في الرقة، لا تعكس الاحتفالات التي تجري في المدن الأخرى واقع المدينة نفسها. ما تزال المدينة في عزاءٍ مفتوح، والانتظار الطويل كلّ يوم يذكّر السكان بما حلّ بها خلال السنوات الماضية. يتنقّل الناس بين شوارع مدمرة وأسواق مبعثرة، وسط هدوء يشبه حداداً جماعياً على مدينة لم تنهض بعد. هنا، لم تعد مظاهر الفرح أو الاحتفال ممكنة عملياً، إذ تتعرّض أيّ محاولةٍ للاحتفال أو التعبير عن الرأي للاعتقال، سواء للناشطين أو المدنيين الذين ينتقدون الوضع المعيشي أو يعبّرون عن دعمهم للحكومة الانتقالية. هذا القمع ليس إلا غيضاً من فيض، ويعكس صدى مستمراً لمآسٍ لم تُطوَ صفحتها، في ظلّ ترقّب مشحون بالقلق لما قد يحمله المستقبل من تحولات مفاجئة في الملف الأكثر تشابكاً.
ما يزال ملفّ الجزيرة السورية الأكثر غموضاً وتعقيداً على المستويين المحلي والإقليمي، وخلال الأيام الماضية برزت مؤشّرات لافتة على تحوّل في مقاربة الحكومة الانتقالية للمنطقة. تمثّلت أولى هذه المؤشرات في تسريب مقطع مصوّر من داخل غرفة عمليات عسكرية تابعة لوزارة الدفاع السورية، ظهر فيه ضباط ومسؤولون وهم يشيرون إلى خريطة للجزيرة السورية على شاشة جدارية ضخمة، في مشهد يوحي بأنّ الملف عاد إلى مركز ثقل القرار بوصفه أولوية أمنية وسياسية. ويعزّز هذا الانطباع تصريح الإعلامي السوري موسى العمر خلال مقابلة على قناة “الحدث”، حين قال إنّه سيكون في مدينة الحسكة “مع بداية العام الجديد”، وهو تصريح، رغم طابعه الإعلامي غير الرسمي، يحمل دلالات أعمق مع قرب العمر أو إيحائه بالقرب من دائرة القرار في دمشق، ما يجعله رسالة سياسية مقصودة تكمّل الصورة المسرّبة من غرفة العمليات.
وفي هذا السياق، جاء التطور الأبرز مع خروج وزير الإعلام حمزة مصطفى بخطابٍ هو الأكثر حدّة منذ تشكيل الحكومة. ظهر الوزير لأول مرّة وهو يعلن موقفاً واضحاً من قوات “قسد” وتصريحات مظلوم عبدي الأخيرة، بعد أن كان يتجنب الحديث عن الجزيرة السورية و”قسد” في أيّ تصريحٍ رسمي أو ظهور إعلامي له. وصف مصطفى محاولات عبدي لفتح قنوات مع الدروز والعلويين بأنّها “مادة للسخرية”، مؤكداً أنّ “قسد” تتصرف ككيانٍ فوق الواقع، ووصفها بـ”إمبراطورية على ساق دجاجة”، بلا شرعية اجتماعية أو خدمات تشفع لها. وأشار إلى أنّ الأهالي يعتبرون وجود “قسد” قوة احتلال، وأنّ العتب الشعبي أحياناً يتجه نحو الدولة نفسها بسبب تساهلها في خطابها تجاه هذه المليشيا. وأوضح أنّ “قسد” لا تقدّم نموذجاً عملياً للسكان، في حين تعيش الجزيرة عطشى رغم امتلاكها نهري دجلة والفرات، وما تقدمه “قسد” لا يتجاوز الشعارات الفارغة. خرج تصريح الوزير كأنّه اللحظة التي انتظرها الكثيرون لقياس اتجاه الحكومة الجديدة.
