يدفعنا الغرب إلى ما يبدو أقرب للفصام ويبدو كأنه أحد وساوسنا القهرية، وهو ما تشهد عليه استعادتُنا الدائمة لسؤال شكيب أرسلان الشهير «لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟»، الذي أطلقه منذ قرابة القرن، كما يشهد عليه الأدب العربي في بعض أبرز كلاسيكياته كرواية الطيب الصالح البديعة موسم الهجرة إلى الشمال، أو رواية سهيل إدريس الحي اللاتيني وغيرها الكثير. يكرهه شبابنا إلى درجة تدفع بعضهم إلى مبايعة القاعدة وأشباهها، ويسعدُ راشدونا بتقديره كالأطفال، وخصوصاً حين يقول جنرال غربي بأنهم يستحقون وساماً على إنجازاتهم
أعيشُ بعض أطياف هذا التعقيد في الكثير من المواقف، فأنا في فرنسا منذ سنين. لجأتُ إليها وولدَ أطفالي فيها، وهو ما جعل أسئلة الهوية والانتماء والعلاقة بالمكان شديدة الحضور في عوالمي الذهنية وعلى قائمة اهتماماتي الفكرية. في أحد الأيام، تأذَّت إحدى ضيفاتنا الغربيات وهي تُلاعِبُ ابني. أصابها في وجهها بحركةٍ غير مقصودة. أوضحَ ذلك دون أن يعتذر، ما دفع ضيفنا، الغربي، إلى مخاطبته، مُؤنِّباً، بضرورة الاعتذار أولاً، قبل الحديث عن القصد. نبرة الضيف دفعت ابني ذا السنوات الخمس إلى البكاء ومغادرة الصالون. سلطويةُ نبرته أثارت لديَّ الكثير من الغيظ، فقد بدا وكأنَّ له كامل الحق في المشاركة بتربية ابني. ما أثار غيظي أيضاً أنني شعرتُ أن ابني كان محقاً بشكل من الأشكال، أو على الأقل، أن اعتذاره الغائب وليدُ اختلاف في الثقافة والذهنية. 
حاولت الدفاع عن ابني عبر محاولة التفكير، بصوت مرتفع، بالسبب الذي جعله يظن بعدم ضرورة الاعتذار، وحاججتُ بأن الاعتذار يختلف في الذهنية السورية عن الأسف، ولا يحضر إلا عندما يكون الأذى نتيجة نيّة أو رهانٍ واعٍ بإمكانية الأذى. الأسف بدوره يأتي كحالة من التعاطف مع الآخر بعد أذى أصابه، من قبلنا أو من قبل الآخرين، فنأسفُ لموت أحدهم أو نأسفُ على توجه الكرة التي ركلناها إلى وجه صاحبنا، ولكننا قلّما نعتذر. في الذهنية السورية، الاعتذارُ لازمٌ والأسفُ لباقةٌ أقلُّ لزوماً، وهو ما يختلف عن الذهنية الفرنسية، التي يحضر فيها الاعتذار والأسف والشكر في كل تفاصيل الحياة بصورة شديدة الشمول والتلقائية. 
لم تكن هذه المرافعة شديدة الإقناع لأصدقائنا، ولم تكن بهذا الوضوح، بل وبدا لهم أنها مسكونة برغبة حمقاء في المراوغة والدفاع الأعمى عن خطأ ابني، وهو ما عَكسَتهُ حرارة كلماتي، التي تحولت إلى مرافعة للتأكيد على مشروعية الذهنية السورية، وعلى حق السوري في التصرُّف وفق ذهنيته، وعلى نسبوية الذهنية الغربية، لا تفوقها أو كونيتها.

الغرب، دفّة الروح؟

رغم قناعتي بمتانة مرافعتي و«عقلانيتها»، إلا أنني شعرتُ ببعض الارتباك. أحسستُ بعد انصرافهم أن ما حرّكني لم يكن إلا تلك «الكراهية» التي كنتُ أكنُّها للغرب، حيث أعيش وأنتمي ولو جزئياً، وهو ما دفعني للتفكير جدياً بهذه المقولة وبهذه التجربة الشعورية شديدة التعقيد، التي تجمعني بها. 
في البداية، قد يساعد المقال البيداغوجي «الغرب مشروحاً لكل العالم» على فهم ما تمثله هذه المقولة في رؤوس الغربيين، وكيف ينظرون إلى أنفسهم ويصدّرونها، فهذا المقال الصادر عن سلسلة الشروحات لدار سوي يُقدم تفكيراً لا تمنعه بيداغوجيته من الاتّسام بالشمول والعمق، وكاتبه، روجيه بول دروا، حاصلٌ على تأهيل فلسفي عالٍ وواحد من أكبر شارحي الفلسفة في فرنسا، كما أن عمله الصحفي في مجال مراجعة الكتب الفلسفية ونقدها على صفحات أبرز صحيفة فرنسية، لوموند، يجعله أقرب إلى سلطة مضادة، ويدفعه إلى تقديم أحد أكثر الروايات شبه الرسمية نضجاً وحذراً. 
