كان يُفترض أن يُتوّج اللقاءُ الاتفاقَ الموقّع في 10 آذار الماضي بين الرئيس السوري أحمد الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي، حول خطوات دمج القوّات والإدارة المدنية في مؤسّسات الدولة السورية، وكان يُنتظر منه أن يُحدث تحوّلاً نوعيّاً في العلاقة بين دمشق وشرق الفرات، ويعيد تشكيل التوازنات على الأرض.
نفى عبد السلام أحمد، ممثّل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في لبنان، في تصريح لموقع “أساس”، أن يكون يوم الجمعة هو تاريخ اللقاء، مضيفاً أنّ الحوار في حال تمّ سيُعقد في دولة ثالثة لم يُكشف عنها تتولّى دور الوساطة وتوفير الأرضيّة الآمنة للطرفين.
إرباك داخليّ وخلافٌ في التّمثيل الرّسميّ
بحسب معلومات خاصّة حصل عليها موقع “أساس”، فإنّ السبب الحقيقي لتأجيل اللقاء يعود إلى إشكاليّة داخل الوفد الحكومي السوري تتمثّل في خلاف على من يجب أن يقود المفاوضات. ففي حين كانت وزارة الخارجية الفرنسية تتجهّز لاستقبال وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ظهرت خلافات في دمشق على من هو الشخص الأنسب لقيادة الوفد، الشيباني أو الرئيس أحمد الشرع شخصيّاً.
الشيباني يتولّى التفاوض المباشر مع وفد الإدارة الذاتية، بينما يحتفظ الرئيس الشرع بخطّ تفاوض موازٍ مع قائد “قسد” مظلوم عبدي
لا تتعلّق هذه الإشكالية بالشكل فقط، بل أيضاً بالمضمون، إذ إنّ الشيباني يتولّى التفاوض المباشر مع وفد الإدارة الذاتية، بينما يحتفظ الرئيس الشرع بخطّ تفاوض موازٍ مع قائد “قسد” مظلوم عبدي. وهذا التعارض في المسارات قد يُعرقل أيضاً لقاء كان من المزمع أن يُعقد بين عبدي والشيباني، ما لم تُحسم مسألة تمثيل الدولة السورية بشكل واضح.في هذا الإطار، تواصل “أساس” مع مصادر مقرّبة من الخارجية الفرنسية أكّدت أنّ الاجتماع كان مُجدولاً بالفعل ليوم الجمعة، وأنّ التحضيرات له كانت قائمة منذ فترة، وهذا يعني أنّ التأجيل لا يُفهم منه أنّ اللقاءات لن تتمّ، بل إن هناك حاجة إلى معالجة بعض الإرباكات السياسية داخل الصفّ السوري الرسمي، قبل أن تنضج الظروف لعقد اللقاء.
مؤشّرات ميدانيّة تبعث على القلق
يتقاطع هذا التعثّر مع تطوّرات ميدانية تنذر بتصعيد في مناطق أخرى من سوريا، كان أبرزها ما شهدته محافظة السويداء مؤخراً.
يشكّل الدور التركي عامل ضغط إضافيّاً، لأنّ أنقرة تسعى إلى عرقلة وجود الكُرد في شمال سوريا وتقويض مناطق حكمهم الذاتي. لذلك هناك شعور حقيقي بالخطر يدفعهم إلى إعادة تقويم تحالفاتهم وتعزيز دفاعاتهم.
فرنسا والكُرد: تحالف تاريخيّ ومتجدّد
في خضمّ هذه الديناميكيّات، تبرز فرنسا طرفاً فاعلاً ومؤثّراً في العلاقة مع الكُرد، سواء على المستوى السياسي أو الأمني. تاريخياً، كانت سوريا خاضعة للوصاية الفرنسية في القرن الماضي، ولعبت باريس دوراً رئيسياً في رسم خرائط المنطقة إلى جانب بريطانيا وروسيا، بموجب اتّفاقات سايكس-بيكو وما تبعها.
