في أوروبا، حملت النصوص المسرحية والأدبية، منذ غوته، وراسين، وموليير، وصولًا إلى بريشت، وبيكيت، صدى الأزمنة المتغيرة، وكانت تفعل ما تحققه مجتمعاتها من تغيير وتطوّر، فاتحةً نوافذها للثورات والحروب والشكوك الكبرى، راصدة كل هذه التحولات والاعتمالات والصيرورات، ممثلةً مرآة صافية لها، بل حتى قاسية أحيانًا، لكنها لم تفعل ذلك من برج عاجي، بل من قلب المجتمع والمدينة وصخبها، من شوارع برلين وضواحي باريس وحكايات الريف المحببة وبلدات المقاطعات التي احتضنت كتّابًا صاروا لاحقًا رموزًا للوعي الجمعي. إنها نصوص لم تخشَ الاعتراف بالتناقضات والمساومات والمخاوف الشعبية، لم تخجل من الحكايات الصغيرة، من اليوميّ والعارض، لأنها عرفت أن ما يبقى في الذاكرة الجمعية ليس الشعارات ولا البيانات، بل ذلك الجرح الصغير في حياة إنسان عادي، يتحوّل تحت قلم الكاتب إلى استعارة للوجود بأسره. لم تخش، حتى، المواجهة مع الكنيسة والسلطة على حد سواء، بل، لولا هذه المواجهة لما كانت باقية إلى يومنا هذا.
في سورية، كان الوضع مختلفًا على نحو فاجع، جيل كامل من الكتّاب، كثير منهم من "اليسار السوري"، تصوّروا أن مهمتهم هي قيادة المجتمع لا تمثيله، أن التغيير لا يأتي من الإصغاء إلى الناس، بل من صدمتهم بالحقيقة كما يتخيلونها هم، من دفعهم دفعًا نحو الوعي الجديد. حاورت أحد رموز هذا التيار يومًا، فقال لي صراحة إن الشعب السوري، بكل طوائفه وطبقاته، "متخلّف"، وإن الصدمة وحدها هي الكفيلة بتحريكه. لم يقل إصغاء، لم يقل مصالحة، لم يقل بناء وعي تدريجي كما حدث في التجارب العالمية، بل صدمة، وكأن المجتمع مادة خام في مختبره السياسي والثقافي. هذا الموقف، الذي تبنّاه قطاع من مثقفي اليسار، جعلهم في حالة قطيعة مع الناس، سببها الاستعلاء والتعالي والأستاذية، حتى وهم يرفعون رايات تحرر هذا الشعب ومساواته. والأسوأ أنهم، في بحثهم عن السند الرمزي، استدعوا آباء الماضي، من ماركس وإنجلز، إلى رموز اليسار العالمي، أو استعاروا الفكر الغربي المتراكم في المسرح الغربي ليحلّ مكان الثقافة المحلية، بدل أن يذهبوا بأنفسهم إلى قاع المجتمع السوري نفسه وكواليسه، إلى خوفه وأحلامه وخرافاته، إلى ما يحب وما يكره، إلى ما يحتاج، ليصوغوا من هناك أسئلتهم الكبرى. النتيجة كانت كارثية، برأيي: مسرح يعيش في عزلة، يتحدث لغة لا يسمعها أحد، ويشكو في الوقت نفسه من قلة الجمهور. مع تمشيحات طائفية لا تثير سوى الشفقة.
