حين تصبح الطفولة فخًا
الأطفال في الفيلم لم يكونوا مجرد ضحية، بل تحوّلوا إلى أداة ضمن نظام شديد المكر، يتقن استغلال الطيبة، ويعرف كيف يقطع على الآخر طريق العودة، حين يحوّله إلى “شهيد إنساني” بدل أن يكون “قائد تغيير”.
هي رسالة الرحمة التي تُمرَّر من داخل البنية ذاتها لتعيد إنتاجها، وتمنح “الإدارة” فرصة جديدة لمواصلة التجريب، تحت غطاء إنساني.
سوريا في عهد النظام البائد لم تكن الأنظمة القامعة بحاجة إلى خيال إضافي.
لقد مارست اللعبة ذاتها منذ عقود: حوّلت مشاعر الخوف، والحاجة، وحتى الحنان، إلى أدوات قمع.
أغلقت السجون، وفتحت أبواب الدولة الأمنية، أعادت إنتاج الوحش، لكن بهيئات مألوفة: أمين فرقة حزبية، شيخ عشيرة، أو مسؤول دولة.
ما قبل الثورة: سلطة خنقت الرحمة ثم سوّقتها
قبل أن يهتف السوريون “حرية”، كان النظام قد أتقن لعبة توزيع الطوابق.
رفع البعض إلى الأعلى، وترك البقية يتناحرون على الفتات.
غذّى ثقافة الخوف، الفساد، النفاق، ثم زينها بشعارات قومية منهكة.
أما الرحمة فكانت شكلية، تأتي عبر “عفو رئاسي” بعد سجن تعسفي، أو دعم تمويني بعد تجويع ممنهج.
تمامًا كما في الفيلم، كل شيء كان محسوبًا بدقة. حتى الكرم كان يؤدّي وظيفة محددة: أن تُبقي رأسك منحنياً، ممتنًّا لشبعٍ عابر بعد جوعٍ مدروس.
الثورة… محاولة لكسر بنية المنصة
عندما اندلعت الثورة، بدت وكأنها لحظة الانقلاب على الطابق 333، اللحظة التي ستهدم فيها المنصة بأكملها.
كان الناس يريدون نظامًا بلا إدارة غامضة، ولا مائدة لا تصل إلا للقلة، ولا بقاء يُمنح للأقوى فقط.
لكن الفوضى التي تلت، وأطماع الدول الإقليمية والدولية، حوّلت الحلم إلى إعادة ترتيب للطوابق لا أكثر، بدلًا من تفكيك البنية الأصلية.
دخلت إيران وروسيا من باب “مصلحة الدولة”، وتركيا وأمريكا من باب “حماية الشعب”، لكن الجميع أعادوا إنتاج المنصة، كلٌّ بطريقته، وفق رؤيته، وطابقه، وأدواته.
ما بعد التحرير… الطابق ذاته بوجه مختلف
في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام الساقط، ظننا لوهلة أن المنصة قد تهاوت، وأننا أخيرًا على وشك بناء شيء يشبهنا.
تفاءلنا بأن الطوابق ستتساوى، وأن المائدة ستُوزع بحسب الحاجة لا بحسب القرب من القرار.
لكن مع مرور الوقت، بدأنا ندرك أن الطريق نحو العدالة أصعب مما ظننا.
ظهرت تحديات جديدة، وبرزت أولويات فرضها الواقع المعقّد، واختلطت فيها الاعتبارات السياسية بالإنسانية والاقتصادية.
تغيّرت الأسماء، وتبدّلت الشعارات، لكن بعض موازين القوى والموارد لا تزال تبحث عن معادلة عادلة ومستقرة.
ربما لم نغادر المنصة كليًا… ربما نحن في مرحلة انتقال، نحاول فيها إعادة تعريف الطوابق، ومعنى الارتقاء، ومفهوم المشاركة.
في بداية الطريق، كنا نحلم بمنظومة مختلفة تمامًا. واليوم، لا يزال الحلم حيًّا، لكننا أكثر وعيًا بأن تحقيقه يتطلب وقتًا، ومساءلة، ونقدًا دائمًا للذات، قبل أي أحد آخر.
خديعة الرحمة… آخر أدوات السيطرة
أقسى ما يواجهه الإنسان ليس القمع، بل حين يُطلب منه أن يختار بين نجاته، أو إنقاذ طفل قد لا يُسمح له بالخروج أبدًا.
تلك اللحظة من التضحية النبيلة، هي ما تصنعه الأنظمة اليوم.
يُطلب منك أن تموت بصمت كي يعيش آخر، دون أن تضمن أنه سيكمل الطريق.
فتضحي، ويُحتفى بك كبطل، لكن الواقع لا يتغير.
كل بنية تسلطية تعرف كيف تصنع هذا النوع من الأبطال…
أبطال “الرحمة”، الذين لا يهددون النظام، بل يُضفون عليه ملامح بشرية.
ماذا لو نحّينا الطفلة من الصورة؟
ماذا لو لم ننجر وراء الرمزية التي رسمتها لنا السلطة؟
ماذا لو قررنا أن الرحمة الحقيقية ليست في إنقاذ فرد، بل في كسر النظام الذي يعيد إنتاج الجريمة؟
ماذا لو توقفنا عن الموت النبيل، وبدأنا حياة مسؤولة، رغم قسوتها؟
في الختام…
نحن لا نحتاج إلى المزيد من الطيبة والمثالية
بل إلى وعيٍ قادر على التغيير.
لا يكفي أن نُوصل الرسالة، بل أن نُغلق المنصة، ونُسقطها على رؤوس من بنوها.
الرحمة التي تستخدم لتثبيت واقع مؤلم وظالم… خديعة
---------
الشرق