نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


سوزان علي... الكُل يُريد جسداً واتصالاً ليليّاً





كان الوصول إلى دمشق، أكثر غرابةً من أيِّ شيءٍ آخر في حياة الشاعرة سوزان علي؛ كان على سوزان أن تذهب إلى المدينة التي تُنسَبُ إليها الحياة الثقافية السورية، في معنىً نمطيٍّ مكرر من دون أن يكون حقيقيّاً. لكن المدن الكبيرة في هذه البلاد كلها لا تُعَدُّ مدناً أمام العاصمة؛ إذ إنّ الأنظار كلّها موجّهة إلى دمشق وهي مركز الاهتمام. وصلت سوزان إلى دمشق، كان عليها أن تعرّج قبل هذا مراراً على الشاعر محمد الماغوط قبل رحيله؛ لاكتشاف حياة ذلك الذي يترك قريته أو مدينته الصغيرة مسافراً إلى دمشق.


 
في اللاذقية كتبت في الصحافة المحليّة، لقد كانت سوزان استثناءً في مدينةٍ؛ جُل كتابها يقرأون الشاعر سليمان العيسى، وأدبيات مطولة رديئة لكتّاب اتحاد كتاب العرب. من يخرج من اللاذقية نحو دمشق، يخرج من النظام الثقافيّ شديد الاستبداد والنمطيّة، إلى رحابة ممكنة معقولة للكتابة وحتى لمعرفة المجتمع. كانت عزلتها في دمشق جادةً جداً؛ تيار كتابتها خُلِقَ على مرحلتين؛ المرحلة التي تبدو فيها سوزان خليط طفولة حالمة، تصيغ ما تراه وتكتبه كأنه اكتشافٌ للعالم والرغبة؛ الرغبةُ في أن تكون الذاكرة أكثر جمالاً. سوزان في كتاباتها المتناثرة في صفحتها الفايسبوكية وفي بعض المنشورات العامّة لها، كانت رسالة صامتة عن أحلام طفولتها التي تعود إلى الخلف، لا إلى الأمام. عالم طفولتها وهو يتكرر في كتابتها كصورٍ تصلح لمشاهد السينما؛ جدّتها، أمها، الصوف، الرجال، البحر، والمقابر، كل ذلك لا يمرّ على سوزان بوصفهِ أداةً تخدم فكرتها، بل صراعاً منسوجاً بعناية، بين أن نملك ذاكرة، أو أن نحاول تجميلها. سعة الخيال في دمشق ما كانت لتحميها، بل لكي تشتتها؛ الحرية التي تُعلمنا إياها المدن الكبيرة ليست إلا حماقةً جديدة. بات العالم يملك حرباً وقبل هذا رجالاً وثقافة عمياء؛ ثقافة يكون فيها المثقف أستاذاً في إملاء الأوراق، بدلاً من التفكير في ما فيها؛ ليهذّب النفس والعقل من خلالها؛ لذا لم تكن الثقافة مشروعاً للذات، بل كان الفكر والفن مشروعين للثقافة. تقول سوزان في فيديو في صفحتها، أو خلال كتابتها منشوراً في فايسبوك: "الكُل يُريد جسداً، واتصالاً ليليّاً، فهل لهذا تتابعون صفحتي أو ما أكتب؟". 