هنا يطلّ شبح "قتل الأب" في المسرح السوري، لا بوصفه فعلًا فنيًا خلاّقًا يطيح برموز الماضي ليفتح أفقًا جديدًا، بل بوصفه حلقة مفرغة من الصراع الرمزي، تصبح عملية قتل الأب المسرحي المُكرس واجبًا قبل أن تكون صيرورة حتمية، كي يتاح للمسرح المضي قدمًا بعيدًا عن الأيديولوجيا والشعارات، أو كي يجبر الفاعلين الثقافيين على تغيير اتجاههم نحو الأمام والتوقّف عن الدوران في المكان، تمامًا كما فعلت الأجيال اللاحقة في ثلاثينيات القرن الماضي وأربعيناته مع مسرح المؤسس أبو خليل القباني، فهل يمكن أن نتخيّل أن يستزكي جيل ستينيات القرن الماضي الصاخب بالأحداث والسياسة والتكنولوجيا والموسيقى والدراما، نصوص أبي خليل القباني؟ مع فائق الاحترام والتقدير الشخصي لتجربته وريادته غير المسبوقة، وإبداعه وعبقريته في زمانه. اليوم ترث الأجيال المسرحية إرث آباء السبعينيات والثمانينيات حيث سيطر الفكر القومي والتجريب التأصيلي والتفسيرات الشخصية للصراعات العربية الخارجية، بعيدًا عن واقع المجتمع وأزماته السياسية، أو الاجتماعية، وعن الصراعات الدامية من أجل الديمقراطية والكرامة والحرية، رمزية تلي رمزية، لم يعد لها أي معنى في ظل وضوح الدم وجلاء الصوت وقوته، حيث كانت الصراعات السياسية الخارجية غالبة على الهم المجتمعي الداخلي.
من الممكن الإشارة إلى أنّ الصراع مع "الأب المسرحي" في أوروبا، مثلًا، لم يكن صراع إلغاء فقط، بل كان تأسيسًا لمسار جديد، كما فعل بريشت مع المسرح الكلاسيكي، عبر القطيعة الخلّاقة مع تقاليد المسرح الكلاسيكي، خاصة المسرح الأرسطي الذي يقوم على التطهير العاطفي/Catharsis الاندماج الكامل مع الحدث والشخصيات. بريشت رأى أنّ هذا الاندماج يجعل الجمهور سلبيًا ومتلقّيًا فقط، وكأنّه يشاهد قدرًا محتومًا، بينما أراد هو أن يخلق مسرحًا نقديًا يُبقي الجمهور في حالة وعي ويقظة. من هنا طوّر ما عُرف لاحقًا بـ "المسرح الملحمي وتقنية التغريب"، أي كسر الإيهام المسرحي بشكل متعمّد عبر مخاطبة الجمهور مباشرة، أو إدخال أغانٍ وتعليقات، أو كشف عناصر الخشبة والإضاءة، بحيث لا ينسى المشاهد أبدًا أنّه يشاهد عرضًا يمكنه أن يحكم عليه عقلانيًا، لا أن يذوب فيه عاطفيًا.
أو كما فعلت الطليعة الفرنسية في ستينيات القرن الماضي مع مسرحيات راسين وكورناي. بينما في سورية الستينيات تحوّل الصراع إلى حلقة مفرغة: قتل الأب من أجل القتل، لا من أجل فتح أفق فني وفكري جديد. فتم استبدال المسرح الغنائي الطليعي الذي أنتجه أبو خليل القباني (الذي استفاد منه الرحابنة في لبنان، وسيد درويش في مصر) بالمسرح "اليساري المؤدلج"، بعيدًا عن تراث المنطقة، من رقص، وحكاية، وموروث غني، ولربما كان هذا ضروريًا في تلك المرحلة المسيسة حتى العظم، لكنها البعيدة عن النبض المباشر لحياة الناس.
تأثير التغيرات السياسية والاجتماعية
من المهم لفت النظر إلى أنّ الأجيال اللاحقة ـ حتى زمن قريب ـ لم تُدخل الواقع السياسي والاجتماعي الجديد في نصوصها بعمق، بل ورثت الأب الرمزي مع كل حمولة رموزه القومية والتجريبية، وظلّت تدور حوله من دون أن تلتفت إلى التغير الجذري في المجتمع السوري، من انغلاق سياسي، إلى انفجارات كبرى، وصولًا إلى الثورة والحرب. هنا يمكن القول إن "قتل الأب" ظلّ حدثًا ناقصًا، لأنه لم يقترن بولادة مسرح يواجه المجتمع وينتمي له ويصغي إليه على خشبات المسارح السورية، بل كان قتلًا مقتصرًا على مسرحيي الخارج الذين تشابكت تجاربهم مع تجارب العالم حول المعمورة.
البعد الأخلاقي والرمزي بعد الثورة
الآن، بعد وضوح الدم، وارتفاع الصوت، لم تعد الرمزية القديمة التي سيطرت على آباء السبعينيات والثمانينيات صالحة، لأنّ الواقع صار فاضحًا ومباشرًا، وبالتالي فإنّ المسرح الذي يرث هذه الرمزية من دون مساءلة يتحوّل إلى صدى باهت لماضٍ لم يعد يعني أحدًا.