يبدأ الكاتب تناوله لمقولة الغرب بالعودة إلى عالم الجغرافيا والعالم اليوناني القديم الذي انبثقت منه، فإن كانت أثينا هي مركز الإشعاع الحضاري اليوناني فإن تأثير إشعاعها وانتشاره على يد الإسكندر المقدوني جديرٌ بجعلها مركزَ العالم أو بالأحرى نقطة البداية التي بدأ فيها الغرب مشواره. الإسهام الحضاري الكبير الذي بلورته الحضارة الإغريقية دفع إلى تسميتها بـ«المعجزة الإغريقية» للتأكيد على استثنائية هذا الغرب وتفوقه عبر تقديمه البرهان الرياضي والتفكير الفلسفي، عدا عن الدراما والملحمة والمسابقات الرياضية. الغرب في هذه المرحلة، هو إذن تلك الكونية التي خرجت بالإنسان من سجن الميثولوجيا القومية إلى عوالم العقل والإبداع. المحطة الرومانية التي أعقبت تلك البداية، وانتقلت بالمركز من أثينا إلى روما، طبعت الغرب بحب العظمة والقانون وتعبيراتِهما الكثيرة، كالمواطنة الرومانية وسيادة القانون وجنون العظمة في فنون العمارة والنحت، وغيرها من المواصفات التي ميّزت الحضارة الرومانية. 
بعد انهيار الامبراطورية الرومانية الغربية، اقتصر الغرب على مسيحيته ليدخل في قرون وسطى وَسمَتها ظلامية الكنيسة وتسلُّطها، إلا أنه لا بد من الاعتراف أن سيرورة نشر المسيحية هي ما سمح بتوحيد أوروبا، الكلمة التي لم تُستخدم للمرة الأولى، بمعنى قريب من معناها الحالي، إلا قبيل «معركة بلاط الشهداء» التي دفعوا بها العدوَّ المسلم عن حدود بواتييه الفرنسية. نشرُ المسيحية وانتشارُها هو أيضاً ما سمح للغرب بالانزياح غربَ روما، باتجاه الكثير من حواضر أوروبا الغربية، ومن توسيع رقعته إلى الأراضي الاسكندنافية وأراضي روسيا وأوروبا الوسطى والشرقية. 
لكن إن كان الإغريق والرومان، المسيحيون واليهود، هم بعض أسلاف الحضارة الغربية، فإن المهندسين والبحّارة، العلماء والفلاسفة، هم الأسلاف الأكثر أهمية والأكثر تأثيراً، والذين بدأوا عصر النهضة الأوروبية بفتوحات مذهلة، في الجغرافيا والعلوم، فاكتشفوا الأميركيتين وكروية الأرض، لتتوالى الفتوحات وتُمهد الطريق أمام عصر من الثورات السياسية والصناعية والعلمية، ونصلَ إلى عالمٍ تمكّنت التقانة من التغلغل في كل تفاصيله تقريباً. الغرب في هذه المرحلة هو رديف لتلك الحداثة الصناعية الرأسمالية القائمة على العقلانية التقنية، التي حوَّلَتنا إلى «أسياد الطبيعة ومالكيها»، على حد تعبير فيلسوف هذه الحداثة رينيه ديكارت. 
على الصعيد السياسي والفكري والفني والأخلاقي، الغرب هو قرن التنوير والنزعة الإنسانية، التي ترى أن الإنسان قد خُلِقَ على صورة الله وأنه يستحق أن يكون المركز بعد انهيار مركزية الأرض. هو بذلك عصر الكوجيتو وفن البورتريه، والعصر الذي خاض موسوعيوه وتنويريوه كثيراً من المعارك مع الكنيسة للحصول على حرية الضمير والتعبير، وإرساء أنظمة سياسية تنسج عقدها الاجتماعي على أساس فصل السلطات واستناداً إلى سيادة مستمدة من الشعب. إنها حكاية انكسار الفاتيكان، والخروج من ظلمات المُقدس المتعالي، وحكاية انتصار مقولات الحرية الفردية والعقل والتقدم.
الغرب اليوم، هو تلك الروح التي انطلقت من أوروبا إلى أميركا، التي أصبحت مركزه وحامي حماه، والتي أضافت عليه الكثير من الأبعاد السياسية والجيوستراتيجية، والتي حولته إلى منظومة اقتصادية وسياسية وعسكرية، ليغدو لهذه المقولة أبعاد ومرادفات عديدة، أبرزها هيمنة الدولار وحلف الناتو ونمط الحياة الفرداني، ونظام الحكم القائم على الديمقراطية الليبرالية. الغرب هو أيضاً عولمة هذه المنظومة، وتحويلها إلى نموذج كوني، قادر على فرض نفسه في سائر المجتمعات والثقافات، بسبب قوة ترسانته ونفوذه وبناه التحتية من جهة، وكونية رسالته وجاذبيتها من جهةٍ أخرى.
