. الوقائع السياسية والميدانية منذ ذلك الوقت تؤكد جوهر وغاية التصريحات المذكورة رغم اللقاءات المتكررة بين مسؤولين اسرائيليين وسوريين في أكثر من عاصمة منها ما هو معلن ومنها ما هو غير معلن. والثابت في كل ذلك إصرار اسرائيل على موقفها المنطلق من "أن ثمة فرصة أمامنا لن تتكرر فلماذا نفوتها"؟ وأياً تكن المواقف الدولية وعلى رأسها موقف الإدارة الأميركية وتحديداًَ الرئيس ترامب وموفديه إلى المنطقة، والمواقف العربية الداعمة لـ "الشرع"، وموقف تركيا، فإن ذلك لا يغير شيئاً في برنامج اسرائيل. وفي آخر المعلومات الواردة من دولة الاحتلال كخلاصة لنقاشات داخلية ومع جهات إقليمية ودولية أكد المسؤولون الاسرائيليون :
1- "لسنا على موجة واحدة مع الإدارة الأميركية حول الموقف من سوريا. هم يريدون الشرع وبتنسيق مع دول عربية. وللإدارة مصالحها. لكننا نختلف معها في خياراتها الحالية. لا يمكن الاطمئنان إلى هذا الرجل بعد سقطاته في الساحل السوري، وفي جرمانا والسويداء، وموقفه من الأكراد" .
2- "نعرف تماماً الواقع في السويداء وسجل كل صاحب دور فيها. نستفيد من الذين يرتاحون إلى دورنا ويراهنون عليه بعد ما ارتكبه النظام الجديد بحق أبناء المنطقة. لكننا لا نتماهى مع أحد. الصوت الدرزي مهم في الانتخابات المقبلة. نقيم حساباتنا بدقة. وأهدافنا الاستراتيجية تتجاوز حسابات وتمنيات كثيرين ".
3- "لا يمكن للشرع أن يحكم سوريا. وإذا حمته أجهزة مخابرات معينة من الاغتيال، فإن نظامه سيسقط وأقصى حد لذلك سنتان. ونحن على جهوزية تامة لتنفيذ عمليات جديدة واستهداف مقرات أمنية، والقصر الجمهوري أيضاً إذا كان ثمة ضرورة لذلك".
4- "أكدنا في اللقاءات مع الجميع: الجولان موضوع غير قابل للنقاش. بات أرضاً اسرائيلية. لا عودة إلى اتفاق فك الاشتباك الموقّع عام 1974. الأراضي التي دخلنا اليها بعد وصول الشرع إلى دمشق سنبقى فيها. على هذا الأساس يتم ترسيم الحدود مع سوريا. ونريد منطقة أمنية منزوعة السلاح من جبل الشيخ إلى دمشق. (نعم إلى دمشق) والمطلوب توقيع اتفاقية سلام تضم إلى الاتفاقات الابراهيمية الموقعة معنا من قبل دول عربية أخرى".
5- "ملتزمون حماية الدروز ونعمل على فتح ممر إنساني بين اسرائيل والسويداء وضمان أمنه".
6- "مصرّون على ممر آمن من الجنوب إلى المناطق الكردية" وفي ذلك رسالة إلى تركيا من جهة، وإشارة إلى المشروع الاقتصادي النفطي الغازي المالي الاستراتيجي الذي ينسّق مع الهند ودول عربية وأميركا من جهة ثانية، والذي سيكلف مئات مليارات الدولارات لمواجهة المشروع الصيني العملاق "حزام وطريق" الذي خطا خطوات متقدمة في أكثر من موقع في العالم .
يكفي أن نقرأ هذه المواقف والتوجهات ونتمعّن بها ونتبصّر بأبعادها وخلفياتها لندرك حقيقة ما تريده اسرائيل وما تقوم به في سوريا انطلاقاً من المنطقة الجنوبية وبالتحديد في السويداء وهو يتجاوز كل الشعارات والاعتبارات المعلنة تحت عنوان "حماية الأقليات" وتحديداً الدروز .
الجرح في السويداء لا يزال نازفاً. متابعة وقائع ما جرى وما يجري اليوم يذكّر ببداية جولات الحرب اللبنانية في بداياتها. معارك. قتل. خطف. حواجز. خوات. ابتزاز. تهجير. مطالبات بإعادة مخطوفين ومفقودين. دفع فديات. وعمليات فرز سكاني. بالتأكيد هذا ليس في لمصلحة سوريا ووحدتها، ولمصلحة الدولة السورية التي يجب أن تسرّع الخطوات التي التزمت بها لمعالجة آثار وهول ما جرى في السويداء. المطلوب فك الحصار فعلياً في المحافظة. وضمان أمن الطرق. وإدخال المساعدات الضرورية، وإنجاز التحقيقات المطلوبة لتحديد المسؤوليات، ومعاقبة من ارتكب الجرائم والانتهاكات، والعمل بعد ذلك على تحقيق المصالحة بين أبناء المنطقة الواحدة، والتاريخ الواحد. إنها مسؤولية الدولة بالدرجة الأولى. دولة القانون والحق والعدل والرعاية والمساواة بين المواطنين. كلما تأخر الوقت كلما تمادت اسرائيل، وتعمّق الجرح واستفزت العصبيات والغرائز وازداد القلق على المستقبل ووحدة النسيج الوطني السوري. اليوم اسرائيل تحاول إغراق المنطقة بالمساعدات الغذائية، والإدارة الذاتية الكردية تعلن التبرع بمليون دولار أميركي " للهلال الأحمر الكردي " دعماً لأهالي السويداء وهذ كله يضعف دور الدولة ويطرح علامات استفهام كثيرة حول موقفها هنا وهناك، وبالرغم من تكرار تصريحات المسؤولين السوريين " أن لا نية عدائية لديهم تجاه اسرائيل " فإن الأخيرة تتصرف انطلاقاً من نياتها العدائية تجاه سوريا وغيرها وإصرارها على فرض شروطها وعدم تفويت الفرصة المتاحة أمامها، وقناعة رئيس حكومتها ووزرائه أن إدارة ترامب ستندم على خيارها وستكتشف أنه كان خاطئاً في مداراة ومجاراة بعض الدول العربية ومن أجل مكاسب معينة مستحقة وليس ثمة حاجة للوقوف على خاطر هذه الدولة أو تلك، إذ ليس ثمة خيارات مؤثرة لكل دول المنطقة اليوم أمام الاجتياح الاسرائيلي المستمر .
إن هذه الوقائع تفرض في المقابل على مرجعيات وأبناء السويداء إدراك مخاطر ما يجري وعدم غرق بعضهم في الرهان على اسرائيل "وعاطفتها" واندفاعها لحمايتهم. ورغم كل ما جرى والجراح العميقة فإن لكل شيئ نهاية. لا بد من تجنّب الوقوع في التعميم، فالمشكلة ليست ولا يجوز أن تكون سنية درزية أو درزية بدوية ويجب أن يتذكر الجميع أن ثمة عشائر أيضاً في اسرائيل لها دورها ونفوذها ودولة الاحتلال مضطرة أيضاً إلى مراعاتها، فتدير هي اللعبة وتحدد ضوابطها وفق مصالحها، تنظم الخلاف لتنظم الاتفاق. لعبت سوريا اللعبة ذاتها في لبنان وكانت النتيجة معروفة. اليوم تلعب اسرائيل الدور ذاته على أرض سوريا والنتيجة ستكون كارثية. فهل ثمة من يتعلّم؟
-------
المدن
عيون المقالات
|
لعبة إسرائيل في سوريا. غازي العريضي
|
|
|