لكن الأزمة أعمق من حذف اسم هنا، أو هناك. نحن أمام مسرح يحتاج إلى مصالحة حقيقية مع المجتمع، إلى نصوص تعرف الناس، ولا تمارس التنظير عليهم من علٍ، إلى حِمائية ثقافية لا بمعناها الرقابي، أو السلطوي، بل بمعنى أن تتكفّل المؤسسات والفضاءات العامة بحماية النص من عزلة النخبة، ومن فوضى السوق، ومن الاندثار البطيء. حمائية تتيح للنص أن يتنفس، أن يشتبك مع حياة الناس، أن يخرج من قطيعة المثقف المتعالي، ومن "سلطة الأب" الأيديولوجية الثقيلة، ومن برودة الإدارات الثقافية التي تخلّت عنه. عندها فقط يمكن أن نحلم بمسرح يشبه مجتمعه، يضحك ويبكي معه، ويترك في روحه ذلك الجرح الصغير الذي لا يندمل، لأنه ببساطة مرآته الصادقة. مسرح يواكب هموم الشارع ويتابعها، يناقشها ويتحدّى جمهوره بها، لا عبر الأمثولة، ولا عبر الأقصوصة، أو عبر النصوص المترجمة من بولونيا وأوروبا الشرقية مثلًا.
إذا ما تأملنا علاقة النص المسرحي السوري بمجتمعه وقارناها بالمسرح الألماني، أو الفرنسي، وتاريخ النصوص الأدبية والمسرحية الأوروبية، سنكتشف أنّ المسرح هناك لم يولد في فراغ، بل انبثق من قلب المعاناة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتحوّل إلى مرآة للناس وتاريخهم، وإلى مساحة يتفاعل فيها الكاتب والمخرج والجمهور في عملية جدلية متواصلة، فالنص لم يكن متعاليًا على واقعه، ولا هاربًا منه، بل كان في صميمه شاهدًا عليه وفاعلًا فيه. أما في بلادنا، فثمة فجوة واضحة بين النصوص المسرحية المقدمة على الخشبات الوطنية، وبين الواقع الاجتماعي والسياسي، وكأن المسرح لا يريد أن يرى ما يحدث، أو يخاف أن يقول ما يراه، فيما لجأ كثير من المخرجين منذ تأسيس المسرح القومي، والمعهد العالي للفنون المسرحية، إلى مشاهير النصوص العالمية التي لا تنضب، يبرّرون هذا الاستيراد بالرغبة في التحايل على الرقابة، أو التهرّب من الاحتكاك المباشر مع الجمهور حول قضايا قد تُفهم محليًا بطريقة سلبية، لكن بلدًا مثل سورية لا يتم تبني نصوصه المسرحية المحلية، وهي بالمئات فوق خشبات مسارحه، بل ويتم الاستعاضة عنها بنصوص لكتاب عالميين! هو أمر عبثي قليلًا، فمن نافل القول إن مسرحية "النورس" لتشيخوف مثلًا هي مسرحية عظيمة، أو أن مسرحية "عطيل" أو "حلم ليلة صيف" لشسكبير كذلك، لكن الأنين الضاغط للمشاكل السورية لن يروي عطش الجمهور حين رؤيته لهذه النصوص، أو متابعته "في انتظار جودو"، وما ذلك إلا هروب من مواجهة الواقع الذي يتم تغييبه وتغييب شهادات الفنانين الحقيقيين عنه فوق المسرح، فهي رفاهية لا تليق بجمهورنا المخضب بالمشاكل والهموم، عروض متحفية للنخب المثقفة، أو التي تريد أن تعلن عن ثقافتها، خصوصًا إذا ما علمنا أنه وطوال عقد ونصف عقد من الأزمة التي اندلعت في البلاد عقب الثورة السورية، لم تتم معالجة قضايا حرجة للغاية في المسارح السورية، أزمة الهوية! الإبادة الجماعية! الاغتصاب والاعتقال والسجون! تغييب المرأة وقمع الرجل! من دون الحديث عن القضايا الأشد ارتباطًا بالواقع المعاش وأزمات الحياة