ولأن كاتبنا فيلسوف متزن، فإنه لا يكتفي بهذه السردية المدائحية، وإنما يُكرس صفحات عديدة لتناول الوجوه السوداء للغرب وصيرورته التاريخية، ليناقش شبهة العنصرية التي تشتبك بادعاء التفوق الإغريقي، وجرائم الكنيسة الكاثوليكية وقرون الظلمات أو تجارة الرقيق والاستعمار والعنصرية التي حطمت حيوات وأرواح ملايين البشر، أو تلك الحروب العالمية التي شنتها القوى الأوروبية أو الشيوعية السوفيتية والنازية، وجرائم الإبادة التي تورطت بها هذه المشاريع السياسية الغربية. يُحاول الكاتب أيضاً أن يفكر في العلاقة بين الوجه الغربي المُضيء والوجه المظلم، ليستعرضَ الرأيَ القائلَ بأن وجهها المظلم ليس إلا دليلاً على النفاق الأوروبي، والرأيَ الذي ينحاز إليه والذي يرى أن الوجه المظلم نتيجة يختلط فيها مكرُ التاريخ مع بعض عواقب صيرورة تَحقُّق وتَقدُّم الرسالة الكونية، الغربية، في التاريخ. 
هذا الرأي هو ما يدفع الكاتب في ختام كتابه إلى التأكيد على ضرورة الدفاع عن الغرب، الذي بدأ التشكيكُ في كونية رسالته قبالة الإرهاب الإسلامي الذي لا يُقدم أي وعود جديرة بالتفكير. لا يجب الدفاع عن الغرب بوصفه «العالم الأبيض المسيحي الذكر، المستعمر والمستغل، الغارق بأوهام التفوق» وإنما بوصفه «تلك الفكرة التي لا توقفها حدودٌ لحداثةٍ في تطور دائم، حيث تنفصل السلطات السياسية عن السلطات الدينية، وتُصان الحريات الفردية، وتُضمَن المساواة بين الجنسين، ولا تكون الديمقراطية مجرد كلمة» فـ«الغرب ليس بلداً ولا حتى حضارة وإنما اتجاهٌ للروح، التي ترفض، على عكس الشمس، أن تغرب».

منظومة شمال أطلسية؟

المشكلة في هذه السردية أنها شديدة التلفيق والابتسار والانتقائية. للتدليل على ذلك، يُمكن استحضار الجهود الأكاديمية التي دشَّنها إدوار سعيد في كتابه التاريخي «الاستشراق»، والتي تحولت إلى تيارات أكاديمية بالغة الحيوية في الكثير من الجامعات الغربية، وإلى صوت مُعتبَر في الفضاء العام الغربي، والتي قدمت وتُقدِّمُ بعض أهم المساهمات الفكرية والنقدية لتفكيك الكثير من مقولات المركزية الغربية ومزاعمها الكونية. ولكن، وعلى اعتبار أن التعبيرات السياسية، التي تستلهم بعض هذه الاجتهادات تقع أحياناً في مآزق إنتاج سياسات مبتذلة لا تغيب عنها شبهات كراهية الآخر والجوهرانية المضادة، والنزعات الانعزالية والمُعسكراتية، يمكننا استعادة محاولات أخرى، أكثر تخصصية ووقائعية وبرودة.
مقولة «المعجزة الإغريقية» المؤسسة مثلاً، تُنكر على عبقرية اليوناني «الأبيض» أي جذور في عالمه «الشرقي»، سواء في أساطير حضارات بلاد الرافدين وساحل المتوسط،  1 رغم وجود الكثير من آثارها في أوديسة هوميروس وإلياذته، ورغم قيام أدبيات أكاديمية وازنة بالدفاع عن هذه الأطروحة. تنكر هذه السردية أيضاً الإسهام الهندسي والرياضي الذي عرفته حضارات الهند والصين أو الحضارة المصرية وحضارات بلاد الرافدين، التي جاب فيثاغورس أرجاءها، والتي عرفت نظريته الشهيرة وبرهانها قبل حامل اسمها بما يصل لألف عام. كما تنكر بأن المعجزة اليونانية كانت مسبوقة بـ«عولمة» شرق متوسطية،  2 تختلط فيها العوالم المصرية مع العوالم الآشورية والبابلية، والكثير من المدن والممالك الصغيرة. بل وأن هذه العولمة قد أعادت إنتاج نفسها بعد انهيارات العصر البرونزي في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وهو ما تؤكد عليه بعض فصول تاريخ اليونان القديمة والامبراطورية الرومانية، التي تتجاوز في روابطها الشرقية الروابط التي نسجتها مع الهامش الغربي. 
من جهةٍ أخرى، القرون الوسطى المسيحية، والتي تعتبرها هذه السردية، مجرد فاصلة ظلامية في تاريخ الغرب، دامت أكثر من عشرة قرون لتتجاوز في استدامتها المحطات الإغريقية والرومانية. ومحاولةُ ربط الفضول العلمي والشغف بالفكر الفلسفي والإبداع الفني، الذي ميّزَ الكثير من أوروبيي قرون النهضة، بأصلٍ إغريقي ويوناني بهدف تشكيل استمرارية تاريخية غربية لا تصمد هي الأخرى، فـ«أولئك الذين عاشوا في الممالك البربرية في العصور الوسطى الأوروبية أخذوا يُشبهون ما يُسمى الآن الغربفقط حين صاروا هم أنفسهم أشبه بالإسلام»، على حد تعبير الأنثروبولوجي الأميركي اللاسلطوي ديفيد غريبر في مقالته البديعة «لم يكن ثمة غرب قط »، للتأكيد على دور العالم الإسلامي في رعاية الكثير من بذور العلم الحديث والتفكير الفلسفي، وعلى ضرورة إعادة ربط سردية الثورة العلمية بجذورها الإسلامية، وجذروها الهندية والصينية، التي لم تكن أقل فضولاً أو أقل ابتكاراً في سائر مجالات العلم والفن والأخلاق والمنطق.
