نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص


ألمانية تتمسك بالهيبيز وروح ثورة 1968 في كهوف جزر الكناري







سانتا كروث دي لا بالما (إسبانيا) - كارولا فرنتزن – لم تكن جابرييلا قد ولدت بعد عندما روجت ثورة الشباب، ربيع 1968 في أوروبا للسلام، والحب، وأسلوب حياة مختلف للبشرية بديلا عن الحرب والصراعات، ومع ذلك فإن هذه الألمانية ذات الأربعة وأربعين ربيعا، تجد نفسها تماما مع روح هذه الثورة التي قامت قبل نصف قرن، وتعتبر أنها تنتمي بالفعل إلى هذه المرحلة. وتقول بفخر بينما تلمع عيونها الزرقاء تحت أشعة الشمس التي لوحت بشرتها وأكسبتها لونا برونزيا "أنا من الهيبز وافتخر"، حيث تعيش منذ أربع سنوات حياة الكهوف، على غرار الحياة البدائية لسكان جزر الكناري الأوائل في إسبانيا.


 
ويخطئ من يتصور أن حياة الكهوف تعني فضاء كئيبا مقبضا ومظلما تحت الأرض أو في بطن جبل بارد، فالكهف الذي تعيش فيه جابرييلا رحب ومضاء وبه تهوية جيدة. مرتفع قليلا عن سطح البحر، ومفتوح من جانبيه. تستخدم جابرييلا قطعة قماش شفاف لتغطية إحدى الفتحات التي تكونت كنافذة بفعل عوامل الطبيعة مع بوابة الكهف.
تضئ شمس الظهيرة الكهف من الداخل، حيث وضعت مقعدين من الخيزران، وبينهما طاولة خشبية، ومطبخ صغير، يضم جميع الأدوات الضرورية. لدى جابرييلا أيضا فراش مرتفع تعلوه ناموسية. وتنتشر في المكان طاقة غريبة، وهو ما تفسره جابرييلا كنتيجة لاستمرار وجود أرواح السكان الأصليين الذين عاشوا في المكان من عرقية الجوانتشيس، حيث تؤكد "تعهدت للأرواح بألا أغير في معالم المكان وألا تكون إقامتي به عملية غزو". وفي حال قررت الرحيل في أي وقت، سيجد من يأتي بعدها كل شيء كما كان.
يقع كهف جابرييلا في أحد الوديان الكثيرة المنتشرة في جزيرة لا بالما، والتي تتميز بعمقها وصعوبة الوصول إليها، وهو ما يبقي معظمها بكرا إلى الآن ويحافظ على عناصر الطبيعة الخلابة التي تميز بيئتها، ومن أبرز نباتاتها: التين الشوكي والرتم الأبيض (نوع من الأعشاب العطرية النادرة)، وأشجار نادرة، وأعشاب كثيفة، وتكون الكهوف وحدة واحدة مع البانوراما الطبيعية الممتدة، ولا يمكن لأحد أن يتحقق من تفاصيلها إلا عندما يقف أمامها مباشرة. وهذا أمر جيد حسب وصف جابرييلا.

