تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

سبع عشرة حقيبة للمنفى

27/11/2025 - خولة برغوث

في أهمّية جيفري إبستين

26/11/2025 - مضر رياض الدبس

طبالون ومكيودون وحائرون

07/11/2025 - ياسين الحاج صالح


هل تخاطر الإدارة السورية بالتحوّل إلى حكومة أقلية؟




لا يمكن لكلّ الضجيج الناشئ عن الاستقطاب "الطائفي" المُخيف الذي تعيشه سورية، أن يُخفي وراءه حقيقةَ أنه بمرور الوقت، وكلّما ابتعدنا زمنياً عن لحظة سقوط الأسد والمشاعر الاحتفالية التي رافقتها، تغيّر المزاج لدى قاعدة دعم النظام الجديد في دمشق. تحديداً السوريين العرب السُّنة، على اعتبار أن العلاقة بين السلطة الجديدة والأقليات الدينية تعرّضت، بعد أحداث الساحل والسويداء، لأضرار ليس من السهل إصلاحها. ومنذ اليوم الأول لسقوط النظام، قدّمت الإدارة الجديدة (هيئة تحرير الشام) نفسها، بحكم مرجعيتها الأيديولوجية، ممثّلاً للعرب السُّنة، "فأهدت" النصر إليهم، وصارت تعتمد في حكمها عليهم، وبدا هذا واضحاً في "الفزعات" التي أطلقتها الهيئة لمواجهة "تمرّد الجبلَيْن" (الساحل والسويداء). ما ينطبق على الأقليات الدينية، ينطبق على الأقليات الإثنية،


 

  ونقصد هنا الكرد تحديداً، الذين لا تقلّ العلاقة معهم تعقيداً، بغضّ النظر عن أن غالبيتهم من السُّنة. هكذا، ونظراً إلى غياب معيار المواطنة، ولأن السلطة الجديدة لا تنظر إلى نفسها ممثلاً لكلّ السوريين، بل تجسيداً لانتصار فئة منهم على أخرى، ولأن الأقليات الدينية والطائفية لا تعتبر نفسها، منذ البداية، معنيةً بالدولة الجديدة، حتى إن بعضها راح يستنصر بالخارج عليها، نشأ استقطاب شديد بين ما يمكن اعتباره تحالف "أقليات" في مواجهة "الأغلبية". ولم يكن هذا المسار نتاج وضع اعتمل عقوداً، وتفجّر خلال الثورة السورية فحسب، بل صار نهجاً وسياسةً أيضاً توظّفهما النُّخب، من كل الأطراف، ابتغاء مرضاة قواعدها، في أجواء شعبوية مشحونة بالكراهية، ورفض الآخر. هكذا، ولأن الأقليات خارج الحسبة، صار التحدّي الأبرز الذي يواجه حكم "الهيئة" اليوم هو كيفية الحفاظ على دعم "جماعتها" التي تُشكّل نحو 70% إلى 75% من السكّان (علماً أنه لا إحصاءات دقيقة حول توزّع السكّان في سورية بحسب الطوائف والإثنيات، وإن تتحدّث أكثر التقديرات عن 10% من العلويين، ومثلهم من الكرد، ونحو 3% من الدروز و2% من الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية، وحوالي 5% من المسيحيين). هذا يعني أن استقرار النظام الجديد يعتمد فعلياً على شدّ عصب العرب السُّنة وإبقائهم موحّدين خلفه. يُتعامَل مع هذا التحدي (غالباً)، منذ سقوط النظام السابق، عبر "استراتيجية التخويف" من عودة "حكم الأقليات"، والتأكيد على حقّ "الأغلبية" في الحكم. لكن قدرة هذه الإستراتيجية على الفعل تتآكل بمرور الوقت، خصوصاً بعد الفشل الذريع، والسريع، لتمرّد الساحل، والقدرة التي أثبتتها السلطة الجديدة في التعبئة والتحشيد خلاله، وخلال أحداث السويداء أيضاً، فضلاً عن تشكّل إجماع لدى القاعدة العريضة من العرب السُّنة على رفض العودة إلى الوراء، مهما كلّف الثمن.

