تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

سورية: عام على الجمهورية الثالثة

09/12/2025 - عدنان عبد الرزاق

سبع عشرة حقيبة للمنفى

27/11/2025 - خولة برغوث

في أهمّية جيفري إبستين

26/11/2025 - مضر رياض الدبس


صياغة النشيد الوطني في السياقات الانتقالية




يمثّل ابتكار نشيد وطني خلال التحولات السياسية مهمةً بالغة الأهمية تتجاوز مجرد تأليف الموسيقى والكلمات. ففي أدبيات العدالة الانتقالية، يُنظر إلى الأناشيد الوطنية بوصفها رموزاً قوية للهوية الجماعية، قادرةً على تعزيز المصالحة أو ترسيخ الانقسام تبعاً للآلية التي تتشكل من خلالها


وتؤكد الدراسات الخاصة بالتحولات السياسية أنَّ الرموز الوطنية لا تكتسب شرعيتها من قوة القرار أو سرعة اعتماده، بل من انبثاقها داخل أطرٍ شاملة وتشاركية، لا من خيارات متعجلة.
وتقدم التجارب المقارنة في الدول التي خاضت تحولات مماثلة إضاءات مهمة حول المعايير والآليات والأطر الزمنية اللازمة لصياغة نشيد وطني يُسهم إيجاباً في بناء السلام وترسيخ الديمقراطية. ويُظهر فحص هذه الأطر أنَّ الشرعية الإجرائية كثيراً ما تكون، في الأثر والنتائج، بمستوى أهمية المضمون الموضوعي عند تحديد ما إذا كان النشيد يوحّد المجتمع في المرحلة الانتقالية أم يعمّق انقساماته.
وتشدّد أدبيات العدالة الانتقالية على أنَّ الرموز لا ينبغي أن تُفرض على عجل، بل أن تتبلور تدريجياً عبر آليات مؤسسية تتيح المعالجة المجتمعية للأثر العاطفي للنزاع، وتضمن إشراك أصحاب المصلحة، وتُراكِم توافقاً حقيقياً حول معاني الهوية الوطنية المشتركة.
لقد اعتمدت أنجح عمليات اعتماد الأناشيد الوطنية في السياقات الانتقالية لجاناً متعددة التخصصات تمثل قطاعات متنوعة من المجتمع، بدلاً من الاقتصار على الهيئات الحكومية أو مسابقات تُدار من داخل الوزارات. ويُستشهد بالنموذج الجنوب أفريقي في هذا السياق بوصفه مثالاً معيارياً لدمج الاعتبارات الفنية والرمزية ضمن إطار سياسي جامع. فقد ضمّت اللجنة المسؤولة عن صياغة النشيد الوطني الهجين اثني عشر عضواً من اختصاصات وخبرات متعددة، شملت ملحنين وشعراء وأكاديميين وممثلين عن المجتمع المدني، بما أتاح موازنة الكفاءة الموسيقية والجودة الأدبية والحساسية الثقافية مع الحاجة إلى شرعية سياسية جامعة.
وتحدد الأدبيات بشكل متكرر فئات تمثيل أساسية لمثل هذه اللجان، تشمل: خبراء موسيقى وملحنين ذوي مؤهلات موثّقة؛ شعراء وأدباء ملمين باللغة الرمزية وإيحاءاتها؛ مختصين في التراث الثقافي على دراية بتقاليد متعددة؛ ممثلين عن المجتمع المدني ومدافعين عن حقوق الإنسان؛ ممثلين إقليميين ومجتمعيين مستقلين عن البنى الحزبية؛ خبراء في القانون الدستوري لضمان الاتساق مع المبادئ الدستورية والحقوق الأساسية؛ وممثلين عن الشباب لضمان الشرعية بين الأجيال. ويُسهم هذا التعدد في منع احتكار فئة بعينها لعملية صياغة النشيد، مع ضمان الحد الأدنى من الكفاءة الفنية والقانونية في آن واحد.