الكتابة عن سوزان مزدوجة دوماً؛ هي اكتشاف حقيقي لما يبدو عليه الفعل مع الكلمة في روح إنسانة تكتب، سوزان تملك نسقاً لعلم جمالٍ تدافع عنه جيداً. كتبت منذ الخامسة عشرة من عمرها؛ فكانت ناصية المقبرة كُرسي عجيزتها، والحيوانات المهذبة في الحظائر تحت مرمى عينيها، وفي ظلّ ازدحام منطقتها السكنية هائلة... لقد شاهدت في طفولتها ما لا تكفيه حياة واحدة، مأساتها أنها تُريد للذاكرة أن تُنتج جمالاً أو فعلاً. لا تملك ذاكرة جيدة، ذاكرتها نسقية لإتمام معنى ما، وأطيقيا الفعل عندها هو الذاكرة التي تهدف إلى تجميل اللغة لسرد الذاكرة، من أجل إنقاذ طفولتها من بشاعة ظلم الجميع للجميع. الجدة الوحيدة دوماً، والأم التي لم تقتل رغباتها، والطيور التي لا تطير من على ثديها في أثناء شهوتها.
"النهاية تُسمى الطفل،
الاكتمال يبحث عن سكين تُمزق الضوء
عن قشرة يغطي بها عينيه"
(من ديوان "المرأة التي في فمي").

لا تجد سوزان نفسها أبداً في كتابها المتأخر جداً عن النشر، إلا بوصفها كاتبة تراجيديا طويلة. لم تكن الحرب السورية، وفقدانها أخيها كضحية من دون أن تودع وجهه؛ سبباً كافياً لتكتب التراجيديا بنكهة من السخرية الصامتة؛ فالسرد لا يُوقف عجلة المشهد أبداً. كانت حياتها تراجيديا حقيقية في بحثٍ مضنٍ عن الجمال، عن المرأة التي تولد بأعمار ثلاثة دوماً، وأحوالٍ لا يتوقف فيها الجنس، والطعام، والنوم عن سرد ما في جعبتها. لا تملك سوزان إشباعاً من هذا، كان وصولها للثلاثين أملاً لشعورها بميلٍ لانفتاح الذات وتكشّفها. تكتب سوزان من أجل الموضوع الذي استباحها، واستباح ذاتها بالصور والأحداث. هي وجهة نظر أكثر شذوذية لكلّ ما يُكتب في سوريا في هيئة شعر. في الأصل لم تكن سوزان تنوي مشاركة ما تكتبه أو نشره؛ لقد شعرت بأن عدداً من النصوص الرديئة، وثقافة النشر المُسيّسة، تقمع الشعر الحقيقيّ وتبخسه حقّه. على شِعر سوزان أن يخوض رحلة شاقة ليستطيع إيصال ما أرادت قوله.
"ماسورة المغسلة معطلة منذ بداية الحرب، الماء يُنقط في السطل الممتلئ، يأخذ جسدي كل يوم إلى النهر، في قارب مثقوب، أتمدد فوقه وأراقب الأغصان؛ تطفو مثلي، السحب والغيوم، النجوم، الأمهات، الطائرات الورقية، الطيور الأحلام، أسحبها جميعاً لتغرق معي، قبل أن أفيق وأفزع من السطل في أصيص الكاردينيا، تتدلى الكاردينيا، ويتسع ثقب الماسورة، يصغر جسدي، ويصغر قبل أن يختفي"...

يحتفي كتابها بأشكال أكثر جرأة ومعنى للتعبير عن الذات، وكما النصّ آنف الذكر، تضعنا هذه النصوص، في مُركّب حلمها وتأويله. تصعد سوزان نحو ثبات الذات مراراً في رؤيتها للحرب، والحياة والطفولة، والآباء القساة، والأم التي تُخلق في هذه البلاد لتلوك عاطفتنا رغماً عنها. وفي مرة أخرى تظهر سوزان طفولتها لنا، كطفولة معممة عن الأب والأم، كانكسار غير نمطي لما يبدو عمومياً ووهمياً. اكتشاف سوزان لذاتها هو ما نعانيه كُلنا، لكن في حدة شعرية متأملة.
"ظهري نصفان،
طريق ترابية خطتها النعال المهترئة فوق الوحل،
ألا يصلح هذا النصف العميق لصورة أمك وأبيك؟
***
أحلُّ ضيفة في بيت أهلي،
غدوت غريبة عن الشمال، الذي يمد لسانه في وجهي.
أنا وحقائبي، فأديرُ ظهري الحالك له...
قصيرة زيارتي إلى بيت أهلي،
أتمنى فيها أهلاً آخرين،
وبيتاً آخر، وأحياناً كثيرة
أحسد زهور النسيان السوداء.