ما يزيد من صعوبة تقبُّل هذه السردية ونزعتها الإنسانوية، في محطة عصر النهضة، أن ثقافات المجتمعات الأوروبية إن امتازت بشيء فقد امتازت بما يسميه الأنثروبولوجي الفرنسي فيليب ديسكولا في كتابه المرجعي ما وراء الطبيعة والثقافة ، برغبتها بفصل الثقافة عن الطبيعة وإعلاء الإنسان وطموحه فوق الطبيعة ليكون و«كأنه سيد الطبيعة ومالكها»، على حد تعبير ديكارت، وبطهرانية يعقوبية استلهمت أكثر بكثير مما تظن من المؤسسة الدينية الكاثوليكية واللاهوت المسيحي بخطيئته الأصلية وخلاصيته الكارهة للحياة الدنيا، وهو ما ترجمه الأوروبيون بعلاقات ندية ومدمرة مع الآخر، قوامها العنف والاستئصال، وهو ما عبرت عنه الفصول المأساوية القائمة على الإبادة، التي عرفها شرق المتوسط في الحروب الصليبية والصين في حرب الأفيون وأبناء المستعمرات واليهود والأقليات الدينية داخل أوروبا وخارجها خلال الحربين العالميتين .
بالمحصلة، تتضافر هذه القراءات لتمنح السردية المضادة عن صعود الغرب، التي يُقدمها غريبر في مقالته سابقة الذكر، الكثير من الوجاهة، فإن اعتبرنا أن «أوراسيا كانت منقسمة خلال معظم التاريخ إلى ثلاثة مراكز رئيسية: منظومة شرقية وهي متمركزة حول الصين، ومنظومة جنوب شرق آسيوية متمركز حول الهند الحالية، ومنظومة غربية متمركزة حول ما يُعرف اليوم بالشرق الأوسط وأن الأسلمة كانت ولا تزال شكلاً من أشكال الغَربَنة» فإنه «يُستحسن التفكير بما اعتدنا على تسميته صعود الغربكظهور للمنظومة الشمال أطلسية التي حلت بالتدريج محل شبه الهامش المتوسطي، وبرزت كاقتصاد عالمي مستقل، منافسةً، ثم ببطء وبصورة مؤلمة، مُدمجةً الاقتصاد العالمي القديم الذي كان مُتمركزاً حتى ذلك الوقت حول المجتمعات الكوزموبوليتية حول المحيط الهندي. ولد هذا النظام الشمال أطلسي عبر كارثة يتعذر تخيلها: تدمير حضارات بأكملها، عبودية جمعية، ومقتل ما لا يقل عن مئة مليون إنسان. كما أنتج أشكالَه الخاصة من الكوزموبوليتية، عبر عمليات صهر لا تنتهي لتُراثات أفريقية وأميركية أصلية وأوروبية».
إبادة غزة اليوم، وتواطؤ الغرب الرسمي مع منظومة الإبادة الإسرائيلية، وصعود الترامبية وعودة نزعة التفوق القومي، وقلة حيلة المجتمعات الغربية في إنتاج نقد وتقاليد وسرديات جديدة، رغم كل مآسي القرنين الماضيين، تأتي لتعطي هكذا سردية الكثير من الوجاهة، ليبدو وكأننا في لحظة ما بعد موت الدكتور فاوست، الذي قام رهانه مع الشيطان على أن يبيعه روحه بعد موته مقابل الحصول على سر الحياة. بالمقابل، وإن كان مجاز الدكتور فاوست يُعطي «الغرب» الراهن، ككيان سياسي وحضاري، «بُعداً شيطانياً» ومسؤوليةً أخلاقية عن الإبادة، فلابد من التذكّر بأن نخب وجامعات وتيارات سياسية ولِدت من رحم المجتمعات الغربية، كانت من أكثر من تظاهرَ وتحرّكَ ضد الإبادة في غزة، ومن بين أكثر من يُحاول التفكير في مخرج من إطباق الديناميات الرأسمالية والغرب الجيوسياسي الذي يرعاها.

الغرب، ليفياثان محافظ؟

في اليوم التالي للموقف الذي جمعني بضيفي الفرنسي، ولإحساسي بأن الشعور المُركب الذي أصابني يستحق تناوله في عمل روائي، دونت بعض الملاحظات التخييلية السريعة. 
تخيلت، في حبكة مشروعي الروائي الساذج، فرنسياً في بدايات الأزمنة الحديثة، يدخل في مغامرة غرامية مع مغاربية، تقع في هواه. تحبل، وترفض أن تسقط جنينها، وتعود إلى ديار أهلها لتموت، ولينشأ الطفل، يتيماً غريباً وسط أهل والدته، المحتارين في التعامل مع ذلك الأبيض الذي ينحدر من صُلبهم. قُبيلَ وفاة الأب الفرنسي، يوصي ابنه الفرنسي الشرعي، بالاعتناء بأخيه المغاربي الصغير، وهو ما يفعله بكل ما قد تحمله علاقة الأخوة من تعقيدات، لتنشأ علاقة أخوة سامة، يعيشها الصغير الهجين بكل ما قد تحمله من غيرة من عوالم أخيه الفرنسي الغنية والمتنوعة، وإحباط من هذا الأخ الذي لا يُريد أن يُعكّر هدوء أيامه بما قد تتسبب به مغامرة اصطحاب أخيه إلى فرنسا، مكتفياً بزيارته في الإجازات، وهو ما يحوّل هذا الإحباط إلى رغبة في الانتقام من ذلك الأخ المنافق الذي تتحول زياراته لأخيه الصغير إلى فرصة لإشباع حاجته لتقدير الذات عبر إظهار تفوقه الحضاري.
