يعطينا روجر أوين مثالاً واضحاً على هذا، ففي العقد الثاني من حكم الرئيس المصري حسني مبارك، تعرّضت الدولة المصرية إلى حرب أمنية واقتصادية من متطرّفين إسلاميين افتقدوا إلى خطاب وطني جامع، الأمر الذي قدّم عذراً لحكم مبارك في عدم المضي بأيّ إصلاحات سياسية إضافية، وكذلك في إدارة التلاعب في الانتخابات التي جرت في التسعينيّات بوسائل أكثر صرامة ممّا حدث في الثمانينيّات. وكذلك الأمر في تطبيق مراقبة على الصحافة والأشكال الأخرى من النقد بشكل أشدّ صرامة.
تبدو المفارقة السياسية أكثر وضوحاً في مراحل الانتقال السياسي المفترض من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديمقراطي
وتبدو المفارقة السياسية أكثر وضوحاً في مراحل الانتقال السياسي المفترض من نظام ديكتاتوري إلى نظام ديمقراطي، إذ يمكن للمعارضة الداخلية أن تصبح عاملاً رئيساً في ترسيخ سلطة الحكم السلطوي الجديد، بدلاً من أن تدفعه إلى المضي نحو الديمقراطية الحقيقية، بسبب فشلها في تحقيق عاملَين أساسيَّين حدّدهما دانكوارت روستو. الأول، خطاب وطني جامع عابر للإثنيات والأديان والطوائف ينتج منه بالضرورة شعور بالوحدة الوطنية. والثاني أن ثمّة صراعاً حادّاً ومريراً بين السلطة والمعارضة، مشروط بأن تكون المعارضة من القوة الكافية لتصبح قادرة على القيام بعملية ضغط جدّية على السلطة الجديدة من أجل إجبارها على المضي في مشروع وطني ينتهي بنظام ديمقراطي حديث.
إذا ما نظرنا إلى الواقع السوري منذ سقوط نظام الأسد سنجد أن السلطة القائمة هي أقرب إلى النظام السلطوي منه إلى الديمقراطي، أو لمزيد من الدقّة العلمية إن نظام الحكم القائم حالياً في سورية سلطوي بامتياز، ويفتقر إلى مقوّمات النظام الديمقراطي الستّة التي حدّدها روبرت دال، وأصبحت إلى حد كبير معايير متّفقاً عليها بين علماء السياسة. كما سنجد أن المعارضة السورية لنظام الحكم ممثلة بالشيخ حكمت الهجري ومشايعيه، وفي "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، لعبتا دوراً مهماً (بغير قصد نتيجة الرعونة السياسية) في تقوية نظام الحكم الجديد، لأنهما فشلا في تحقيق العاملين أعلاه.
لننظر في هذين العاملين في الحالتين "الهجرية" و"القسدية"، ونلاحظ ما يأتي: فشل الهجري، من موقعه معارضاً نظام الحكم الجديد، في تحقيق العاملين اللازمين من أجل الدفع نحو الديمقراطية. فمن جهة، قدّم خطاباً لاوطنياً بامتياز، لا يقوم على فكرة انفصال السويداء جغرافياً عن سورية فحسب، بل الانضمام إلى إسرائيل، أو على الأقلّ تشكيل كيان سياسي جديد تحت الحماية الإسرائيلية. وأدّى هذا الخطاب، بطبيعة الحال، إلى نفور الشارع السوري منه بكلّ أطيافه، بما فيه جزء كبير من دروز سورية، بل امتد هذا الامتعاض إلى دروز لبنان وفلسطين. وقاد هذا الفشل على مستوى الخطاب الوطني إلى فشل آخر على صعيد القوة، إذ حال دون تمكّن الهجري من إنشاء كتلة درزية، سياسية وعسكرية، موحّدة، تشكل نواةً لكتلة عابرة للطوائف. وبناءً عليه، بدأت عملية الضمور التدريجي لتيار الهجري، فيما أخذ الرئيس السوري المؤقّت أحمد الشرع يوسّع قاعدته في الديمغرافيا الدرزية من جهة، ويوسّع تأييده الإقليمي والدولي لوحدة سورية من جهة أخرى.
في حالة "قسد"، وعلى الرغم من امتلاكها قوة عسكرية قوية بالمعايير السورية، وامتلاكها دعماً أميركياً، إلا أنها هي أيضاً ساهمت في تقوية سلطة الشرع على حساب سلطتها. والسبب فشلها أيضاً في تحقيق عاملَي الوحدة الوطنية والصراع الحادّ. ومنذ سقوط نظام الأسد وتسلّم الشرع زمام السلطة، قدّمت "قسد" خطاباً سياسياً مُبهماً غير واضح في أهدافه، فتحدثت تارّةً عن الفدرالية، وثانية عن اللامركزية، وثالثة عن تشكيل نظام سياسي جديد، وغاب التشديد على دولة المواطنة الجامعة. ما يلفت الانتباه في حالة "قسد" أن خطابها السياسي لم يكن انعكاسا لقوتها العسكرية، ففي وقت حافظت فيه على تماسكها العسكري، كان خطابها السياسي متوتراً وغامضاً، ما أفقدها القدرة على ترجمة قوتها في صيغة سياسية واضحة المعالم. ولهذا السبب، جاء اتفاق العاشر من مارس/ آذار (2025) في غير صالح "قسد"، فباستثناء البند الرابع الذي نصّ صراحةً على دمج المؤسّسات المدنية والعسكرية في شمال شرقي سورية ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية، والمطار، وحقول النفط، والغاز، جاءت البنود الأخرى عامة: ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة في العملية السياسية ومؤسسات الدولة كافّة، بناء على الكفاءة، وبغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، وأن المجتمع الكردي أصيلٌ في الدولة السورية، تضمن الدولة حقّه في المواطنة وحقوقه الدستورية.
تبقى "قسد" قادرة على التأثير، فهي تمتلك قوة عسكرية فعّالة، وخبرة إدارية، ودعماً أميركياً
وفقاً لنموذج الانتقال الديمقراطي، يجب أن يكون الصراع حاداً بين القوى الداخلية، وأن ينطلق هذا الصراع من الوحدة الوطنية بوصفها خلفية، ويمرّ بالصراع، ثمّ بالحل الوسط، وصولاً إلى الديمقراطية. في حالتي الهجري و"قسد" لم يحدث صراعٌ حادٌّ مستدامٌ ومهدّدٌ، ولم ينطلق الصراع من الخلفية الوطنية. ولذلك فشلت القوتان المعارضتان لسلطة دمشق في أن تشكّلا قوة وازنة قادرة على التأثير والتغيير الفعّالين.
وعلى الرغم من أن حالة الهجري يمكن اعتبارها منتهية لا تأثير لها، تبقى "قسد" قادرة على التأثير، فهي تمتلك قوة عسكرية فعّالة، وخبرة إدارية، ودعماً أميركياً، وما ينقصها هو تقديم خطاب سياسي يكون هدفه لا تحقيق المطالب الكردية فحسب، في الفدرالية أو اللامركزية، بل الضغط من أجل تشكيل نظام سياسي حديث يرضي الجميع، وهو النظام الديمقراطي ـ الليبرالي.
------------
العربي الجديد


الصفحات
سياسة