ظهرت خلافات في دمشق على من هو الشخص الأنسب لقيادة الوفد، الشيباني أو الرئيس أحمد الشرع شخصيّاً
تتمتّع فرنسا بعلاقات متينة مع قوّات سوريا الديمقراطية، إذ كانت باريس من أولى العواصم الغربية التي فتحت أبوابها أمام قادة حزب “الاتّحاد الديمقراطي”، الحزب الكردي الأكبر في سوريا وأحد المؤسّسين الرئيسيين للإدارة الذاتية في شمال وشرق البلاد. ففي عام 2014، استقبل الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند كلّاً من صالح مسلم وآسيا العبدالله، وهما من أبرز الشخصيّات الكرديّة، في قصر الإليزيه، وذلك في زيارتين على الأقلّ خلال الفترة الممتدّة بين عامَي 2014 و2017.أمّا الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون فقد التقى أيضاً، في أكثر من مناسبة، وفداً رفيع المستوى من “مجلس سوريا الديمقراطية”، الجناح السياسي لقوّات “قسد”، كانت آخِرتها في عام 2021.
أمّا اليوم فإنّ فرنسا هي عضو فعّال في التحالف الدولي ضدّ تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، وترى في قوّات “سوريا الديمقراطية”، التي تشكّل وحدات حماية الشعب “الكردية” عمودها الفقري، شريكاً حيويّاً في مكافحة تنظيم “داعش”. وبحسب مصادر دبلوماسية، فإنّ باريس تعارض بشكل صريح أيّ عملية عسكرية تهدّد الاستقرار في مناطق شمال سوريا، وتُدرك أهميّة مشاركة قوّات سوريا الديمقراطية في دحر الإرهاب وأن تكون طرفاً في العملية السياسية الانتقالية في سوريا بعد سقوط نظام بشّار الأسد.
من جهتهم نسج الكُرد علاقات متينة مع قوى أساسية مثل الولايات المتّحدة، فرنسا ودول أخرى. لم تكن هذه العلاقات دائماً معلنة، لكنّها مثّلت مظلّة حماية نسبيّة أمام تقاطع التهديدات.
ملفّ المعتقَلين الأجانب
من أبرز أوجه العلاقة المعقّدة بين الكُرد وفرنسا، ملفّ معتقلي تنظيم “داعش” من حَمَلة الجنسية الفرنسية. فمنذ بداية الأزمة السورية، ألقت قوّات “قسد” القبض على عدد من العناصر الفرنسية المنضوية في صفوف التنظيم، ورفضت الحكومة الفرنسية استرجاعهم، معتبرة أنّهم يشكّلون خطراً أمنيّاً على الداخل الفرنسي.
التأجيل لا يُفهم منه أنّ اللقاءات لن تتمّ، بل إن هناك حاجة إلى معالجة بعض الإرباكات السياسية داخل الصفّ السوري الرسمي
بحسب معلومات خاصّة بـ”أساس”، قامت السلطات الفرنسية بتسليم ملفّاتهم إلى الإدارة الذاتية، مع نسائهم وأطفالهم، وتمّ تخصيص سجون خاصّة لهم في المناطق الكردية. وعلى الرغم من الضغوط التي تمارسها عائلات هؤلاء المعتقلين، خصوصاً من خلال زيارات دوريّة لأحفادهم، لا تزال باريس على موقفها المتحفّظ تجاه إعادتهم واكتفت بإعادة بضعة أطفال منهم فقطتقوم الجهات الفرنسية من وقت لآخر بمراجعة أسماء هؤلاء السجناء ضمن لوائح أمنيّة داخلية، لكنّها حتّى الآن لم تُقدم على خطوات فعليّة لإغلاق هذا الملفّ المعقّد، تاركة إيّاه ضمن مسؤوليّات الإدارة الذاتية، التي تعاني أصلاً من نقص الموارد وتحدّيات سياسية وأمنيّة هائلة.
هل يكون هذا التعثّر محطّة مؤقّتة على طريق تسوية أكبر؟
-------------
اساس ميديا