نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

( في نقد السّياسة )

05/05/2024 - عبد الاله بلقزيز*

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي


هل مات أبو عبدو الجحش حقاً؟






“لقد مات أبو عبدو الجحش حقاً”

عبارة ملهمة موحية، قرأتها في إحدى التعليقات العابرة على بوست لأحد الأصدقاء على الفيسبوك.. فتحت في ذاكرتي تاريخاً ممتداّ، سبرت مجاهيله لشهور عديدة وأنا أعمل على مشروع (موسوعة سورية السياسة) المصورة لصالح تلفزيون الأورينت…تاريخ يستحق أن يكون فيه الرئيس الراحل أمين الحافظ الذي حمل هذا اللقب، أمثولة ورمزاً، وليس مجرد رئيس جمهورية من الرؤوساء الذين تعاقبوا على الحكم في الفترة الممتدة ما بين انقلابي حزب البعث 1963 وحافظ الأسد 1970، الأكثر أذى وتدميراَ وكارثية في التاريخ السوري


 .

ثمة رواية شفهية منقولة عن الشيخ (حسن حبنكّة) ابن حي الميدان الدمشقي، تقول أن الشيخ الذي قاد حملة لاحقاً ضد دستور حافظ الأسد عام 1973، قال على منبر أحد المساجد في فترة حكم أمين الحافظ:

” الحمد لله الذي أعز العلويين بصلاح جديد وحافظ الأسد، والاسماعيليين بعبد الكريم الجندي، والدورز بسليم حاطوم، وأذل السنة بأمين الحافظ”

كانت دمشق في تلك الفترة 1965 تعاني من مفاعيل اقتحام دبابات البعث للجامع الأموي، في إضرابات قادها تجار دمشق، بسبب حملة تأميمات ظالمة طالت حتى ورش صناعية صغيرة أو متوسطة، وانتهت باعتصام داخل الجامع الأموي… لكن سلطات البعث التي كان أمين حافظ واجهتها، واللجنة العسكرية المؤلفة في بينتها الصلبة ذات المشروع الطائفي من (صلاح جديد- محمد عمران- حافظ الأسد) أرسلت دبابات البعث لتقتحم صحن الجامع، وتطلق النار على المعتصمين العزل، وتقتاد العشرات منهم إلى سجن المزة لتنفيذ حكم الإعدام فيهم.

وقبل اضطرابات دمشق عام 1965 كانت اضطرابات حماة عام 1964 ذورة أولى للصدام الشعبي مع فكر البعث الذي أراد باكراً أن يستفز الحالة الشعبية الدينية التي كانت – ما قبل انقلاب البعث- تمارس حياتها وطقوسها بعيداً عن السياسة. بدأت الاضطرابات بكتابة طالب بعثي عبارة ” لاحكم إلا للبعث” على أحد الجدران.. فرد عليه زميله بكتابة عبارة “الحكم لله” فاعتقل الطالب الأخير وعُذّب… وثارت ثائرة حماة المحافِظة عندما انتشر الخبر، وسرعان ما حشر البعثيون الإخوان المسلمين في الموضوع، معتبرين أن قوى الإقطاع والرجعية هي التي تتحالف معهم وتحركهم، وكبرت الاحتجاجات.

” وبناء على أوامر القيادة القطرية، وبقرار مباشر من أمين الحافظ رئيس الجمهورية شنت السلطة في حماة التي كان محافظها هو عبدالحليم خدام فوراً حملة قمع عنيفة واقتحمت قوات الشرطة المحال التجارية المغلقة ونهبت محتوياتها واعتقل كثر، وقصف مسجد السلطان الذي لجأ إليه المطاردون ما أدى إلى سقوط نحو 40 قتيلاً. وأصدرت محكمة عرفية شكلت برئاسة مصطفى طلاس عدة أحكام بالإعدام طال بعضها رجال دين. لكن أمين الحافظ حاول المناورة والتقى بأكبر علماء المدينة الشيخ محمد الحامد وأصدر عفواً عن جميع المحكومين القضية.

لم تدم الهدنة سوى ساعات قليلة،وعاد الاستياء إلى المدينة ووقعت اعتداءات على أفراد الحرس القومي عندما رفع منع التجول ونزل الناس إلى الأسواق والشوارع ورأوا الدمار الذي حل بالمدينة، واستفزهم خصوصا ما حدث لجامع (السلطان) الذي سقطت مئذنته بسبب قصفها بالدبابات. وأعيد العمل بقرار حظر التجول وأمرت الدبابات وناقلات الجند بالتحرك لاستئناف الحملة على المدينة..” (1)

 وتوسعت الإضطرابات لتشمل دمشق ومحافظات أخرى.. وتروي جريدة (أخبار اليوم) المصرية الصادرة بتاريخ 2/ 5/ 1964 تداعيات ما جرى بالقول:

” أعلن المحامون و الاطباء و المهندسون وسائر النقابات السورية استمرار الإضراب احتجاجاً علي حمامات الدم وأحكام الإعدام التي أصدرتها السلطات البعثية رداً على الإضراب العام في سوريا .. قام الحرس البعثي السوري بفتح المتاجر والمحلات بالقوة وحطم محتوياتها ..فأرسل أصحاب المحلات المنهوبة في دمشق شكوى إلى المسؤولين يستنكرون فيها أعمال العصابات التي لجأ إليها الحرس البعثي. وقامت في مدينة دير الزور مظاهرة صاخبة اشترك فيها العمال والطلبة للمطالبة بسقوط حكم البعث، ووقعت اشتباكات بين المتظاهرين والحرس البعثي أدت إلي إصابة عدد كبير من المواطنين. وقاطع الشعب العربي في سوريا الاحتفالات التي نظمها الحكام البعثيون بمناسبة عيد العمال، فلفق البعثيون مظاهرة من الحرس البعثي ورجال المباحث للاحتفال بالعيد”.(2)

كانت صورة أمين الحافظ في هذا كله، هي صورة رئيس الجمهورية السني المؤمن بقيم البعث والعروبة، والمدافع القوي والشرس عنها، في وجه الإقطاع والرجعية وقوى التخلف والإمبريالية، التي كان يهجوها البعث؛ قبل أن يعترف في سلسلة (شاهد على العصر) على قناة (الجزيرة) في السنوات الأخيرة من حياته، بأنه كان مخدوعاً، وأن العلويين استخدموا البعث واجهة لمشروعهم الطائفي.

يقول الكاتب السوري اللامع غسان الإمام في وصف خديعة أبي عبده:

“استعان عفلق والبيطار بأمين الحافظ لمواجهة ضباط «اللجنة العسكرية» التي قامت بانقلاب 1963، بالاشتراك مع الضباط الناصريين والمستقلين. عندما ظهرت نوازع «اللجنة» الطائفية، تم تصعيد الحافظ إلى رتبة رئيس دولة (رئيس مجلس الرئاسة). لدهشة البيطار وعفلق فقد مارس الحافظ مناورة ساذجة بين مراكز القوى. نازعَ صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران. لكن رفض طلب القيادة المدنية بتحييد اللجنة. حلها. إعادة العسكر إلى الثكنات. بل انضم إلى اللجنة! فاستخدمته في «سحق ومحق» الشارع الناصري، فيما كان صلاح جديد يغير بُنْيَة الحزب بملئه بجيل متسلل من الماركسيين والتروتسكيين”.(3)

كان غسان الإمام مهذباً حين استخدم صفتي “الماركسيين والتروتسكيين” لوصف “الجيل المتسلل” الذي ملأ به صلاح جديد الحزب، فالواقع أنه ملأه بالعلويين حصراً، أو كما قال د. سامي الجندي في كتابه المرجعي الهام (البعث) أنه: “جعل وراء الحزب حزبا للطائفة” وهي شهادة يكررها أحمد أبو صالح، القيادي البعثي السابق في سلسلة (شاهد على العصر) على قناة (الجزيرة)، حين يقول أن صلاح جديد كان يأتي بأساتذة مدرسة، أو شيوعيين، أو قوميين سوريين، ليعينهم في الجيش بدل ضباط السنة الذين كان يوقع “أبو عبده” على تسريحهم بالمئات، وأحيانا دون أن يقرأ الأسماء، وكانت السمة التي تجمع كل من كان يأتي بهم صلاح جديد هي أنهم أبناء طائفته… فقد وعى جديد – قبل حافظ الأسد- أن العلوي سيكون ولاءه للطائفة ومشروعها الاستيلائي على السلطة والدولة، وأن الانتماء السياسي سيأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة… ولذلك لم يكن منشغلاً بالتدقيق في كون هؤلاء بعثيون أم لا… وللسبب ذاته التي لم يكن منشغلاً، وهو ممسك بزمام إدارة شؤون الضباط في الجيش، بكون الضباط السنة الذين سيسرحهم بعثيون أم لا… فقد كانت تهمة التآمر على الحزب جاهزة… وإذا لم تكن بعثياً مغفلاً كأبي عبده، فستسرّح عاجلأ أما آجلأ يا رفيق!

 أعود للأستاذ غسان الإمام وأنا أحاول أن أرسم صورة قريبة لملامح السني المغّفل أمين الحافظ، علني أستطيع شرح بدقة متناهية أهمية العبارة الفيسبوكية الملهمة: “لقد مات أبو عبده الجحش حقاً”، فأقرأ عنه في مقال الأستاذ إمام:

 “كنت أراه وأتحدث إليه مع الزملاء يومياً في سراي الحكومة القديم. يخرج أبو عبده من مكتبه، بعنترية شيخ شباب الحارة (كما في مسلسل «باب الحارة» الشهير) لكن بملابس الميدان القتالية. يُرغي ويُزبد أمامنا. مهدداً الناصريين والرجعيين بالسحق والمحق، مُصْدرِا بحذائه العسكري على بلاط السراي الرخامي، صريراً مقززاً للنفس. ثم يدور حول نفسه، مُطلقا قهقهة مدوِّية من شدقِ تمساح.  ماذا عن فكر وثقافة ضابط الآيديولوجيا الذي تحول من نصير لـ«الكتلة الوطنية»، التي قادت النضال ضد الاستعمار، إلى منحاز معجب بأكرم الحوراني الذي دفعه إلى الجيش في الأربعينيات؟ الصورة «البانورامية» التي قدمتها عنه، تجسدت في الفراغ الثقافي والفكري الذي طبعه أمين الحافظ في مخيلة الملايين من جمهور التلفزيون، وهو يتحدث في التسعينات، عن نضالاته وحملته العارمة على الأسد وضباط الطائفة الحاكمة، وعن انخداعه بهم.” (4)

دفع أبو عبده  الحلبي – كما الحموي أكرم الحوراني والدمشقي صلاح الدين البيطار- ثمن خديعته بزملائه العلويين أصحاب المشروع الطائفي، نقل بعض الضباط المحسوبين على صلاح جديد وحافظ الأسد، فثارت ثائرتهم لأن “الرئيس الواجهة” أراد أن يصبح رئيساً حقيقياً.. قاموا عام 1966بانقلاب ضده أسموه “حركة 23 شباط” ، أرسلوا الدرزي سليم حاطوم ليحاصر منزله ويعتقله، وقرر حافظ الأسد ألا يرسل نجدة لسليم حاطوم كما وعده إذا قاوم أمين الحافظ أمر الاعتقال، ويذكر الوزير منصور الأطرش في كتابه  (الجيل المدان) أن الانقلابيين العلويين، كان يتمنون التخلص من الحافظ وحاطوم معاً، لأن حاطوم إذا لم ينجح باعتقال الرئيس فالانقلاب لن يفشل، لكنهم سيتخلصون من هذا الضابط الدرزي الأرعن… الذي قاد محاولة انقلاب فاشلة ضدهم بعد أشهر على انقلاب شباط 1966 وهرب إثرها إلى الأردن، بعد أن استخدمه العلويون واجهة لاقتحام المسجد الأموي، ثم لاعتقال الرئيس السني المغفل.. لكن حاطوم لم يكن أقل سذاجة من أبي عبده… فقد عاد إلى سورية بعد هزيمة حزيران عام 1967 وسلم نفسه للدفاع عن الوطن، فما كان من الرفاق العلويين إلا أن قاموا بإعدامه مكافأة على وطنيته!

كان أمين الحافظ الرئيس الوحيد الذي قاوم رفاقه الانقلابيين. فقد قاتل وقتل حرسه. وجرح هو وابنه وابنته، وعندما استسلم أُعدموا بقية حرسه وزجوه في السجن مهاناً ذليلاً حسب طقوس الانتقام العلوية، وعندما تقرر الإفراج عنه قبيل حرب 1967، أحضرت اللجنة خياطا  لخياطة ثياب مدنية له، غادر فيها إلى لبنان.. ومنها إلى العراق لاحقاً، ليعود إلى وطنه سورية بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، وليسمح له بشار الأسد بالعودة إلى مدينته حلب ليموت فيها عن 88 عاماً عام 2009 شرط ألا يدلي بأي حديث للإعلام أو يوجه أي رسالة للسوريين.

رحل أبو عبده الذي قيل أنه لم يكن يخجل من لقبه الشعبي بصمت، لكنه أضحى في ذاكرة السوريين مثالاً للسني المغفّل، الذي يظن نفسه أنه هو الفاعل وهو الزعيم، لكن الماء تجري من تحته، والبلد تسرق منه ومن الأكثرية التي هُمّشت واضطهدت في مشروع طائفي جرى العمل عليه بصبر ومكر وأناة.

لم يكن مصطفى طلاس ولا عبد الحليم خدام يشبهان أبو عبده الجحش.. كانا يدركان حجمهما في نظام يعرفان جيدان أنه علوي طائفي، ويرتضيان بالأدوار الشرفية أو  اللاشرفية التي منحها حافظ الأسد لهما في استكماله لمشهد الوحدة الوطنية.

باعتقادي بعد ما جرى في الثورة السورية خلال الأعوام الخمسة الأخيرة،  وصل السوريون إلى قناعة مفادها، أنه لن يكون هناك “أبو عبده الجحش” آخر، طال أمد الصراع أم قصر. فقد دفع السنة ثمنا باهظا ومكلفا ومريراً لأخطاء وسذاجة أمثال هؤلاء… أما العلويون فلن يكون بينهم صلاح جديد آخر أو حافظ الأسد آخر… لأن النتيجة التي دفعت نموذج بشار الأسد بقدراته العقلية المحدودة إلى السلطة، تنذر بأن المشروع الطائفي العلوي بلغ مداه وانتهى.. بفعل حماقة وإصرار الأب القائد نفسه على توريث السلطة لوريث بلا  مكر ولا مستقبل!
-------
الغراب


محمد منصور
الثلاثاء 9 غشت 2016