تُمثل هذه «الأخوية السامة» بعضاً من أبعاد علاقتي بالغرب، فقد ولدتُ في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لأكون واحداً من أبناء ما يُمكن تسميته بجيل الربيع العربي. كنتُ شاهداً على ثورات الميادين العربية وشديد الحماس لثورة سوريا، على أمل التحول إلى دولة-أمة وطنية ديمقراطية. كنتُ بذلك واحداً من التواقين للانتقال إلى بلد يُحاول أن يستلهم البلدانَ الغربية، أملاً ببلد ديمقراطي تحكمه شعوبه وتتنعّمُ بخيراته في إطار اقتصاد عصري ومنفتح على العالم. 
لا أعتقد أنني كنتُ شديد السذاجة، فقد كنت واعياً بصعوبات الانتقال الديمقراطي وبكونه أقرب إلى رهان ومغامرة من كونه حتمية تاريخية، وهو ما جعلني شديد الانتباه للغرب ودوره ورؤيته، فقد كنت شديد الثقة أن لإرادته السياسية دوراً حاسماً في تحديد مآلات هذا الربيع. 
في نهايات العام الثاني من الربيع العربي، بدأت تظاهرات 30 يونيو في مصر، والتي انتهت بانتصار الثورة المضادة، كما تراجعَ الرئيس الأميركي، باراك أوباما، والذي كان أحد أكثر منتجات الغرب بريقاً في العقود الماضية، عن وعده بمعاقبة النظام السوري على استخدام الأسلحة الكيميائية في قتل شعبه لتكسبَ ديناميات الأسلمة والتطرف والحرب الأهلية زخماً هائلاً لن يتوقف عن تهشيم العمران والاجتماع السوري، ويتحوَّلَ السوريون إلى مسرح تُجرِّبُ فيه أقذر جيوش العالم وميلشياته أسلحتها، وليعود الغرب لتذكيرنا بنفسه بوصفه ذلك الكيان السياسي المنافق، الذي افتتح تاريخنا الحديث عبر حملة نابليون على مصر، وبذرَ في عقولنا كل مقولات الحداثة، والذي كان في اللحظات التي شهدت ولادة إرادة ومشاريع سياسية واعدة، كلحظة محمد علي باشا أو لحظة عبد الناصر أو لحظة الربيع العربي أحد أكبر العقبات السياسية التي وجبَ تجاوزها، وبأنه، إن استعرنا قراءة حنة آرنت لتوماس هوبز ، مجرد ليفياثان محافظ، لا مصلحة له في أي تغيير ديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط وفي أغلب بقاع العالم. 

عقلانية بيروقراطية وشمولية ناعمة؟

تمتد تجربتي الغربية إلى إقامتي في «الغرب» وحصولي على جنسية واحدةٍ من أهم بلدانه، بل وارتباطي الوجداني العميق بمدينتي الفرنسية التي شهدتُ فيها بعض أهم لحظات حياتي. جعلني ذلك، كالكثير من السوريين، عُرضةً للتفاجؤ بواقع الحياة و«كذبة» 3 أوروبا، فتأهيلي اليساري لم يتمكن من حمايتي من الذهول والمفاجأة قبالة بيروقرطية الواقع وبلادته. 
وصلتُ إلى أوروبا وأنا أعتقد بأن الحضارة الغربية  ليست إلا المجموع المطلق لمساهمات أبنائها الذين يتمتع قطاعٌ واسعٌ منهم بأرواح جامحة، فهُم أحفاد غاليلو ونيوتن وماكسويل وبوانكاريه، دافنشي ورودان وبيكاسو، روسو، هيجل وماركس، باخ وبيتهوفن؛ وبأن التقدم الأوروبي هو صنيعة مواطنين أوروبيين، يُجسدون بعقولهم وأعمالهم امتداداً وتعبيراً عن الإرادة الحرّة، المتعطشة للحرية والابتكار والمبادرة في عوالم التجارة، كما في عوالم السياسة والفن والتقانة. 
ولكن تجربتي اليومية كانت تقول عكس ذلك تماماً، فالأوروبي العادي هو شديد العادية، بل وأكثر عاديةً من الكثير أبناء مجتمعاتنا، الذين تضطرهم تعقيدات حياتهم إلى عيش تجارب أكثر غنى واكتشاف بعض أغوار أرواحهم، على عكس الحياة الهندسية المقولبة والتجربة البيروقراطية التي تُقزِّمُ أرواح عموم الأوروبيين وتُفقر وجودهم.
