من هنا يتضح أن أزمة «المؤامرة» ليست أزمة صراع مع الخارج بقدر ما هي أزمة قابلية داخلية تشكّلت عبر عقود من ضعف التعليم، وغياب النقد، وترسّخ أنماط التفكير التبريري. وهكذا يصبح السؤال الجوهري ليس: «ماذا يفعل الآخر بنا؟» بل: «كيف أصبح وعينا قابلًا لتصديق ما يفعله بنا الآخر؟» — وهو جوهر المأزق الذي يحاول هذا المقال تفكيكه، ضمن إطار أشمل لأزمة الوعي وأزمة الحكم في العالم العربي.
*رواسب الوعي الجمعي وصناعة العجز*
المفارقة أن نقد الأنظمة والإعلام بزعم صناعة «ثقافة المؤامرة» يتحوّل هو نفسه إلى خطاب مؤامراتي مضاد، يفترض وجود ماكينة متماسكة تصوغ وعيًا زائفًا. بينما الواقع أكثر بساطة وعمقًا؛ فالإعلام لم ينشأ في فراغ، بل هو انعكاس لبنية اجتماعية تهرب من مواجهة ذاتها وتعجز عن إنتاج وعي بديل.
المؤامرة ليست «منتجًا مفروضًا»، بل جزء من تربية معرفية ممتدة تجعل الهروب من مواجهة الذات أسهل من الوقوف أمام الحقيقة.
وليس عبثًا أن يقول عبدالله العروي: «كل فكر لا يجرؤ على نقد نفسه محكوم بالجمود».
ومع مرور الزمن، يتحول الفرد من عقلٍ فاعل إلى عقلٍ مفعولٍ به، ومن كائن قادر على المبادرة إلى مستهلك لخطابات تفسّر له واقعه بدل أن تمكنّه من تغييره.
*التعليم والعقل المستقيل: من غياب النقد إلى غياب الإبداع*
إن الجذر الأعمق لأزمة المؤامرة يكمن في تكوين العقل قبل المواقف السياسية. فالتعليم العربي نادرًا ما يُنتج عقلًا نقديًا أو قدرة على التحليل المستقل.
غياب الفلسفة والعلوم الاجتماعية والإنسانيات الحديثة حوّل المدرسة والجامعة إلى مؤسسات تلقين لا تفكير. وفي غياب العقل البرهاني المستقل، تمدّد العقل البياني والعرفاني فلا يبقى للعقل التحليلي مكان.
وقد لامس الجابري جوهر المأزق حين قال: «الأزمة ليست في التراث، بل في طريقة تعاملنا معه.»
وهذا يكشف الجذر النفسي والاجتماعي الذي يجعل العقل العربي قابلًا لتصديق خطاب المؤامرة حين يشعر بالعجز أمام الواقع.
*الحكم المعطّل والدولة العاجزة*
الدولة العربية الحديثة لم تُبنَ على مفهوم المواطنة المؤسسية أو الوظيفة العامة، بل على منطق السيطرة وتوزيع الامتيازات.
السلطة تحوّلت إلى ملكية شخصية، والجامعة إلى مؤسسة خاضعة للوصاية، والإعلام إلى امتداد للخطاب الرسمي.
وفي مثل هذه البيئة، يصبح من الطبيعي أن تزدهر سرديات المؤامرة، لأن طرح الأسئلة يُعد تهديدًا، ولأن النقد يُنظر إليه بوصفه تمردًا لا محاولة للتصحيح.
وهكذا تتحول مواطن الخلل البنيوي إلى «قدر سياسي» لا يجوز الاقتراب منه، مما يجعل البنية الضعيفة للدولة والمجتمع أرضًا خصبة للتبريرات والهروب من المسؤولية.
*الوعي الجديد: من نقد المؤامرة إلى نقد الذات*
الطريق إلى التعافي يبدأ بتحرير العقل العربي من الخوف والاتكالية، وإعادة بناء الثقة بقدرته على الفهم والفعل.
وذلك يتطلب:
— إعادة بناء التعليم على أسس نقدية
— استقلال القضاء
— تحرير الجامعة
— إعلامًا مهنيًا مستقلًا
— عقدًا اجتماعيًا يربط الحرية بالمسؤولية والحكم بالمحاسبة
كما قال كانط: «التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه.»
*الخاتمة: القناع الذي يجب أن يسقط*
ليست المؤامرة سوى قناع نتذرع به كي لا نرى صورتنا الحقيقية في المرآة.
وحين يسقط هذا القناع، سنكتشف أن معركتنا ليست مع «الآخر» بل مع الجهل والاتكالية والاستبداد الداخلي؛ فهي المنابع الحقيقية للعجز والتراجع.
ولا يتحقق التحرر إلا حين يتحمل المجتمع مسؤوليته عن بناء دولة العقل والمعرفة، لا دولة الوهم والشعارات.
-----------
صحيفة «الأيام» العدنية


الصفحات
سياسة








