كيف وصلنا إلى هنا؟ كيف انتقلنا من زمن شكري القوتلي وسعد الله الجابري وخالد العظم، رجال الدولة الذين أسسوا الجمهورية الأولى ببرلمانٍ مُنتخب وصحافةٍ حرة، إلى زمنٍ صرنا فيه نحتفي بمجرّد «رفع تصنيف الإرهاب الدولي» عن رأس السلطة؟
في ربيع عام 1946، عندما خرج آخر جندي فرنسي من أرض سوريا وارتفعت راية الاستقلال في سماء دمشق، وُلدت أول جمهورية عربية مستقلة استقلالاً تاماً بنظامٍ برلمانيّ ديمقراطيّ. لم يكن أحد يومها يتخيل أن هذا البلد، الذي سبق جيرانه في تأسيس برلمانٍ مُنتخبٍ شرعياً وصحافةٍ حرة وانتخاباتٍ تعددية، كان في الوقت نفسه من الدول الموقّعة على اتفاقية بريتون وودز عام 1945، ومن المؤسسين لصندوق النقد والبنك الدولي؛ أي من بين الدول التي وضعت اللبنات الأولى للنظام المالي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت سوريا حينها حاضرة في المؤتمرات الدولية بثقة الدول المستقلة، تؤكد حضورها في السياسة والاقتصاد معاً. واليوم، بعد ثمانية عقود، صار البلد نفسه عاجزاً عن بناء مدرسة دون إذنٍ من جهة مانحة أو تصريحٍ من منظمة دولية. يومها، كان رجال مثل شكري القوتلي وسعد الله الجابري وخالد العظم يؤمنون بأن السياسة خدمة عامة، لا وسيلة للبقاء في الحكم ولنهب خيرات وثروات البلاد ومواطنيها. ربما كانت سوريا فقيرة الأموال، لكنها غنيّة بالمعنى.
ثم جاء زمن الانقلابات، فاختُطفت الجمهورية شيئاً فشيئاً. تحوّل الجيش من حارسٍ للدستور إلى حاكمٍ باسمه، ثم حوّله حزبٌ واحد إلى ذراعٍ لأبد الأسد. قُطعت الطريق أمام التجربة الليبرالية الناشئة، وسُحق المجال العام تحت شعارات الوحدة وبعدها المقاومة، حتى غدت الدولة مجرد كناية عن أجهزة الأمن والمخابرات. وحين رُفعت صورة الرئيس مكان العلم، لم يبقَ للجمهورية سوى اسمها.
في العقود اللاحقة، تحوّل السوري من مواطنٍ إلى رقمٍ في سجون النظام، ومن شريكٍ في القرار إلى منفذٍ للتعليمات. لم يعد السؤال: «كيف تُدار البلاد؟» بل «من يجرؤ على السؤال؟». هكذا انقلبت الجمهورية إلى نظامٍ أبويّ يوزع الولاء بدل الحقوق، ويصنع الخوف بدل المؤسسات.
وحين انهار هذا البناء في أتون الحرب الطويلة، لم يعد أمام السوريين سوى أن يبحثوا عن بقايا دولةٍ بين الركام. واليوم، بعد عام على سقوط النظام، ما زالت البلاد تتلمس طريقها نحو شكلٍ جديد من الحكم. لكن المفارقة أن تعريف اللحظة «بالفرحة الوطنية» لم ينبع عن إنجازٍ اقتصاديٍّ أو سياسيّ، بل عن خبرٍ عن إزالة اسم «الرئيس المؤقت» عن قوائم الإرهاب.
قد يكون ذلك حدثاً دبلوماسياً مهماً، لكنه يفضح في الوقت نفسه حجم الانحدار في مفهوم الكرامة الوطنية. فحين تصبح المعايير الخارجية هي مصدر الاعتراف بالشرعية، يغدو الخروج من لائحةٍ تصنيف الإرهاب الدولية حدثاً يُحتفى به كما لو أنه استقلالٌ جديد. والأنكى أن إزالة العقوبات، التي يُفترض أنها أولوية للمواطنين، لا تزال قائمة، فتمنع التمويل والمساعدات، وتشل المصارف، وتعرقل أي مشروع لإعادة الإعمار.
النتيجة أن المواطن السوري ما زال يدفع ثمن حربٍ لم يخترها، وعقوباتٍ لم يفرضها، وسلطةٍ لم ينتخبها. وبينما تغيبُ النخب السياسية أو تُغيّب، ويتساءل بعضها عن شكل الحكم المقبل، يعيش الناس في دوامة التضخم والبطالة وانقطاع الخدمات وترديّها أو ارتفاع تكاليفها. لم يعد أحد يسأل عن التنمية أو العدالة أو التعليم، بل عن وجود الرئيس على قوائم الإرهاب، كنايةً عن تحريفٍ لأولويات السوريين على لسان وزير إعلامهم العتيد.
ولعلّ ما يزيد المفارقة إيلامًا هو أن ذاكرة السوريين ما زالت تختزن صورة بلدٍ كان في الأربعينات مركز إشعاعٍ سياسيّ في المشرق. كانت الوفود العربية تأتي إلى دمشق لتتعلم منها معنى الاستقلال، وكان السوريون يفاخرون بأنهم يملكون أول دستورٍ جمهوريّ ديمقراطيّ في المنطقة. واليوم، لا يملك بلدهم دستوراً نافذاً أو سلطةً شرعية.
ربما لم تكن مصادفة أن يأتي أول بيانٍ رسمي صادرٍ عن وزير الإعلام بعد شطب اسم الرئيس المؤقت من قوائم الإرهاب متحدثاً عن «انتصار الدبلوماسية السورية الجديدة». فالكلمات المنمقة كانت تُستخدم قبل بضعة سنوات لتبرير العزلة والقمع، وها هي تعود لتلمّع فراغاً سياسياً جديداً.
قد تكون الخطوة بداية انفتاح خارجي، لكن الأكيد أنها ليست نهاية الأزمة. فالجمهورية لا تُقاس بنظرة الخارج إليها، بل بقدرتها على مصالحة أبنائها وبناء مؤسساتٍ تحميهم. سوريا لا تحتاج إلى شهادة حسن سلوك من أحد، بل إلى عقدٍ اجتماعي جديد يعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.
اليوم، بعد ما يقارب 80 عاماً على إعلان الاستقلال، يبدو أننا نعود إلى نقطة الصفر، لكن لا لنبني دولة، بل لنحاول استعادة فكرة الدولة نفسها. كما قال ألكسيس دو توكفيل: «إن الأمة التي تنسى مبادئها الديمقراطية الأولى، لا تحتاج إلى عدو خارجي لتنهار، بل يكفيها حنينها إلى الطغيان.» وهذا هو جوهر مأزقنا.


الصفحات
سياسة








