-
- منذ قرابة قرن دأب جيل الرواد على استخدام كلمة «دمشق» أو «جِلَّق» للدلالة على العاصمة السورية انسجاماً مع ما اتسموا به من سعي لإحياء المفردات الرصينة. وكثيراً ما ألحقوا بدمشق وصف «الفيحاء»، وربما دفعهم السجع والجذل إلى المتابعة بغوطتها «الغنّاء». فحينها كان كل شيء في مكانه؛ أبناء دمشق في دمشق، وأهل الغوطة في أراضيهم، فلاحون سهليون يؤمّنون للعاصمة «المونة» التي تتيح لها ما قيل عن تحضير أربعين نوعاً من المربيات التي تقدّم على الفطور، والفواكه المجففة لليالي الشتاء، مثلما تقدّم حوران الحبوب. وكان أبناء «المحافظات» في مدنهم وقراهم البعيدة، يأتي ممثلوهم من الأعيان، الذين يشبهون نظراءهم الدمشقيين، لحضور جلسات البرلمان أو اجتماعات الكتلة الوطنية، ويعودون بسلام. لم يكن اكتظاظ العواصم قد عُرف بعد، وربما لم يكن مصطلح التغيير الديموغرافي قد وجد.
بعد الاستقلال، وفي عقد الخمسينيات، بدأت العاصمة تظهر بوصفها هذا بشكل أوضح؛ مركزاً للنضال الوطني ضد العسكر الانقلابيين بالدرجة الأولى، والقومي تجاه فلسطين وقضايا عربية أخرى، والتنافس الحزبي. وبدأت مشاركات فيروز في إحياء حفلات «معرض دمشق الدولي»، بأغان فصيحة مفتخِرة بقلم سعيد عقل غالباً وألحان حماسية مناسبة. فيما بدت دمشق الأكثر وقائعية في أعمال حكمت محسن عبر الإذاعة (أُسست في عام 1947) الذي قدّم مسرحيات وتمثيليات ناقدة «للعادات الاجتماعية السيئة» مستخدماً مونولوجات شعبية وأغان مضحكة. وحين نشأ التلفزيون (في عام 1961)، على يد دمشقيين ومن في حكمهم، بدت في أعماله الأولى نزعة تنويرية هادئة لكن غير منبتّة عن الجذور الأهلية.
خصام دمشق الجاد كان مع سلطة حزب البعث التي أتت بالتأميم والاشتراكية وحكم الضباط «الغرباء» إلى درجة اضطر فيها «الأستاذ» ميشيل عفلق إلى التدخل لدى رفاقه، ومن يُفترض أنهم تلامذته في الحقيقة، لتثبيت رئاسة زميله المؤسس صلاح الدين البيطار للحكومة، لأن إبعاده سيزيد من شعور الدمشقيين بالإقصاء. لكن ذلك لم يفلح طويلاً مع الإطاحة بعفلق نفسه وبقيادته القومية ودخول البلاد في حالة احتقان حتى انقلاب حافظ الأسد الذي قيل إن ترحيب سوق «الحميدية» به وصل إلى درجة كتابة لافتة: «طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد». وقد رفعها تجار سيسهمون في تدعيم حكمه عند صراعه مع الإسلاميين في الثمانينيات.
وفي عهده الدكتاتوري ستكتسي دمشق بالأوصاف الملائمة لسياساته. فهي طوراً «قلب العروبة النابض» بالنظر إلى كونه «فارس العرب»، وحيناً عاصمة «الصمود والتصدي» حين اختلف مع بعض العرب وتحالف مع بعضهم، وكثيراً «عاصمة الأمويين» عندما يحلو له أن يشبَّه، في صلة عابرة للتاريخ، بمعاوية بن أبي سفيان، فضلاً عن طموح آخر في أن يستعيد صورة صلاح الدين الأيوبي، فيكون «بطل الحرب والسلام».
في التسعينيات، بعدما هدأت قعقعة المعارك الإعلامية وتخامد غبارها المفترض، وخاصة مع العقد الأول من حكم ولده بشار، أخذت «الشام» تتجه لتصبح «عاصمة الياسمين» مع الانفتاح النسبي وتحرير الاقتصاد جزئياً وتحديث إعلامي تجلى بزيادة أعداد الإذاعات الخاصة التي كانت تبث «فيروزيات الصباح» على جمهورها المكون من ركاب السرافيس من الموظفين والطلاب، مع توسع الضواحي وتحول البلدات الريفية لمحيط دمشق إلى تجمعات سكنية كبيرة، وتسرّب نوع من «القومية السورية» اللايت إلى الإعلام غير الرسمي، حل محل البعث الذي يغلب عليه التجهم مهما حاول التجديد، محمولة على لبننة دخلت إلى البلاد تهريباً مثل كل الكماليات الفائضة عن «القصعة».
