لاحقاً، قدّم الإيرانيون وحزب الله سردية أخرى، بدأت بـ”الدفاع عن المقامات”، ثم تحولت سريعاً إلى خطاب “مكافحة التكفيريين” وحماية “محور المقاومة”. وظلت هذه السرديات المتقابلة جزءاً أساسياً من الصراع على الشرعية طوال سنوات الحرب.
انتهت الحرب، وسقط النظام بعملية ردع العدوان ( 27 تشرين الثاني– 8 كانون الأول 2024). كانت عملية خاطفة أحدثت وقع الصدمة على الجميع. ففي أحد عشر يوماً فقط تحقق ما بدا مستحيلاً لسنوات طويلة: خروج الإيرانيين، انهيار منظومة الكبتاغون، توقف القصف، إطلاق سراح المعتقلين، وبدء عودة اللاجئين، وانفتاح البلاد على أفق جديد، وكنت قد نشرت في مثل هذه الأيام من العام الماضي مقالاً بعنوان “قطار الشرع السريع: ارتدادات إقليمية للحدث السوري”، شرحت فيه النتائج المباشرة.
غير أنه مع توالي الأحداث بدأت تعلو أصوات تشكك بأن ما حدث كان جهداً سورياً فما حدث كان ضخماً للغاية، وهو يسمح بالفعل لظهور نظرية المؤامرة التي تريح من التفكير، وبدأت تظهر سردية جديدة بعد الحرب تقول إن ما حدث لم يكن نتاج فعل سوري خالص، إنما كان نتاج توافق دولي (مؤامرة) ومجرد تسليم واستلام، وتجد في بعض الأحداث ما يمكن استخدامه لتدعيمها، الانسحابات السريعة لجيش النظام، لقاءات سابقة مع مسؤولين غربيين، علاقات مع دول، وأخيراً السلاح الذي امتلكته هيئة تحرير الشام وتطوير القدرات العسكرية والاستخباراتية الذي نجحت به.
يلتقط أصحاب هذه السردية أخباراً متناثرة وإشارات قابلة لتفسيرات متعددة وتوجيهها لتكون دليلاً على المؤامرة. غير أن هذه السردية تعاني ضعفاً واضحاً في التماسك. فهي لا تنسجم مع السياق الإقليمي، ولا مع مجريات الأحداث الميدانية، ولا مع طبيعة ردود الفعل الدولية، ولا حتى مع سلوك العدو الإسرائيلي. ومع ذلك، تبقى سردية “مريحة” لخصوم الحكم الجديد، لأنها تهدف أساساً إلى نزع الشرعية الثورية عن الحدث، أو على الأقل إضعافها. وهي، للمفارقة، تعترف ضمناً بعظمة ما جرى، لكنها تنكر في الوقت نفسه قدرة السوريين على إنجازه.
هذه الظاهرة ليست جديدة. فعندما أُعلن عن تأسيس المجلس الوطني السوري في تشرين الأول/أكتوبر 2011، كنت جزءاً من هذا المسار وأعرف تفاصيله الدقيقة. ومع ذلك، سمعت لاحقاً روايات عديدة عن تأسيس المجلس لا تمت إلى الواقع بصلة. هذا مجرد مثال على كيف تتشكل سرديات ما بعد الحدث، حتى بوجود الشهود وصانعي القرار.
فقد قدمت بالفعل رواية معقولة على ألسنة المشاركين فيها. غير أن هذه الأعمال، رغم أهميتها، تظل ناقصة: فهي لا تقدم الصورة الكاملة، ولا تتعامل بشكل منهجي مع تفكيك سرديات الخصوم، ولا تعالج المناطق الرمادية التي تسمح بالتشكيك في الرواية، صحيح أن وجود الشهود يمنح الأحداث حرارة اللحظة ويردم الفجوة الزمنية بين المشاهد ولحظة حدوثها، ولكنها هذا لا يكفي لحسم السردية.
صحيح أن الأفلام الوثائقية هي أسهل طريقة للوصول إلى أوسع جمهور ممكن، لكن يجب ألا تكون هي الأداة الوحيدة، ففي سنة 1870 إبان الثورة الفرنسية، تأسس أول أرشيف وطني في الدولة الحديثة، كان يهدف إلى حفظ وثائق الدولة، ولجمع وصيانة القوانين والقرارات والوثائق الصادرة عن السلطات الثورية، وضمان الشفافية بتمكين المواطنين من الاطلاع على الوثائق العامة، وحماية الذاكرة الوطنية أي حماية أرشيف النظام الجديد ومنع ضياعه أو التلاعب به بعد سقوط النظام الملكي.
واليوم تحتاج الدولة إلى مؤسسة مستقلة ذات مصداقية لعمل مثل هذا الأرشيف الوطني، هذا يجب أن يكون عملاً وطنياً مستقلاً للدولة وليس للسلطات في مركز الحكم، ليكون بالإمكان توريثه لأجيال كأساس للدولة.
هناك حاجة ماسة إلى كتابة بحثية جادة، تفسّر ما جرى بلغة عقلانية، بعيداً عن الأسطرة والمبالغة. فتصوير الأحداث كخوارق أو كتحقق مسبق لمخططات كبرى لا يخدم السردية، بل يقوّضها من الداخل. الواقعية، والدقة، والاعتراف بالحدود والالتباسات، هي ما يمنح الرواية قوتها. لهذا، يجب أن تُكتب سردية معركة ردع العدوان بأقلام باحثين مستقلين ومتعددي الاختصاص. فشهادات الفاعلين وثائق مهمة، لكن دور الباحث والمؤرخ هو وضعها في سياق تفسيري متماسك.
وحتى لو قُدمت هذه السردية في نسخة مختصرة موجهة للقارئ العام، فإن وجودها ضرورة سياسية وأخلاقية. فلا يمكن مواجهة الروايات المضادة إلا برواية الحقيقة كما هي: بلا تهويل، وبلا إنكار، وبإضاءة صادقة على كل ما هو واضح، وكل ما هو قابل للتأويل.
الآن ربحنا المعركة مع النظام، ويحب ألا نخسر السردية، فقد بدأ فصل جديد من معركة السردية، ويتعيّن خوضها بوعي ومسؤولية، حفاظاً على تاريخ هذا البلد، ومن أجل بناء أمة حديثة. فالتاريخ ليس مجرد تسجيل للوقائع، بل عنصر رمزي أساسي في تشكّل الدول الناشئة وصياغة هويتها الوطنية الجامعة. يجب إطلاق مؤسسة وطنية بحثية مستقلة، متخصصة في أرشفة سنوات الثورة السورية وتأريخها في أقرب وقت ممكن، لصياغة سردية علمية للثورة السورية حتى إسقاط نظام الأسد.
-----------
الثورة السورية


الصفحات
سياسة