خبرتُ ذلك في الكثير من جوانب الحياة، فعندما قدّمتُ طلب لجوئي إلى القضاء الفرنسي اضطررتُ إلى التعامل مع البيروقراطية الفرنسية وانتظار آجالها الطويلة والتأقلم مع بيروقراطية موظفيها قبل أن أحصل على أوراق الإقامة، ليبدو لي جهاز الدولة كجهاز لا يختلف كثيراً في بيروقراطيته عن جهاز الدولة السورية، يضمن دورانه موظف لا يتفوق في كفاءته كثيراً على نظيره السوري، ولتبدو الدولة، بمؤسساتها وقوانينها وإجراءاتها، كبنية أسَّسها البعضُ في غابر الأزمنة، لتتحول إلى ماكينة ذاتية الإشتغال، أو إلى ماكينة يُشغّلها موظفون لا يحتاجون إلى توظيف ضميرهم أو أرواحهم.
تجربة الاقتصاد والتجارة أيضاً لا تخلو من روائح الرتابة والبيروقراطية، فأسواق أوروبا تشبه بعضها بشكل غريب، وكأنها مؤسسات استهلاكية، ليبدو وكأن شركات كبرى قد تحاصصت كعكة السوق في غابر الأزمان، ما يُصعِّبُ قدرتنا على تخيل تحرك حصصها أو نجاح المبادارت الفردية والمغامرات التجارية. تجربة العمل في قطاع الخدمات تعاني أيضاً من ذلك، فالكثير من الأعمال ليست إلا «عمل هرائي»، على حد تعبير غريبر، وتبدو أقرب إلى تجربة شديدة البيروقراطية والميكانيكية، وإلى اغتراب مطلق للعامل عن نتيجة عمله.
تكمن المفارقة في أن هذه الروح البيروقراطية المتغلغلة في كافة تفاصيل الحياة هي سر فاعلية المنظومة الغربية/الرأسمالية ونجاحاتها في لحظتها النيوليبرالية، فالتعاملات المالية التي تسري في عروق البورصة والقيم السوقية للأسهم والشركات التي تحددها هذه التعاملات، والإجراءات البيروقراطية التي تحددها معاهدات التبادل التجاري والاستدانة وفوائدها التي تنعم بها الاقتصادات الكبرى، والتي تُثقل كاهل باقي اقتصادات العالم، هي ما يُحدد القيمة ويخلقها سواء كانت قيمة البضائع أو قيمة الحيوات، وهي ما يمتد ليطبق على كل شيء وما يتحوَّلُ إلى «بيروقراطية كلية»، على حد تعبير غريبر في كتابه البيروقراطية، يوتيوبيا القواعد ، أو شمولية اقتصادية هدفها الربح وإن عنى ذلك تحويل الجميع إلى مُسنّنات في ماكينة هائلة لا هدف لها إلا الدوران، وأرواح صغيرة لا تعيش خارج حلقات الاستهلاك المفرغة.
من هذا المنظور، لا يبدو الغرب إلا تجسيداً لسيادة عقلانية بيروقراطية، يبدو العيشُ فيها أقرب للعيش في حديقة مُشذَّبة وجميلة، أسستها أرواح كبيرة ومجتمعات حيوية، في لحظات سابقة وكبرى، وتحولت وتتحول إلى متاهة تلتهم أرواح أبنائها ومجتمعاتها، كما سبق والتهمت روح جوزيف ك، بطل رواية المحكمة لفرانز كافكا، فهذه الحديقة شديدة الهشاشة، وانتظامها وجمالها قائم على تحييد ضمائر أبنائها وأرواحهم، وهو ما يُمكن أن يُحولها إلى ماكينة للشر على النحو الذي تحولت إليه أوروبا في الحربين العالميتين، وعلى النحو الذي نفَّذَ فيه أشباهُ آيخمان «شرهم النافل». 

عالم من الأرواح البليدة؟

إن كان الحصول على الثروة في الغرب مساراً بيروقراطياً بالغ التعقيد، فإن الحصول على راتب جيد يضمن حياةً غربية نموذجية، مسألة أقل صعوبة وتجربة أكثر شيوعاً بين المهاجرين المقيمين في الغرب. يجد ذلك بعضاً من صداه في تجربتي الشخصية، حيث أنتمي إلى واحدة من أكثر شرائح السوريين حظاً، فقد وصلت إلى أوروبا بعد تخرجي بسنوات قليلة، وهو ما سهَّلَ عليَّ العودة إلى صفوف الجامعة الأوروبية، لأنال شهاداتها العليا في مجال الذكاء الصنعي، ما مكَّنني من اختبار الحياة الأكاديمية والجامعة الأوروبية، والعمل في شركات تكنولوجية ناشئة.
