قد نُتهم في هذا المقال بالمبالغة والإفراط بتقدير الموقف، مع كل هذا الكم الهائل من الميليشيات الطائفية التي ترعاها طهران على طول خط سكة حديد طهران – بغداد – دمشق، لكن الحقائق التي سنوردها تقول إن ما يمكن تحقيقه في ساحة الميدان العسكري لا ينبغي أن ينعكس بالضرورة على ساحات التعاون الاقتصادي.
تصريحات إيرانية عفا عليها الزمن
قبل أن نشير إلى تصريحات جديدة صدرت عن وزير التنمية والطرق الإيراني، رستم قاسمي، ولاقت صدى كبيرًا في وسائل الإعلام السورية المتوجسة من اكتمال مشروع القناة الإيرانية الجافة، ينبغي أن نشير إلى أن هذه التصريحات الحديثة سبقتها تعليقات لمسؤولين إيرانيين سابقين تَعِدُ بمدّ خط سكة حديد طهران – دمشق، دون أن نجد انعكاس لهذه الجهود الدبلوماسية على أرض الواقع. وفي الحقيقة، تتميز سكة حديد شلمجه – البصرة، أحد أهم الحلقات المفقودة داخل كريدور غرب آسيا، بأنها أول سكة حديد في العالم يزيد عمر أماني ربطها (44 عامًا) على طولها البالغ 32 كيلومترًا فقط.
ويعود تاريخ أول اتفاق موقع بين الجانبين العراقي والإيراني لربطها لعام 1977، عندما وقّع برلمانا البلدين مذكرة تفاهم ذهبت مضامينها أدراج الرياح، بعد اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، وبقيت قيد الكتمان والنسيان لسنوات حتى عام 2003، لتعود فكرة وصل الشبكة السككية للبلدين، وتطرح على الطاولة مرة أخرى.
ونصّت الاتفاقات الأولية بين المسؤولين السياسيين ومسؤولي وزارتي الطرق في كلا البلدين على تكفّل إيران ببناء جسر متحرك على طول نهر أروند (شط العرب) بطول 700 متر، وفي المقابل، يتكفل العراق ببناء سكة الحديد المفقودة بين النقطة الحدودية صفر إلى مدينة البصرة العراقية بطول 32 كيلومترًا.
ويشير الاجتماع المؤرخ في 31 كانون الأول/ ديسمبر 2014 بين وزير النقل العراقي، باقر جابر الزبيدي، ووزير الطرق الإيراني في ذلك الوقت، إلى نفس الاتفاق وأهميته ومزاياه الاقتصادية. وفي ذلك المنحى، شدد عباس آخوندي، وزير التنمية والطرق الإيراني السابق بتاريخ 13 نيسان/ أبريل 2015، خلال سفره إلى العراق ولقائه مع نظيره العراقي، على ضرورة التسريع بتنفيذ هذا المشروع، وبناء هذه القطعة المفقودة من سكة الحديد التي ستصل طهران بالأردن وسواحل المتوسط، مطلقًا الوعود بالانتهاء من تنفيذ هذا المشروع خلال عام واحد.
وبعد ذلك بأربع سنوات، بتاريخ 6 نيسان/ أبريل 2019، يشير الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، خلال مراسم استقباله رئيس الجمهورية العراقي، إلى عزم وإرادة البلدين لإيجاد ممر بري يربط إيران مع العراق عن طريق سكة حديد شلمجة – البصرة، معربًا عن تمنياته بإحداث هذا الخط بأسرع وقت. وأخيرًا، في 26 كانون الأول/ ديسمبر 2021، أعلن وزير الطرق والتنمية الحضرية الحالي، رستم قاسمي، خلال زيارته الأخيرة للعراق، توقيعه مشروع مد سكة الحديد المذكورة، موضحًا أنه تم وضع جدول زمني محدد، لبدء التشغيل التنفيذي لهذا المشروع خلال الشهر المقبل.