ومع اقتراب مهلة تطبيق اتفاق 10 آذار/ مارس، ازدادت هذه الإشارات ثقلاً، إذ بدا أن الحكومة تستعيد الملف من أدراجه القديمة، وتعيد دفعه إلى الواجهة بوصفه ساحةً لا يمكن تركها معلّقة أكثر. الاتفاق الذي ظلّ حتى الآن مؤجَّلاً وموضع تجاذب، يتحوّل تدريجياً إلى ساعة رملية تفرض إيقاعها على دمشق وواشنطن و”قسد” وسائر اللاعبين، يرتفع منسوب التوتر في قراءة المشهد السياسي للأيام المقبلة. في خطوة غير مسبوقة، تبدو الحكومة كأنّها تبعث أولى إشاراتها العلنية تجاه الجزيرة السورية، في مشهدٍ يوحي إمّا بتصعيد مرتقب أو بإعادة رسم قواعد اللعبة، خصوصاً مع تقاطع الصور المسرّبة والتصريحات الإعلامية مع العدّ التنازلي لاتفاق 10 آذار/ مارس. ويبقى الترقّب سيد الموقف، محلياً وإقليمياً، بانتظار ما ستكشفه الأسابيع المقبلة من خطواتٍ أو تحوّلات، في منطقة اعتادت منذ سنوات أن تكون أكثر غموضاً وتعقيداً ممّا يُحتمل.
منذ اللحظات الأولى لانهيار النظام، دخلت الجزيرة مرحلة انتقالية معقّدة تختلف عمّا جرى في بقية البلاد. كان المشهد أشبه بالوقوف على فوهة بركان خامد؛ السطح ساكن، لكن تحته اهتزازات لا تهدأ. لم يسقط نفوذ سلطات الأمر الواقع، ولم تولد الدولة الجديدة ولادة طبيعية؛ بل تراكم الغموض بينهما فوق واقع يتأرجح بين الانفجار والانفراج. وزاد هذا الغموض مع استمرار انتهاكات “قسد”، مقابل اتفاق 10 آذار/ مارس العالق بين كونه “موجوداً على الورق” و”غير مطبّق على الأرض”، ما جعله عبئاً إضافياً على المشهد بدل أن يكون مخرجاً غير مكلف.
وفي هذا الإطار الأمني المتوتر، شهد محيط قرية الغانم العلي شرق الرقة في أواخر تشرين الثاني تصعيداً عسكرياً لافتاً، بعد أن نفّذت الفرقة 66 في الجيش السوري الجديد هجوماً بالطائرات المسيّرة والمدفعية الثقيلة على نقاط تابعة لقوات سوريا الديمقراطية، ما أسفر -وفق مصادر ميدانية- عن مقتل 3 من عناصر قسد. وأوضحت قوات الجيش أنّ الاستهداف جاء عقب رصد تحرّكات لمجموعات مسلّحة من قسد كانت تستعد لتنفيذ هجوم على مواقعها.
في المقابل، قدّمت قسد رواية مغايرة، مؤكدة أنّ وحداتها كانت تنفّذ عمليات ميدانية ضدّ مواقع شرقي الرقة بعد التأكد من استخدامها من قبل خلايا تنظيم داعش لإطلاق طائرات مسيّرة باتجاه نقاط تمركزها في بادية الغانم العلي. وأشارت إلى أنّ الأيام الماضية شهدت هجمات متزامنة من فصائل مرتبطة بحكومة دمشق، فيما تظهر تسجيلات مصوّرة نشرتها قسد استخدام عناصر التنظيم نفس المواقع لإطلاق الدرونات. وتذهب قسد إلى أبعد من ذلك، متهمة بعض الفصائل الحكومية بالتنسيق المباشر مع خلايا داعش في استهداف مواقعها، معتبرة أنّ عملياتها الأخيرة جاءت رداً على هجمات انطلقت من نقاط قالت إنّها خاضعة لسيطرة قوات دمشق. وأكدت أنّها ستواصل تعطيل مصادر الاستهداف وتعزيز حماية خطوطها، مع تشديدها على التزام الدفاع عن مناطق شمال وشرق سوريا ومنع أيّ تهديدٍ يمسّ المدنيين أو قواتها. هذا التباين في الروايات يعكس استمرار لعبة الاتهامات المتبادلة شرق الرقة، حيث تتحوّل الجغرافيا نفسها إلى ساحةٍ تتقاطع فيها حسابات الجيش، وقسد، وبقايا داعش.