مَكَّنني اندماجي في هذه المجتمعات وعملي مع الكثير من الفرنسيين، من الأكثر حظاً وتعليماً من الاطلاع على بعض تفاصيل حياة البرجوازية الأوروبية وعوالمهم الداخلية و«الحيوات النموذجية» التي يعيشونها، والتي أعيشها معهم. فالتأهيل والرواتب والحياة المهنية المحترمة تُمكِّنُهُم من تلبية الكثير من حاجاتهم ومن تحويل الحاجات الأولية إلى مسائل نافلة، ولكنها تجبرهم على مواجهة أسئلة الانتماء والرابط الاجتماعي وأسئلة المعنى والجدوى لتتحول هذه الأسئلة، شبه الغائبة عن مجتمعاتنا اللاهثة خلف حاجاتها الأولية، إلى أسئلة شديدة الإلحاح، يمنع تجاهُلُها العيشَ الطيب. إن نجحت قطاعات طرفية في هذه المجتمعات في تقديم أجوبة متينة على هذه الأسئلة، وهو ما يسمح لهذه المجتمعات بالمحافظة على حد معقول من الحيوية والابتكار، فإن قطاعات واسعة من أبناء هذه المجتمعات تقضي حياتها وهي تحاول التهرّب من هذه الأسئلة، ليتحول أبناؤها، في ظل عالم مادي وفرداني، إلى أرواح بليدة، لا يُمكن أن تسمو بنفسها وأن تجد معنى لوجودها إلا عبر الذوبان بروح قومية وحروب كبرى، على ما نشهد عليه اليوم مع الترامبية.
مجتمع شديدة اللائكية، كالمجتمع الفرنسي على سبيل المثال، حيث لا ينتمي أكثر من نصف الفرنسيين إلى أي دين، يعيش منذ عقود أزمةً روحيةً عميقة، وهو ما يُؤكده صعود اليمين المتطرف المتنامي في برلمانه واقترابُ وصوله إلى السلطة، بل وإفرازه لأشهر كتّابها، كميشيل ويلبيك الذي تتحول رواياته التي تحمل أسماء مشتقة من عوالم العنّة والاكتئاب إلى كتب تباع بمئات الآلاف في فرنسا وألمانيا. يُمكن تحسُّسُ ذلك في الصناعات الثقافية، والتي تتحول التفاهة التي تنتجها إلى الوسيلة الأكثر فعالية لقتل الوقت وتبديده، وتوفير طرق تسمح للنرجسيات العاجزة أمام أسئلة المعنى بمتابعة هروبها من ذواتها.
الانتماء إلى الجماعة في هذه المجتمعات شديدةِ الفردانية، والتي لا تتوقف روابطها الاجتماعية عن الذوبان، يتحول بدوره إلى انتماء لجماعات متخيلة رثة، أبرزها جماعة المستهلكين الأقوياء الأكثر غنى والأكثر استهلاكاً، لتنتظم الطوابير أمام متاجر آبل لشراء الآيفون الجديد، الذي لا يختلف عن سابقه إلا بسعره، ولنبدو وكأننا أمام حشد من الأرواح المتشابهة، التي تستنسخ روح غاتسبي العظيم، وتُعيد إنتاج شقائه.
بدوره، لا يقدم اليسار الغربي في أغلب تنويعاته، أو يكاد، أي مساهمة جادّة لمقاربة هذه الأسئلة، ليبدو غارقاً في مقاربات اقتصادوية تتراوح بين الكينيزية وبين ماركسية دوغمائية، يهرب من خلالها من تقديم تفكير جاد في أسئلة الهوية والانتماء أو من تجاوزها نحو رؤية أو رهان تحرري جديد، ويكتفي بالعمل على رفع القدرة الشرائية لمواطنيه، بهدف جعل الوصول إلى طوابير متاجر آبل أكثر ديمقراطيةً. 
لا تحاول السطور السابقة النيلَ من المجتمعات الغربية بهدف الانتصار لنموذج «شرقي» أو شرق أوسطي، فمجتمعاتُ العالم العربي لم تَخُض هكذا تجارب بالمعنى التاريخي للكلمة، عدا عن أن برجوازيتها  تتفوق على البرجوازية الغربية في انحطاط تعبيراتها، وتتجاوزها في خوائها الروحي وتهلهل منظوماتها الأخلاقية. بكلمات أخرى، يُعاني الغرب بوصفه نموذجاً اجتماعياً بلورته الرأسمالية من مآزق كبرى كما يقف عاجزاً أمام كثير من أسئلة العيش الطيب، ما يجعل التفكير به وفقاً للمنظور التاريخاني الهيغلي، بوصفه أعلى مراحل تحقق الروح الإنساني في التاريخ وشكلاً من أشكال المثال المتعالي، أقربَ للنكتة، وما يجعل استلهامه كـ«اتجاهٍ للروح» شكلاً من أشكال الحماقة.

الغرب، روح عالم لا روح فيه؟

في تاريخ للعقلانية يستحضر الفرنسي فرانسوا شاتليه العمل الفلسفي لكانط بوصفه مَحكمةً للعقل الإنساني برمّته، فهذا الفيلسوف النقدي يضع في عمله مجمل التراث الفلسفي الذي سبقه موضع السؤال والنقد، ليصل في كتابه الشهير نقد العقل المحض إلى استحالة الميتافيزيقيا، بمعنى عدم إمكانية العقل الإنساني على الوصول إلى حقيقة الوجود. فلن نعرف إلا ما يسمح لنا عقلنا بمعرفته، ولعقلنا حدود، والاعتقاد بإمكانية امتلاكنا سرّ الحياة، شغف الدكتور فاوست، مجرد وهم قد يقودنا إلى بيع أرواحنا، دون أن نحصل على سرّ الحياة. 
مضت هذه الخلاصة بكانط إلى خيارات عملية أقل طموحاً من أسلافه من التنويريين الفرنسيين، فقد توصل هذا العقل إلى عدم قدرة الإنسان على الفصل في أسئلة الميتافيزيقيا والكثير من معضلات الحياة الإنسانية، ما جعله أقربَ إلى الحذر في مقاربة مختلف تعبيرات الوجود الإنساني ومتطلبات المجتمع و«العقل العملي».