وفي الحقيقة، هناك إصرار وإقبال شديد لدى الجانب الإيراني، لا ترى أي من ملامحه لدى الجانب العراقي الذي تصفه المواقع الإيرانية بالطرف المتذرع بأعذار واهية ويضع العصي في العجلات، لمد سكة حديد شلمجه – البصرة. على سبيل المثال، يشير تقرير نشر حديثًا لموقع ميزان الإيراني، إلى تخصيص مبلغ قدره 400 مليار تومان لبناء جسر للسكك الحديدية على شط العرب، في منطقة يصل عرض هذا النهر فيها إلى 700 متر في ميزانية عام 2017، لكن، بحسب التقرير، تم إرجاع هذا المبلغ بسبب عدم وجود تنسيق مع الجانب العراقي. باختصار: بقيت مذاكرات الجانبين والاتفاقيات السابقة الموقعة داخل أدراج المكاتب لا ترى النور، ولم يتجاوز المشروع حدّ التصريحات الكلامية من دون أي خطوة عملية.
شركات إيرانية متعاقبة على مقاولة المشروع غير المكتمل
في أحدث تقرير نشره موقع (تين نيوز) الإيراني حول الموضوع نفسه، في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، ذكر الموقع أن مؤسسة (مستضعفان) كانت أول شركة إيرانية يتم انتخابها للاستثمار ومقاولة مشروع سكة الحديد. ومع ذلك، بحسب التقرير السابق، كان الجانب العراقي مترددًا في الدخول في اتفاقية استثمار مع مؤسسات حكومية إيرانية، وتوقفت العملية نتيجة لذلك.
بعد ذلك، دخلت شركة (جنرال مكانيك)، إحدى الشركات العمرانية التابعة لمؤسسة (مستضعفان) في المفاوضات، لكن الرد جاء مجددًا من الجانب العراقي، الذي رفض مرة أخرى دخول إحدى الشركات التابعة لمؤسسة (مستضعفان). وفيما بعد، سعت شركة (راهياب ملل) للحصول على مقاولة المشروع، لكن لم تتمكن هذه الشركة من توفير إجمالي رأس المال المطلوب للمشروع، والذي كان يقدر في ذلك الوقت بـ 600 مليار تومان، وتكاليف عرضية بنحو 1000 مليار تومان.
وفي نهاية المطاف، تم اختيار شركة (آفريان فدك) كمستثمر لمشروع سكة حديد شلمجه – البصرة، ولاقت قبولًا من الجانب العراقي. ومع ذلك، بحسب ما يشير تقرير (تين نيوز) الإيراني، ما زالت الحكومة العراقية مترددة في تخصيص الأراضي والسماح ببدء عمليات البناء، بالرغم من الزيارات الثنائية المتعددة بين مسؤولي البلدين.
وعلى الرغم من كل وعود المسؤولين العراقيين بمتابعة وتسهيل المشروع، لم تنجح عمليًا أي شركة إيرانية مقاولة في الحصول على الأراضي العراقية المخصصة لبدء ورش البناء، في حين أنه تم تسليم 40 هكتارًا من الأراضي في منطقة أروند على الجانب الإيراني إلى الشركة المقاولة لتركيب معدات البناء.
وبلغة الأرقام، جرت أكثر من 15 محادثة على مستوى رؤساء الجمهورية ورئاسة الوزراء بين الجانيين الإيراني والعراقي، لحل هذه القضية، خلال السنوات الماضية، دون أن تصل هذه المحادثات لأي نتيجة على أرض الواقع. لذلك، تبدو سكة حديد طهران – دمشق، مدفونة في رمال صحراء مهدها عند نقطة الصفر الحدودية في شلمجه الإيرانية، وبالرغم من كل محاولات المسؤولين الإيرانيين إنعاش وإحياء هذه الخطة، وترويجهم لها إعلاميًا، تصطدم دائمًا بسدود الرفض والأعذار العراقية، ليبقى السؤال الأهم لماذا؟!
نزاعات حدودية و فيتو أميركي وحقول ألغام تقف أمام بناء الحلقة المفقودة
يمكن تقييم العوائق التي تحول دون ربط سكة حديد شلمجة – البصرة، بما يتجاوز التأخير في إصدار التصاريح والموافقات والقضايا الروتينية والبيروقراطية. فبحسب بعض المصادر الإيرانية، التي لا نستطيع تأكيد صحتها أو نفيها، وجهت وزارة الخارجية العراقية ورئيس الوزراء، في عامي 2018 و 2019، رسائل سرية إلى الجهاز التنفيذي العراقي تطالبه بوقف بناء هذا المشروع.