شجعت العزلة والخصوصية، رفيقها العاطفي كريستيان /45 عاما/ على الانتقال قبل عامين للإقامة معها في نفس الكهف. وبمرور الوقت، جاء آخرون ليقيموا مثلهم في الكهوف، وهذا حول حلم جابرييلا إلى كابوس مع مجيئ المزيد من الفضوليين والمتطفلين الذين قضوا على حالة السكون التي تضفي على المكان سحره وخصوصيته.
في الوقت الراهن، لا يجاور جابرييلا في المكان سوى ثمان قطط وكلب إبنتها العجوز، كما يعبر المكان من آن لآخر بعض الرحالة الباحثين عن عزلة روحية، لكي يستريحوا لعدة أيام من توتر المدينة وإيقاعها المضطرب، ولهذا افتتحت جابرييلا كهفا لعمل مساج مضاء بمصابيح سيارات وكهف آخر كاستراحة مؤقتة للضيوف، منعزلة قليلا.
بالفعل، تحولت إسبانيا منذ عقود قبلة لراغبي الاستمتاع بنمط حياة البوهيمية التي يفضلها الكثير من الفنانين والباحثين عن أسلوب حياة أكثر بساطة بعيدا عن كل تعقيدات الحياة الحديثة، وتتركز هذه النوعية من السياحة في الجنوب خاصة في جزر الكناري وتينيريفي ولاجوميرا، وبعض قرى إقليم الأندلس.
ولدت جابرييلا في ألمانيا الشرقية بالقرب من مدينة دريسدي، وعاني زوج أمها من مضايقات أجهزة أمن الدولة في ذلك العصر، واضطر للرحيل إلى الجانب الغربي، وحصلت الأسرة على تصريح السفر حينما كانت جابرييلا في الرابعة عشرة من عمرها، ولم يحملوا معهم متاعا أكثر من حقائب ثيابهم وانتقلوا للعيش في مدينة ريكلنهاوزن. ووجدت الفتاة المراهقة صعوبة في البداية للتأقلم مع نمط حياة ألمانيا الغربية، ولم يعد أصدقاؤها في ألمانيا الشرقية يريدون أن يعرفوا عنها شيئا. كانت الأحكام المسبقة تطاردها وأسرتها في الجانبين. وتقول "هذا افقدني ثقتي وإيماني في كل الأنظمة السياسية".
غادرت المنزل في الخامسة عشرة من عمرها. ودخلت معترك الحياة من باب العمل في الخدمة، وكانت البداية كعاملة نظافة، ثم نادلة لتكسب قوت يومها. بعد ذلك تلقت تأهيلا للعمل كمساعدة لطبيب أسنان. ومع ذلك تعلق "أدركت أن الحياة في ألمانيا لا تناسبني". وبعد كثير من المتاعب والمشاكل والأمراض، قررت الرحيل إلى لا بالما في إسبانيا، وظلت بها منذ عشرين عاما. توضح "الجزيرة تتمتع بسحر خاص. وراء كل كهف، هناك سر يستحق الاكتشاف"، تتابع بينما تداعب القط الذي يتثاءب في حجرها.
مع الوقت، تعلمت جابرييلا كل شيء عن الأعشاب العطرية والطبية وتأثيراتها العلاجية، وحاولت تأسيس مشروع لزراعة هذه النوعية من النباتات إلا أن التجربة فشلت لأسباب مؤسفة. ولم تكن هذه المأساة الوحيدة في حياتها، بل تعرضت للقبض عليها بالرغم من براءتها وظلت قيد الحبس لفترة. حينما خرجت علمت من بعض معارفها بمسألة بيع الكهوف. تتذكر "حينما رأيت هذا المكان، عرفت أن هذا هو كهفي".

وتضيف جابرييلا "خلال الشهور الثلاثة الأولى لم أكف عن البكاء. ويمكنني القول إن هذا صفى روحي. انتابني شعور قوي بالرضا والامتنان لأني وصلت أخيرا إلى هنا. ومازال هذا الشعور بالسعادة لا يفارقني إلى الآن". في حين يقول كريستيان "إنها تعيش هنا حياة حقيقية لا مثيل لها في الوجود".
ومع ذلك، لا يمكن التخلي نهائيا عن الحضارة. جابرييلا لديها هاتف محمول ذكي، للتواصل مع الأسرة والأصدقاء والزبائن. تعلق "أضعه في ركن من الأركان، وأفتحه فقط من حين لآخر". لديها أيضا تيار كهربي مصدره وحدة طاقة شمسية، بينما تدفع من ميراثها ثمن التكلفة المرتفعة للتزود بالمياه. تزرع هي ورفيقها بعض الفواكه والخضر والأعشاب، أما باقي الاحتياجات فيتسوقونها من أقرب قرية مجاورة.
تقول جابرييلا "أنصح الجميع بالحصول على وقت للاستجمام لكي يتعرفوا على طبيعتهم الخاصة"، وتضيف أن "أحد الجوانب المهمة هو التركيز على الجوهر. لأنه أولا وأخيرا، تحتاج فقط إلى شيء لترتديه، والماء، وحمام ساخن، وتناول الطعام، والفراش".
تغرب الشمس ملقية بظلال حمراء على الوادي، الذي تكسوه خضرة خفيفة تحت سماء برتقالية، يغرد في الفضاء عصفوران، بينما تنزلق حرباء بسرعة تفاديا لصخرة ألهبتها حرارة الشمس الراحلة. المشهد بديع من الكهف. تقول جابرييلا "هذه البانوراما تمنحني شعورا داخليا بالسكينة العميقة. الكهف هو ملاذي الحقيقي". ترتسم على محياها الوادع ابتسامة رضا جديرة بإنسان بحث كثيرا عن السعادة وأخيرا عثر عليها في هذا المكان.

كارولا فرنتزن
الاحد 30 سبتمبر 2018