لكن هذه المدينة، المشكّلة من حيّ باب توما وفيروز رائقة غير معتدّة وأحياء عشوائية طرفية محشوة بالمهاجرين من الأرياف، بدت مقلقة لدمشقيين رأوا أن تعريف مدينتهم في خطر، فصنعوا مسلسلات «البيئة الشامية» كردة فعل، لا تخلو من فجاجة، على إحساس دمشق بأن هويتها تُفلت من يدها، مستذكرة الألفة والتكافل «الرحماني» تحت سلطة هرمية عضوية حكيمة. وبديلاً عن المسلسل الرائد «حارة القصر»، الذي كتبه وأخرجه دمشقيان عن زمنهما الراهن؛ تحول «باب الحارة»، السلسلة المزمنة، إلى تقديم حياة متخيلة في «حارة الضبع». كما كتبوا عن العادات والتقاليد والحِرَف والأمثال والمفردات العتيقة لدمشق «أيام زمان». وألّف الأكثر رصانة وتوثيقاً كتب المعالم لتثبيت خريطة الجوامع والمدارس الأثرية والحمامات والأضرحة التي تزول بفعل الزمن والمخططات التنظيمية المستهترة أو المغرضة كما يجزم البعض.
أثناء الثورة حاولت «دمشق الياسمين» أن تحتفظ بتمثيل المشهد، لأنها الأنسب لحكمٍ يريد أن يبدو، للخارج والداخل، مستقراً وCool رغم «الحرب». لكن الأخيرة فرضت نفسها عندما أصبحت أشهر مصادر الأخبار هي صفحات فيسبوك من نوع «دمشق الآن» التي يوحي اسمها بالعواجل، و«يوميات قذيفة هاون في دمشق» بعنوان أكثر وضوحاً. فضلاً عن الفضائيات الخارجية المحظورة.
بعد سقوط الأسد برزت إلى السطح بسرعة معالم الاعتزاز بالعاصمة والنشوة بالسيطرة عليها. وسواء أسميّت «دمشق» أم «الشام» فقد جرى الافتخار بجذورها الأموية. بالضد مما يعدّ «حكماً علوياً» لها حتى ذلك الوقت، وانضواءَه في حلف شيعيّ كان أهل البلد يلاحظونه يومياً عبر زوار المراقد. كما عنت «الأموية الجديدة» طموحاً اقتصادياً صرّح مراراً برغبته في أن تستعيد سورية «دورها الريادي» في المنطقة وعلاقاتها مع العالم، وعصبويّة محلية متشكّكة بالأقليات من الطوائف غير السنّية، ومعادية للحداثة غير التقنية أو المصرفية.
وقد حملت الأشهر المديدة التي مرّت منذ ذلك الوقت تفسيرات أوضح لهذه الأموية وتجليات عملية لها. إذ تقشرت نزعتها التجارية عن صفقات براقة عجلى أو تفاهمات مبدئية يُقصد منها التسويق الإعلامي وتغيب عنها الشفافية ويُعتمَد لها المحاسيب ويُشك في إمكانية تنفيذها لأسباب عديدة. وانكشف أن ميلها الذي كان يسمى براغماتياً يهدف فقط إلى إرضاء الدول الفاعلة مع قلة اكتراث برأي السوريين، بل بمحاولة إخضاعهم بالحديد والنار والخطف والحصار إن لم ينخرطوا في المشروع المركزي الذي لا يتقن اللعب بشعرة معاوية، مفضلاً الفزعات والنفير العشائري. مستخدماً، لبسط سلطته، جنوداً من أرياف إدلب وحماة وحلب نُظموا على عجل في «القوات الحكومية»، ومؤازرات قبَلية وصلت إلى درجة البداوة.
إنها أموية من دون أمويين.
-----------
الجمهورية
-
عيون المقالات
|
دمشق بين عقودٍ وحقب الصور المتبدّلة للعاصمة السوريةإذا كان الوسط التجاري هو قلب «أقدم عاصمة في التاريخ» فربما تناوَب، وتعاوَن، على رسم وجهها في العصر الحديث ثلاثة من رموزها البارزة؛ نهر بردى دلالة على العذوبة والسيولة والخضرة، وجبل قاسيون أمارة على العزة والشموخ ومقاومة الغزاة، والجامع الأموي معلَماً على العراقة أو التدين أو عليهما معاً.حسام جزماتي
الخميس 18 سبتمبر 2025
إقرأ المزيد :
ليس بحذف الأصفار وحده تقوى العملة يا سورية - 18/09/2025"حزب الله" ونهاية عصر الميليشيات - 18/09/2025أعيدوا لنا العلم - 18/09/2025 |
|
|