فيما تحاول الإدارة السورية احتكار تمثيل العرب السُّنة، فإنها في الواقع تتعامل معهم باعتبارها جماعةً سياسيةً وأيديولوجيةً متمايزةً عنهم، ما يؤدّي إلى إقصائهم

من المهم الاستمرار في تذكير الناس، بين الفينة والأخرى، بجرائم الحقبة الأسدية وموبقاتها، كما تفعل ألمانيا تماماً تجاه الحكم النازي، لكن الغرض يجب أن يكون هنا هو منع تكرار مآسي الماضي، وليس البقاء أسرى له، ولأحقاده ومراراته. قد تنجح هذه الإستراتيجية بعض الوقت مع بعض الناس، لكنّها لا تنجح الوقت كلّه مع الناس كلّهم، وهذا ما بدأت السلطة الجديدة تستشعره في الأصوات التي أخذت تعلو من الأوساط المحسوبة عليها تطالب بتوضيح رؤيتها إلى حاضر البلد ومستقبله، بدل الاستمرار في شدّنا إلى الماضي وحبسنا فيه. هنا يجب التمييز بين مستويَيْن من المطالب، يتمثّل الأول في توقّعات قاعدة النظام الجديد من العامة، الذين ينتظرون تحسّناً ملحوظاً في حياتهم ومستوى معيشتهم، وهذا لم يحصل بعد مرور عام تقريباً على سقوط النظام، لعدم وجود ما يكفي من موارد وريوع تسمح بذلك، خصوصاً في ظلّ دمار هائل طاول البنية التحتية، والخدمات المتصلة بها، من صحّة وتعليم وكهرباء وماء ونقل وفرص عمل وغيرها، فضلاً عن استمرار جزء لا بأس به من العقوبات الأميركية، والافتقار إلى بيئة سياسية وأمنية وقانونية مشجّعة على الاستثمار، وتردّد بعض دول الخليج في تخصيص استثمارات فعلية كبرى لسورية، إمّا لعدم وجود فائض من الموارد المالية لديها، بعد أن امتصَّت إدارة ترامب أكثرها، أو بانتظار اتضاح ملامح المشهد السوري، أو لوجود أزمات أخرى يحتاج التعامل معها أيضاً إلى تمويل مثل غزّة والسودان، وغيرها. المستوى الآخر من المطالب تجسّده توقّعات النُّخب الطامحة إلى أدوار ومناصب، وتنتظر نصيبها من الغنائم. هنا أيضاً تواجه الإدارة الجديدة مشكلةً من مستويَيْن: الأول أنه، لا يوجد، في ظلّ هرمية السلطة وتركيبتها الحالية ما يكفي من مناصب لإرضاء الجميع. والثاني مرتبط بعدم ثقة السلطة بشرائح واسعة من الجمهور الذي تدّعي تمثيله (سُنَّة المدن الكبرى خصوصاً ونُخبها)، فيما تنظر إلى كلٍّ من بقي تحت سلطة النظام، أو من لا يشاركها نهجها وفكرها، بالريبة والشكّ. هذا يعني أن السلطة الجديدة، وفيما تحاول احتكار تمثيل العرب السُّنة، فإنها في الواقع تتعامل معهم باعتبارها جماعةً سياسيةً وأيديولوجيةً متمايزةً عنهم، ما يؤدّي إلى إقصائهم، فيما يجري توزيع الغنائم وفق معيار الولاء أو الطاعة.

أبرز الأصوات الناقدة لسياسات الإدارة الجديدة ونهجها تصدر اليوم عن الوسط العربي السنّي

هذا يعني أن التحدّي الأكبر الذي يواجه إدارة الشرع، خلال المرحلة المقبلة، لن يأتي، خلاف المُتوقَّع، من الأقليات الذين يجري التركيز عليها، باعتبارهم الخصم المتربّص بالنظام الجديد، بل من القاعدة العربية السُّنية الأوسع التي أخذت نُخبُها تتململ من الارتجالية في إدارة شؤون الدولة، ومن تهميش شرائح واسعة منها، ومن محاولة فرض لونٍ سياسيٍّ معيّن في الفضاء العام، فيما يئنُّ الشارع تحت وطأة السياسات الاقتصادية المتبعة، ويشكو من عجز الحكم الجديد عن ترجمة الوعود والاحتفاليات سياساتٍ تُسهم في تحسين الأحوال المعيشية، وإعادة الإعمار. أيديولوجياً، تأتي التحدّيات للسلطة الجديدة من مختلف ألوان الطيف السُنّي المتنوّع، بدءاً بالمتشدّدين الذين يقفون في يمين هيئة تحرير الشام، وينتقدون ما يعدّونه "تفريطاً" منها، خصوصاً الآن بعد أن انتظمت في الصفّ الأميركي، وانضمّت إلى "التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب"، مروراً بالتيار الديني التقليدي (الأشعري) المسيطر في المدن الكبرى، إلى الإسلاميين الليبراليين، وصولاً إلى اليسار الإسلامي، الذي يتوجّس من توجّهات السلطة الاقتصادية، ويراقب بقلق تشكّل طبقة من الأوليغارك الجدد (رأسمالية المحاسيب) حولها. ستنازع هذه التياراتُ هيئةَ تحرير الشام على قاعدة دعمها الفكرية والأيديولوجية، وستستفيد من أخطائها في استقطاب جزء لا بأس به من جمهورها. وقد بدأت "الهيئة" تستشعر ذلك، وعبّرت عن مخاوفها بهذا الشأن في مناسبتَيْن: الأولى، عندما طلبت مباشرةً من أحد أبرز منافسيها (جماعة الإخوان المسلمين) حلّ نفسها، والثانية، عندما تسرّبت أنباء عن توجّه "الهيئة" نفسها إلى إنشاء تنظيم سياسي (حزب) يعينها في توسيع قاعدتها (السلفية)، الضيّقة أصلاً في الشارع السوري.