ومن ناحية أخرى، تشير مصادر أخرى إلى أن معارضة الحكومة العراقية يعود إلى خلافاتها الحدودية مع إيران، مما دفع مؤسسات مثل وزارة الخارجية العراقية إلى إبقاء بناء هذا الخط الحديدي مشروطًا بحل الخلافات الحدودية بين البلدين، حول نهر أروند (شط العرب). حتى إن بعض المصادر تذهب إلى الحديث بأن هناك بعض المسؤولين العراقيين يعتبرون إنشاء هذا الخط مضرًا بالعراق، ويتخوفون من أن تنفيذ هذا المشروع سيفضي إلى منح خط سكة الحديد العراقية لإيران.
وتجدر الإشارة إلى أن حقول الألغام المتبقية من أيام الحرب العراقية الإيرانية تمتد ضمن منطقةٍ لا تبعد سوى 15 إلى 20 كيلومترًا عن السكة الحديدية، بحسب تقارير المواقع الإيرانية التي تقول إن عملية إزالة الألغام تستغرق وقتًا، ويجب أن يمرّ تسليم المنطقة بإجراءات خاصة، وأن يتم تناولها أيضًا في خارطة الطريق، ومباشرة بعد التوقيع. لكن النقطة المهمة، والتي يبدو أنها تشكل العائق الأساسي أمام فك طلاسم هذا المشروع وكسر قفله المسحور، هي ما تشير إليه بعض المواقع الإيرانية من وجود ما يشبه الفيتو الأميركي المانع لتنفيذ هذا المشروع.
ويعزى ذلك إلى مجموعة القضايا السياسية والأمنية والضغوطات الأميركية المباشرة التي أدت إلى فشل هذا المشروع، بحسب ما صرّح به الخبير الاقتصادي الإيراني محمد جواد شاهجويي إلى موقع ميزان الإيراني. في حين يقول موقع مهر الحكومي، في تقرير نشر له حديثًا، إن العراق لا يسمح بمرور بضائع الترانزيت من أراضيه، ويصنف كل البضائع التي تدخل البلاد على أنها بضائع مستوردة، لا يسمح بخروجها من البلاد بموجب القوانين. ويرى موقع (مهر) المقرب من مراكز صنع القرار في طهران أن العديد من هذه الإجراءات تُنفّذ تحت تأثير وضغط الولايات المتحدة في شبكة صنع القرار الحكومي العراقي، وهو ما منع تصدير البضائع الإيرانية إلى سورية على شكل ترانزيت مرورًا بالأراضي العراقية، وأعاق تنفيذ مشروع سكة حديد شلمجة – البصرة، بحسب تعبير الموقع.
عوائق أخرى على الجانب السوري يدعمها فيتو روسي
بعد سنوات من سيطرة تنظيم الدولة على المنطقة، لا تتوفر كثير من البيانات حول مدى جاهزية السكة الحديدية على الجانب العراقي الذي يصل ما بين بغداد ومعبر القائم – البوكمال الحدودي. والمعضلة الرئيسية التي تواجه تحرك قطار طهران – دمشق، على الجانب السوري، هي سكة حديد دير الزور – البوكمال، التي وُصل جزء ضئيل منها بطول 32 كيلومترًا حتى محطة الطابية، قبل أكثر من عامين، ليبقى الجزء الأكبر منها بطول 115 كيلومترًا دون أي تنفيذ حتى الآن من جانب حكومة النظام. حتى إن محطة الطابية المحدثة عام 2003، التي تنطلق منها تفريعات سككية وتعدّ نقطة وصل أساسية مع سكة حديد دير الزور – البوكمال التي تصل سورية بالعراق سككيًا، تعرّضت في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021 لسرقة شملت أجزاء كبيرة من السكك الحديدية والمعدات وقطع الإصلاح والصيانة، وسور المحطة لمسافة 3500 م، من قبل ميليشيات (قسد)، بحسب ما أعلنت عنه وزارة النقل في حكومة النظام في بيان رسمي لها. ومن المرجح جدًا، وإنْ تجاوزت إيران كل هذه العقبات الموجودة على طول هذا الخط، أن تصطدم الجهود الإيرانية بالفيتو الروسي الرافض نيّة وطموح المسؤولين الإيرانيين لمدّ خط للغاز بجوار سكة الحديد المزعومة. ولذلك، نظرًا لما قدمناه من معطيات سابقة، تبدو سكة حديد طهران – دمشق المزعومة سكة افتراضية لا تسير على السكك الحديدية والقضبان الخشبية، إنما تنسجها مخيلات المسؤولين الإيرانيين وتحبكها البروباغندا الإيرانية على أنغام ومفردات التسويف.
-----------
مركز حرمون