تتصاعد كتابة سوزان نحو المجرد؛ ليس كفلسفة، بل بجعل تجربة المرأة تجربة حياة، ولو تقلدت نصوصها أوقات الطفولة والصبا، النضج والحرب والذكريات؛ فلا تظهر الذكريات إلا خائبةً مثلها، ولا تتوانى كلمات الإحباط بل الندبة الانسانية في شكلها الحكيم الثابت، عن التجلّي في نصوصها. خرجت سوزان عن نمط الكتابة الأنثوي السوريّ، المحكوم بالحديث عن العلاقة مع الذكر، في هيئة تعميمات الحب والوطن والخيانة؛ مردّ ذلك إلى ثقافة فيس بوك؛ المنشور الإلكتروني والمواقع غير المعروفة، التي شكلت جيلاً من شعراء وشاعرات سطحيين ونمطيين.

لا يمكن الاكتفاء بنصوص سوزان التي نشرت وستُنشر تباعاً للكتابة عنها، هناك جانب يأخذ وضعاً معرفياً؛ في أن نتابع الشخص عبر صفحته الخاصة في فايسبوك، من دون ملازمة شخصه، وتصرفاته وآليات تعبيره. متابعة سوزان أو المثقف عموماً من خلال فايسبوك؛ هي ظاهرة تملأ حالياً فضاءات حياتنا، خاصة إذا بات الكاتب متساهلاً مع اقتياد كل الأفكار وتحويلها إلى نص أو تسجيل فيديو.

كان على سوزان في منتصف الحرب، أن تفتح جدلاً غير منتهٍ عبر صفحتها. تجاربها التي شاركتها حملت فظاعة واقعٍ سوري، بمثقفيه وشعبه ولعناته وحربه. استنهضت سوزان شكلاً قديماً للكتابة، قديماً بالمعنى العام والأوروبي تحديداً، يهدف إلى فضح البشاعة والقبح. منذ العام 1853ـ وقبله، كتب روزنكراتس عن أهمية القبح لسَلب الجمال سطوته الخفية. ووضع روزنكرانتس نسقاً لكيفيّة ظهور القبح، وكيف عليه أن يبدو. لا تلتزم سوزان نسقاً معيّناً في إبراز القبح، لكنها تعاينه، وتتحدث عنه. تحمل سوزان شخصها وذاتها أمام الكاميرا، فيديوهات قاسية لمهاجمة الذكورة حيناً، والأنوثة حيناً آخر. لقد فتحت إدراكها وفهمت تماماً دوافع ما يبدو تحرشاً، فلم تخف من أن تضع صور الأعضاء الجنسية الذكرية التي يُرسلها عراةٌ مرضى! هي تشاهد هذا وتضعه من دون أن تفضح صاحب الصورة، لكنها لم تقوَ بعد على الشتم. يظهر شيء قهريّ غير واضح في تعبيرات سوزان، ما يجعل البعض مهاجماً لها. هذا التعرّي الذي يصل إلى سوزان، يخلق نوعاً من العنف أو المرارة في  شخصها و"لا وعيها" نحو الآخرين.