وفقاً لشاتليه، عرفت الفلسفة الألمانية، بسبب إحكام الخلاصات الكانطية وصرامتها، كثيراً من الركود، فقد جرّدت هذه الخلاصات الفلسفة من أهم فروعها، الميتافيزيقيا، وعمَّقت من مشاعر الاغتراب الإنساني أمام الوجود وأسئلته، وهو ما عنى تخابي الوعد الديكارتي التنويري للإنسان بقدرته على التحكم بها والتحول إلى «سيدها ومالكها»، وهو ما لم يتناسب مع تفاؤلية البرجوازية الصاعدة وطموحاتها في القبض على الحياة وأسرارها. 
عبقرية هيغل، في هذا السياق، تكمن في قدرته على الالتفاف على خُلاصات مُعلِّمه بألمعية مذهلة، عبر نسف طريقة النظر إلى موضوع النقد الكانطي، فالوجود بحسب هيغل لا يمكن أن يكون كينونةً، جامداً وثابثاً، وإنما صيرورةً لا تتوقف عن الحركة والتحول، والميتافيزيقيا ليست علمَ الكينونة وإنما علمَ الصيرورة، وهو ما سمحَ له بتشييد صرحه، وما مَكَّنه من تنحية كل الإرث الكانطي وتواضع العقل العملي المحدود بكل أناقة، ليعود ويؤكد عبر جدله وفلسفة التاريخ، وبكثير من الألمعية، أن الإنسان قادر على القبض على الحياة وأسرارها. 
ما يقودنا إلى استحضار هذه الفصول من تاريخ الفلسفة أن مقولة الغرب تكتسب أحد أعمق معانيها من فلسفة التاريخ الهيغلية، وهو ما تشهد عليه الكثير من صفحات كتاب روجيه بول دروا التي تتحدث عن الغرب الذي «ولأنه يبدو وكأنه موجود في كل مكان» يبدو «وكأنه غير موجود في أي مكان محدد»، ليبدو وكأننا أمام إلهِ الأزمنة الحديثة، أو وكأنَّ الغرب هو «روح العالم»، وهو ما يُذكِّرُ بمقولة «الروح» في فلسفة التاريخ الهيغلية، التي آمنَ بها كثيرون من ثوار الربيع العربي، والتي كانت تنتظر من التاريخ العربي أن يتحول إلى ميدان تحقُّق الروح الإنساني/الغرب، ومن الروح الإنساني/الغرب التحقُّقَ في تلك اللحظة التاريخية، والتي كانت تعتقد أن الثورة ليست إلا خطوة في طريق «التقدم من أجل وعي الحرية». 
إن كان هذا التصور السائد للغرب، بجذوره الهيغلية، يستدعي لديَّ، وبشكل شديد التلقائية هتاف «يلعن روحك» الذي أفرزته الثورة السورية، فإنه يستدعي أيضاً شوبنهاور، تلميذ كانط وعدو هيغل اللدود، والذي كانت دروسه لا تستقطب إلا بضعة دارسين وصلوها بالصدفة أو سوء الطالع، في الوقت الذي كان الحضور يحتشد في محاضرات هيغل، فهذا الفيلسوف الألماني كان شديد الاقتناع بخلاصات أستاذه كانط، لم يجد في مقولات هيغل، الذي كان يُلقبه بحقيبة الريح، وتاريخه المتعالي إلا عبثاً لا قيمة له. 

* * * * *
لسنوات طويلة جمعني بالغرب ازدراءٌ غاضب ومرير، يمنع عني الأفق، ليبدو أشبه بازدراء شوبنهاور لفلسفة التاريخ الهيغلية، وكنتُ لسنوات مُعتبَرة، كشوبنهاور، أغسلُ وجهي بالتشاؤم صباحاً قبل أن أمضي إلى حياةٍ بلا روح. أدمنتُ المشي، مثله، ولم يكن ينقصني إلا أن أشتري كلبة ترافقني، وأن أمنحها اسم كلبته؛ «روح العالم».
اليوم، وبعد تجربة الثورة والحرب والخراب، وبعد إقامة معتبرة في أوروبا، وبعد تجربة غزة، وبعد عشرة طويلة مع هذه المقولة المتهافتة، أو الهفتانة، اكتشفتُ بأن مقولة الغرب لا تعنيني، سياسياً على الأقل، وبات يجمعني بها شعورٌ يختلط فيه الازدراء باللامبالاة. أحضرُ مثلاً مشهدَ وصول أحمد الشرع إلى البيت الأبيض بكل ما يستحقه ذلك من خفة، فإن كان من الصحيح أن خروج سوريا من معسكر المقاومة بُشرى سارة، وأن محاولة تطبيع سلطة «سوريا الجديدة» مع «المجتمع الدولي» و«الغرب» مسألة أقرب للبداهة ويجب العمل عليها بكل جدّية، رغم هشاشة ورغبوية التعابير المذكورة في هذه الجملة، إلا أن ذلك ليس كل شيء، فالسياسة والمستقبل ينموان في أماكن أخرى أيضاً
------------
الجمهورية.