اليومية، مثل الكهرباء، والقدرة الشرائية، والانهيار الاقتصادي، والتشرد، واللجوء، والهجرة، والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي، والتصحر، والقضايا البيئية، والتلوث، وقضايا أخرى كثيرة، حتى يأتي مدير للمسرح، أو مخرج متواطئ، ليقدم شهادة زور عن العصر بتقديمه نصًّا محايدًا حتى لو كان نصًا عالميًا معترفًا به، إنها ازدواجية النكران، وإنه الخوف وعدم المواجهة، أو ربما هي استراتيجية التهرب من الاستحقاقات التي يفترض بالفن أن يقدمها، هذا مع أن الفن التلفزيوني يتغاضى عن هذه القضايا بشكل شامل، على اعتبار أن "الجمهور التلفزيوني في حاجة للترفيه في زمن لا حديث للناس فيه سوى عن الأزمات"، المفارقة هنا أنّ سقوط النظام المخابراتي، وتراجع الرقابة إلى حدّ كبير، لم يؤدِّ إلى تحرير المسرح السوري من هذه العادة المتأصّلة، فما زال المخرجون والممثلون ومديرو المسارح الرسمية يلجأون إلى النصوص الغربية المحايدة نفسها التي أُعيد إنتاجها مئات المرّات، بينما تُترك النصوص السورية المكتوبة بعد انطلاق الثورة، على تفاوت مستوياتها بين الممتاز والمتوسّط، حبيسة الأدراج، فلا جمهور يختبرها، ولا عروض تمنحها فرصة الوجود الفعلي على الخشبة.
والسؤال المطروح بحدّة هنا هو: كيف يمكن الحكم على نص مسرحي إذا لم يتعرّض لامتحان الجمهور وتفاعله؟ وهل مشكلتنا فعلًا في النصوص نفسها، أم في المخرجين والمؤسّسات التي تنتقص من قيمتها وتهمّشها، مع أنّ أنطولوجيا المسرح السوري التي أُنجزت في دمشق عاصمة الثقافة العربية قدّمت أكثر من مائة نص سوري للجمهور والمخرجين، فضلًا عن مئات النصوص التي تتناول الواقع السوري ولم ترَ النور حتى الآن، والتي أنجزت بكثافة ابتداء من عام 2011. ثم لماذا يصرّ المخرجون على كتابة نصوصهم بأنفسهم عبر ورشات مغلقة مع الممثلين، بدل الذهاب إلى النصوص المسرحية السورية المحترفة التي يمكن أن تمنحهم ما يبحثون عنه من عمق وثراء، كما تفعل المسارح الأوروبية والأميركية التي تتعامل مع النص المحلي بجدّية واحتراف؟ تخيّلوا لو أنّ الدراما التلفزيونية السورية قامت على نصوص تأتيها من الخارج، من مصر، أو أوروبا، بدل أن تُبنى على سيناريست سوريين صاروا جزءًا من هوية الدراما نفسها، هل كان لها أن تنهض كما نهضت؟ كذلك هو المسرح، لا يمكن له أن يتطوّر بعيدًا عن النص المسرحي السوري الذي يجب أن يحظى بأولوية ومساحة حقيقية فوق خشبات المسارح المحلية، فكيف لنا أن نفهم حاضرنا، ونصنع مستقبلًا مسرحيًا مختلفًا، ونحن لم نختبر بعد نصوص وليد فاضل، ووليد مدفعي، وفرحان بلبل، وممدوح عدوان، وأحمد داوود، بل حتى نصوص مصطفى الحلاج وجيل السبعينيات، ونصوص وليد إخلاصي، ونجم الدين السمان، وعادل أبو شنب، الذين لم تقدَّم أعمالهم كاملة على المسارح السورية إلى اليوم، فيما نصوص جيل الألفية الجديدة تجد طريقها إلى الخشبات الأوروبية قبل أن ترى النور في بلدها الأم، وكأنّ المسرح السوري محكوم عليه أن يبقى بلا مرآة، وكذلك بلا نصوصه التي تتحدّث بلغته ووجعه وأحلامه المؤجّلة.