لقد فقدت سوزان اتزاناً ضرورياً لوسائل التواصل، وباتت أكثر التصاقاً في التعبير عن شخصها وموجات عنفها أو غضبها؛ جزء كبير من هذا يرجع إلى ثقافة يومية سورية، ثقافة الاتّساخ، التحرش، الحب، التخلف. تملك سوزان نمطَ تعبيرٍ هائج، ينقصه التوازن والنسق، لكنه يحمل الكثير من السوك العفوي للإنسان العادي. قد يبدو من الأفضل؛ أن نعرف حياة المثقف اليومية، كتاباته عما تبدو عليه حياته. سوزان صورة أكثر انفتاحاً للشخصية عبر فايسبوك، ما خلق بخساً وإساءة لتلك الشاعرة الحائزة على جائزة قرطاج لأفضل عرض موندراما، فعملها الذي يأخذ صورة حلٍّ عربيّ يحوّل حياتها اليومية وآراءها إلى طابع مسرحي هوسي، يحاول إظهار القبح الذكوري، ومعالجة الشتيمة، وذِكر الأعضاء التناسلية في السباب. تطرح سوزان ما يبدو إشكالياً، وما يبدو غريباً وعارياً ومخيفاً. ومن خلال هذا النوع من الفضائح يمكنها الوقوف على الشخصية، من دون ترك النزعة التأملية الهادئة في الكتابة. هذا لا يعني أنها لا تملك شخصية متأزّمة تحاول بها الانشغال بما يبدو مثيراً وجذاباً لجمهور المتابعين، لكن ذلك يتم كتعبير حقيقي وبلا خوف، خصوصاً أن سوزان تخلق المعنى في الكتابة وفي تفرّد الهوسية غير المنضبطة للتعبير؛ فالكتابة عن الموت بشعة، لكنها تحوله لشيءٍ إبداعي، والشتيمة حينما تُخرجها إلى ساحة الحوار تبدو واقعاً جميلاً أيضاً.

لا تنفك سوزان في كتابتها أو متابعتها ما ينشر في فايسبوك، عن ملاحقة واقع العاهرة، في الزوايا التي يُمكن الكتابة عنها والتأمل فيها. ثم تربط العهر بصور المواساة والعزاء الذي أقيم لأخيها المقتول في الحرب، من دون أن تخاف النظام أو إسلاميي المعارضة أو مثقفيها. سوزان تبدو في حالة ثوران يُشبه حالنا كلنا، الفارق بيننا وبينها؛ هو قدرتنا على تجريب غضبنا عبر وسائل التواصل، أو حتى رغباتنا. فقدت سوزان سطوتها على فهم وإدراك الواقع، وكي لا تبدو وحيدة في هذا الجنون الذي ينتابنا، لم تعد تضع حداً لما هي فيه، حتى أنها باتت أقل هوساً بقراءة علم النفس بوصفه فهماً للغاية والدافع واللاشعور، لذا سلكت تجربتها في الفهم، مسلك الظهور في صورٍ تبدو فيها مثيرة، أو فيديو تلبس فيه نقاباً وتسير في الطريق... أهذا جنونٌ؟ لا، هذا تناقض عقيم، يكمن في قلة التجربة السلوكية المُعاينة في مجتمعات الكبت والاستبداد. يبدو هذا اكتشافاً، سوزان تلوذ باكتشافات جديدة لتكتب، أو لتتموضع في شعورٍ مختلفٍ عما تبدو عليه حياتها. سوزان أغنى في جرأتها، أو حتى في انحدار ما تستطيع شرحه وقوله، لكنها تبدو هي هي، في التعبير عن شخصها بلا خوف أو وجل، وفي استعداد هوسي لصراعٍ غير منتهٍ مع أي أحدٍ قد يخالفها. في استحضار البشاعة كجمال أخيراً؛ تتأرجح سوزان بين كتابتها الرقيقة جداً، وبين شخصها العنيف القابل لانفجارات متتالية، ليست إيروتيكية، كما يُسارع البعض إلى اتهامها، بقدر ما يبدو الإيروتيك عندها؛ تجربة عريٍّ للجسد والشخص وورقة نعيٍ، وأمومةٍ ومحبّة!.، ذلك ما يدعى عرياً لتجربة شخصية نتشاركها كلنا بسهولة معها.
--------
المدن

ادهم حنا
الاحد 17 أكتوبر 2021