ورغم تمسّك “قسد” بنفوذها الأمني والعسكري والإداري، ظلّ نفوذها بلا ضمان سياسي. سلطة قوية على الأرض، لكنّها هشّة شرعياً وغير قادرة على رسم مستقبل واضح لمنطقة تقف فوق أرض تهتزّ بين حين وآخر. هكذا وُجدت الجزيرة داخل محيط يشبه بركاناً هدأ ظاهرياً لكنّه يحتفظ بكامل طاقته الكامنة تحت الرماد.
في هذه الأجواء، بدأت المفاوضات الجادة بين الحكومة وقسد أولى جولاتها الرسمية في 10 آذار 2025، وتضمنت توقيع اتفاق مبدئي بين الرئيس الانتقالي أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية “قسد” مظلوم عبدي في دمشق. ومع ذلك، لم تحقق الجولة تقدّماً يُذكر، وطرحت سؤالاً مركزياً: ما هو شكل سوريا المقبلة؟ دمشق سعت لاستعادة مركزية الدولة، بينما طالبت “قسد” باعتراف رسمي بالإدارة الذاتية ودمج قواتها ككتلة صلبة ضمن الجيش الجديد. ومع تكرار الاجتماعات في بداية 2025، بقيت الأسئلة الجوهرية بلا إجابات: من يملك القرار السياسي في الجزيرة؟ من يتحكّم بالنفط والحدود؟ وما موقع القوى الدولية التي تتقاطع خطوطها فوق المنطقة دون أن تستقر فيها؟
بالتوازي، ظلّ الانعزال الجغرافي خانقاً. تمّ فتح الطرق التي بقيت مغلقة عدة أشهر شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، والممرات الحيوية موزعة بين نفوذ الجيش السوري الجديد و”قسد”. الرقة بدت مقطّعة الأوصال، وتل أبيض مثال حي على انكماش مدينة داخل أسوار فرضتها الجغرافيا والسياسة معاً. ارتفعت الأسعار، وتحول التنقّل نحو دمشق أو حلب إلى رحلة مرهونة بمزاج الحواجز. المرضى الذين يحتاجون العلاج يُجبرون على طريق طويل عبر دير الزور ثمّ دمشق، وكأنّ العلاج نفسه أصبح متاهة من الانتظار والخطر. ومع توقف الإنتاج وانحسار المشاريع الخاصة وتقلّص المساعدات الدولية، انعكس هذا الانغلاق مباشرة على حياة السكان.
كما أنّ واقع المدينة على الأرض يعكس بعداً أمنياً معقّداً، إذ شرعت “قسد” في حفر أنفاق تحت أحياء الرقة، تمثل شبكة تربط بين مناطق مختلفة داخل المدينة، كأنّها استعداد محتمل لمعركة طويلة الأمد أو لحماية مواقعها من أيّ تهديد محتمل. هذه التحركات، رغم كونها سرية جزئياً، تعكس إدراكاً متزايداً لدى القوى المسيطرة بأنّ التغيرات السياسية لن تضمن لها الاستقرار الكامل، وأنّ المدينة ستظلّ ساحةً مفتوحة للصراعات، ما يجعل السكان يعيشون وسط واقع مزدوج: دمار وإهمال من جهة، وترقّب استعدادات عسكرية من جهة أخرى.
أمّا دير الزور، فقد شهدت تدميراً شبه كامل على يد قوات النظام الهارب، إذ مُحيت أحياء بأكملها، وتحوّلت شوارعها إلى أرصفةٍ خالية من الحياة. المدينة التي كانت مركزاً حيوياً أصبحت رماداً للذاكرة المحلية، مع فقدان شبه كامل للبنية التحتية من مدارس ومستشفيات وأسواق. أيّ محاولةٍ لإعادة الحياة إليها واجهت صعوبات شديدة وسط عجز عن تأمين الخدمات الأساسية.
بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر، لم تستقرّ المحافظة على صيغة واضحة للسيطرة، بل دخلت في حالة انقسام فعلي فرضه نهر الفرات نفسه. غرب النهر حيث المدن الكبرى مثل دير الزور والميادين والبوكمال بات تحت نفوذ الحكومة الانتقالية التي ورثت ما بقي من مؤسسات الدولة المتهالكة في تلك المنطقة، فيما ظلّت الضفة الشرقية تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، بين مركز مدمّر غرباً ومناطق شرقية تتبع لـ “قسد”.
