بقية لأشهد عودة إلى أحضانه".
غَرَقَ العش وتَأجَّل الزواج
في طرف المخيم يجلس "أكرم "، حائراً أمام عشٍ كان يجهزّه للزواج، اخترقت المياه سقفه الهش المصنوع مما وَجَدَ من صفيحٍ مهترئٍ وقماش، و عبرت القطرات جدرانه المخلخلة منسلّة عبر الطوب لتشكل واحة تُنذر بعدم ملائمة البيت للإقامة، وحاجته للترميم قبل فرحة الانتهاء من بنائه وتلاقي الأحبة في أركانه.
وبِحُرقة في الصوت، يقول الشاب الثلاثيني: " ننتظر أنا وخطيبتي هذا البيت منذ ثلاث سنين، وبسبب الأمطار، سيستغرق إنهاؤه وقتاً سأهدره، ومالاً لا أملكه، أنا عسكريٌ وأقوم بوظائف أخرى لأعيل أبويّ وإخوتي الستّة المقيمين في غرفة أخرى بالمخيم، كل ما أردته ومن اختارتني رفيقاً هو بعض الاستقلالية، وحياة زوجية حتى داخل منزل لم نكن نراه سابقاً يليق بالأغنام فما بالك بالبشر، ومع هذا فقد رضينا به قبل أن يغرق، والظروف أتت بأحكامٍ قاسيةٍ كعادتها طيلة السنين السبع.
غيض من فيض
هذا غيض من فيض ما يُعاني منه آلاف النازحين من مدينة تاورغاء، مأساة مستمرة تطرأ على أذهان الليبيين، وجرح نازف يقض المضاجع عند الحديث عن لم الشمل والمصالحة الشاملة في ليبيا، فبعد عودة أغلب نازحي مناطق "المشاشية" و"ككلة" و"الزنتان" و"ورشفّانه" إلى بيوتهم، استعصى حل قضية نازحي "تاورغاء" على كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة.
أحد أبناء تاورغاء المسؤولين عن ملف العودة "محمد رضوان" يقول لـ (د. ب.أ) " لقد تحاورنا طويلاً مع الأطراف المناظرة التي تم تخويلها بملف العودة من مدينة مصراته ووصلنا معهم أخيراً إلى اتفاق يُفضي على علاّته إلى العودة وتعويض الطرفين، ولكن أطرافاً أخرى "لم تشترك في الحوار ولم يسمّها" تقف حائلاً دون التطبيق"، أطراف أكّد أنها من مصراته أيضاً ولكن مصلحتها ليست في الوصول إلى حل وإنهاء أزمة نازحين تفصلهم أيام قليلة فقط عن إنهاء عامهم السابع من التشرّد والغربة داخل الوطن وبين الأهل".