تكشف الدراسات عن قصورٍ بنيوي في المناهج التي تعتمد حصراً على مسابقات تُدار عبر الوزارات دون آليات تشاركية أوسع؛ إذ غالباً ما يُنظر إلى العمليات التي تقودها الوزارات بوصفها مركزية وإقصائية، بما يقوض ملكية الجمهور للرمز الناتج. كما تبرز مخاطر التسييس عندما تُهيمن الاعتبارات الحزبية على تشكيل لجان الاختيار، فتُقدَّم المصالح السياسية على حساب الجدارة والمعنى الجامع. وإضافة إلى ذلك، تفشل هذه المناهج عادةً في ضمان التشاور الفعّال مع الفئات الأكثر تضرراً من النزاع، بمن في ذلك النازحون والأقليات والناجون، وهو ما تُعده العدالة الانتقالية شرطاً جوهرياً في مقاربةٍ تتمحور حول الضحايا.
ومن دون جلسات استماع عامة ومعايير منشورة للتقييم، تبدو إجراءات الاختيار تعسفية وغير خاضعة للمساءلة؛ كما أنَّ الضغط السياسي يميل إلى تقليص مساحة المداولات الهادئة، بما ينتج رموزاً عاجزة عن التعبير الكافي عن الهوية الوطنية المركبة.
وتفترض شرعية النشيد الوطني في السياقات الانتقالية مشاركةً متعددة المستويات تُبنى على مراحل متتابعة. تبدأ المرحلة الأولى، وهي مرحلة التشاور العام واسع النطاق، وتمتد عادةً من ثلاثة إلى ستة أشهر، عبر حملات توعية مدنية تشرح الدور الدستوري للنشيد ومعايير اختياره، ومشاورات إقليمية لجمع التصورات حول القيم الجامعة والخطوط الحمراء، وإشراك المجتمع المدني من خلال منتديات وهيئات ثقافية، إلى جانب منصات رقمية تُيسّر مشاركة المغتربين.
تلي ذلك مرحلة مسابقة مفتوحة تُدار وفق إرشادات تقديم شفافة ومعايير تقييم معلنة تركز على الجدارة الفنية والشمولية وسهولة الأداء والغناء والملاءمة الرمزية. ثم تأتي مرحلة تقييم لجنة الخبراء، بما تشمل من فحص فني ومراجعة مضمون وإعلان مبررات الاختيار. وبعد ذلك، تخضع المقترحات النهائية لاختبارات أداء في المدارس والفضاءات العامة، مع فتح فترات منظمة لتلقي الملاحظات تُمكّن المجتمع المدني وجماعات الضحايا من إبداء الرأي. وأخيراً، يُسهم التصديق التشريعي أو الشعبي- عبر نقاشات برلمانية أو آليات استفتائية- في تثبيت الشرعية وتحصين الرمز من الطعن السياسي اللاحق.
وما أريد قوله باختصار، إنَّ صياغة النشيد الوطني في السياقات الانتقالية ليست مسألة ذائقة فنية بقدر ما هي اختبار لقدرة الدولة والمجتمع على إنتاج رمز جامع عبر مسارٍ مشروع وشفاف. فحين تُبنى العملية على تصميم مؤسسي تعددي، ومعايير معلنة، ومشاركة ممتدة زمنياً تتيح التوافق والتعافي الرمزي، يصبح النشيد أداة لترميم الثقة وتثبيت الانتماء المدني المشترك. أما التعجيل والإقصاء، مهما حسُنت النوايا، فينذر بتحويل الرمز إلى ساحة تنازع سياسي وإعادة إنتاج الانقسام. لذلك، فإنَّ الاستثمار في الشرعية الإجرائية هنا هو استثمار في السلم الأهلي وفي الأساس الرمزي للديمقراطية الناشئة.

فضل عبد الغني - الثورة السورية
الاحد 21 ديسمبر 2025