في الحسكة، استمرت أزمة المياه، مع عطش طويل فرضه الإهمال المتكرر لمشاريعها المائية وغياب التخطيط الفعّال منذ عهد الأسد الأب والابن الهارب، رغم كون المنطقة زراعية غنية. المشاريع المائية التي وُعد بها السكان بقيت ناقصة أو متعثرة، ما انعكس مباشرة على الحياة اليومية للمواطنين والنشاطات الزراعية، وعزّز شعورهم بالعزلة والإهمال، خاصة في ظل سطوة “قسد”.
وعلى المستوى الاجتماعي، كان القلق أكبر وأعمق. فالناس في الجزيرة يعرفون جيداً معنى تغيّر الرايات دون تغيّر الواقع. فالرقة تغيّرت فيها السلطات مراراً، بينما بقي الدمار سيد المشهد. ومع سقوط النظام عاد الخوف ذاته، إذ بقيت المنطقة معلّقة خارج الجغرافيا الفعلية، محكومةً بلعبة دولية يدفع ثمنها السكان.
وبالتالي، تبقى الأسئلة الكبرى معلّقة بلا إجابات حاسمة. هل ستقبل “قسد” بدمج مؤسساتها العسكرية والإدارية فعلياً ضمن هيكل الدولة السورية الجديدة؟ وهل ستُدمج الجزيرة بشروطها أم بشروط الدولة الجديدة التي تحاول إعادة بناء نفسها؟ ثمّ هل تملك الدولة الجديدة ما يكفي من الصبر والقدرة لتحمّل معادلة تفاوضية معقّدة، ولديها النفس الطويل لمواجهة الضغط المجتمعي والدولي؟ أم أنّ المنطقة ستبقى ساحة مساومات بلا استقرار سياسي أو اجتماعي؟ وفي حال تعثّر كلّ ذلك، هل تكون الرقة والجزيرة أمام تغريبة جديدة، ليست هجرة أجساد بل هجرة معنوية تُعيد تكريس شعور السكان بأنّهم يعيشون على هامش معلّق خارج التاريخ والجغرافيا؟
فالرقة، بوابة الفرات وحاضرة الجزيرة، ما تزال حتى اليوم أسيرة جرح لم يلتئم. المدينة تحمل طبقات من الخراب باتت جزءاً أصيلاً من بنية الأرض نفسها؛ فقد اقتُلعت أحياء كاملة على يد داعش، ثمّ محاها دمار حرب التحالف، وجاء الإهمال ليحوّل الركام إلى عنصرٍ من الحياة اليومية. الشوارع بلا ملامح، والأبنية قائمة على هياكلها منذ 2017، والأحياء تنتظر من يعيد تعريفها. وحتى ما يُنجز من ترميم يبقى سطحياً، بينما الجروح العميقة واضحة في كل زاوية من المدينة.
تحوّلت المدينة إلى ورقةٍ سياسية: “قسد” تقدّم نفسها كحامية، والدولة الجديدة تتعامل معها بحذرٍ يشبه التعامل مع لغم أرضي. وبين كلّ هذه الروايات، يعيش السكان فوق مدينة مؤجلة لم تُحسم هويتها، وسط تفكك اجتماعي واقتصاد هش، وشباب يهاجر أو ينكسر تحت وطأة المخدرات والبطالة، ما يجعل المستقبل أشبه بجسرٍ متصدّع لا يعرف أحد إن كان سيحمل الخطوة التالية.
وفي الختام، تبدو الرقة، وبشكلٍ أوسع الجزيرة السورية، كأنّها تقف بين جغرافيتين: واحدة رسمتها الخرائط، وأخرى رسمتها الحدود العسكرية والحسابات الدولية. وبين هاتين الجغرافيتين يقف السكان، ينتظرون ما سيأتي بعد سقوط النظام، وما إذا كان هذا السقوط سيؤدي فعلاً إلى ولادة شيء جديد، أم ستظل الرقة والشرق السوري عالقين في تغريبة، خارج التاريخ والجغرافيا، بلا نهاية واضحة.
----------
سطور


الصفحات
سياسة