 إذا استمرّت هيئة تحرير الشام في استثمار التوتّرات الطائفية، فقد تدفع باتجاه نشوء تحالف عابر للطوائف في مواجهتها

بسبب سياساتها الاستحواذية وانغلاقها الأيديولوجي، والاستمرار في سلوكها مسلك التنظيم السرّي، والتركيز في إرضاء الخارج في مقابل إهمال الداخل، وفشل التواصل معه، تخاطر السلطة الجديدة بخسارة جزء كبير من القاعدة العربية السُّنية، والتحوّل هي نفسها أقليةً، خصوصاً في ضوء تفاقم الانقسام داخل "المعسكر الإسلامي" نفسه، الذي عبّرت عنه "وثيقة العيش المشترك"، التي أصدرتها جماعة الإخوان المسلمين، في ردّ واضح على مطلب حلّ نفسها. هذا يعني أن ديناميات الانقسام والتشظّي في سورية مستمرّة ومتحرّكة، وتأخذ أشكالاً واصطفافات جديدة، وأن النظر إليها باعتبارها انقساماً عمودياً بين أغلبية عربية سُنّية وتحالف أقليات هو تبسيط شديد للمشهد السوري، خصوصاً بعد أن صارت أبرز الأصوات الناقدة لسياسات الإدارة الجديدة، ونهجها، تصدر اليوم عن الوسط العربي السنّي. هذا يعني أننا نتجه نحو كسر محاولات احتكار تمثيل هيئة تحرير الشام، وتحالفها الحاكم، للعرب السُّنة، فالانقسام السوري لم يعد، كما يحلو لبعضهم تصويره، انقساماً بين الطوائف، بل هو انقسام داخلها أيضاً، وعابر لها. ويُرجَّح أن تلعب العوامل الطبقية والمناطقية والقبلية والأيديولوجية، فضلاً عن الانقسام التاريخي بين الريف والمدينة، والمركز والأطراف، دوراً رئيساً في تحديد شكل التحالفات التي ستنشأ في الساحة السياسية السورية في المرحلة المقبلة.

إذا استمرّت إدارة هيئة تحرير الشام في قراءة المشهد السوري بالطريقة عينها، الاستثمار في التوتّرات الطائفية، والتعامل مع السوريين العرب السُّنة باعتبارهم معطىً ثابتاً يقف بكلّيته خلفها، على قاعدة الفرز الطائفي التي تحبّذها، فقد تدفع، من حيث لا تدري، باتجاه نشوء تحالف واسع عابر للطوائف والإثنيات في مواجهتها، وتكون بذلك قد نجحت في توحيد السوريين ضدّها، بعد أن أضاعت فرصةَ توحيدهم خلفها لحظة سقوط نظام الأسد. ما زال هناك بقية من أملٍ في أن تراجع إدارة الشرع سياساتها، وتقود هي نفسها البلاد نحو التوافقات الوطنية الجامعة التي تحتاجها للخروج بسلام من أزمتها الراهنة. خلاف ذلك يعني أن إدارة الشرع تخاطر بخسارة دعم القاعدة العربية السُّنية، بعد أن خسرت معركة احتكار تمثيلها، ما يدخل البلد في أتون متوالية من الانقسامات والتشظّي، لا تبقي منها شيئاً، ولا تذر.
---------
العربي الجديد


مروان قبلان
السبت 6 ديسمبر 2025