تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

هل يعرف السوريون بعضهم بعضا؟

29/10/2025 - فارس الذهبي

كلمة للفائزين بعضوية مجلس الشعب السوري

26/10/2025 - ياسر محمد القادري

سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة

13/10/2025 - ياسين الحاج صالح

اوروبا تستعد للحرب

13/10/2025 - د. إبراهيم حمامي

من الفزعة إلى الدولة

13/10/2025 - حسان الأسود

انتخاب أم اصطفاء في سورية؟

13/10/2025 - احمد طعمة

المسار التفاوضي بين الحكومة السورية وقسد.. إلى أين؟

01/10/2025 - العقيد عبدالجبار العكيدي


هل يعرف السوريون بعضهم بعضا؟






لم يكن سؤال المعرفة المتبادلة بين السوريين سؤالاً مطروحاً على نطاق واسع، قبل عام 2011، فالمجتمع الذي أُخضع لعقود طويلة من الاستبداد الأمني لم تتح له فرصة مساءلة بنيته ولا اكتشاف ذاته، لأن السياسة -كما يشير هانس مورغنثاو- تبدأ من الاعتراف بوجود الآخر كمكوّن في المجال العام، في حين قامت الدولة السورية الأسدية على نفي المجتمع وتحويله إلى أفراد معزولين محكومين بالخوف.


 

جُرّفت السياسة عبر تدمير وسائطها التقليدية: الأحزاب، النقابات، الصحافة، الجامعات، ومنظمات المجتمع المدني، ومع تعطيل المجال العمومي -بالمعنى الذي يقصده هابرماس- تفكك المجتمع السوري إلى كتل صامتة تعيش تحت سلطة شمولية منعت التواصل الأفقي بين الناس لحماية هرم السلطة.

تلك المساحات التي كانت الدولة الأمنية قد سحقتها طوال عقود، إبان قمعها الأحزاب السياسية، ومصادرة المجتمع المدني، وتحويل النقابات إلى هياكل خاوية، واعتقال السياسة داخل أقبية الأجهزة الأمنية.

بعد 14 عاما من المحنة السورية، وبعد سقوط النظام القديم -سياسياً وأخلاقياً ورمزياً- يبقى السؤال الأعمق مطروحاً بإلحاح: هل يعرف السوريون بعضهم؟ وهل يمتلك هذا الشعب تصورا حقيقيا عن ذاته وعن مكوناته المتعددة؟

لقد استطاع النظام الأسدي أن يفكّك البنية العامة للتواصل الوطني، وأن يعزل السوريين عن بعضهم بعضا عبر الخوف، والمراقبة، والرقابة، والتجريم، لكن ظهور المنصات الرقمية كسر هذا الجدار، فكانت بمنزلة ساحة بديلة للقاء، ومتنفساً للجيل الجديد الذي حُرم من الجامعة بوصفها فضاًء حراً، ومن الصحافة بوصفها ميداناً للنقاش العام، ومن المنابر الثقافية والسياسية بوصفها أدوات للتفكير والنقد والمحاسبة.

لعبت هذه المنصات دوراً مفصلياً في التعبئة الأولى للاحتجاج، وفي مشاركة الأفكار والشعارات وتنسيق التظاهرات، كما وفّرت للسوريين إمكانية التعبير بأسماء مستعارة خوفاً من الاعتقال والملاحقة والتغييب.

كانت تلك خطوة مهمة أزاحت الخوف جزئياً، وفتحت الباب لتواصل وطني ولتعبير سياسي لم يكن ممكناً في زمن الاستبداد الطويل، وقرّب أبناء الأقاليم المتباعدة والتي أصر النظام الدكتاتوري على أن يوغل في تفريقها بجميع الطرق ما عدا الشعبوية "التربوية على الطريقة البعثية"، بل إن هذا الفضاء الرقمي كان أحد العوامل التي أسهمت في زعزعة واحد من أعتى أنظمة الحكم التوتاليتاري في العالم.

لكن بعد 14 عاما من المحنة السورية، وبعد سقوط النظام القديم -سياسياً وأخلاقياً ورمزياً- يبقى السؤال الأعمق مطروحاً بإلحاح: هل يعرف السوريون بعضهم؟ وهل يمتلك هذا الشعب تصورا حقيقيا عن ذاته وعن مكوناته المتعددة؟

السؤال مشروع، لأنّ ما جرى في سوريا لم يكن فقط ثورة على نظام سياسي، بل كان أيضا زلزالاً اجتماعياً، دُمّرت المدن والقرى، وتهجر نصف السكان، وتفكّكت الشبكات الاجتماعية التقليدية التي كانت تنظم العلاقات داخل المجتمع.

انقطعت الروابط بين العائلات، وتباعدت المجموعات المحلية، واختلطت الهويات بالمخاوف، وارتفعت الجدران النفسية والطائفية والإثنية والسياسية بين السوريين، ومع الشتات الواسع في المنافي، ومع بقاء مجموعات كبيرة داخل مناطق نفوذ سلطات أمر واقع متعددة، صار الفضاء السوري موزّعاً إلى جزر معزولة لا تملك معرفة حقيقية ببعضها.

كان يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي أن تساعد في تجاوز هذه القطيعة، لكنها لم تفعل إلا جزئياً، فهي، رغم ما وفرته من فرصة للتعارف والتواصل، بقيت عاجزة عن خلق معرفة حقيقية بين السوريين. ما حدث غالباً هو العكس: كل فئة صنعت لنفسها فقاعتها الخاصة، وراحت تعيد تدوير أفكارها داخل دائرتها المغلقة.

الخوارزميات التي تحكم هذه المنصات صُممت أصلاً لتعزيز التحيز وتعظيم التفاعل العاطفي السريع، لا لبناء فهم عقلاني أو جسور بين المختلفين، وهكذا صار السوري في المهجر يتحدث ويكتب ويتفاعل داخل شبكة محدودة تشبهه وتؤكد أفكاره، في حين يعيش السوري في الداخل وسط عالم آخر مغلق، وكذلك من يعيش في مناطق النفوذ المختلفة، مما أدى إلى نشوء "التواصل الشبكي" الذي يسهم في التعبئة السريعة لكنه عاجز عن بناء الثقة الاجتماعية طويلة الأمد.

تظهر هنا مشكلة الجوهر: هذا النوع من التواصل الرقمي يولد معرفة زائفة بالآخر، أو ما يمكن تسميته بالتواصل البارد، معرفة بلا احتكاك إنساني، بلا وجوه بشرية، بلا أصوات جسدية أو ملامح حقيقية أو تفاعل وجداني، معرفة معلقة في الفراغ تتغذى من الصور النمطية والتصنيفات الجاهزة.

فالكردي بالنسبة إلى بعضهم "انفصالي"، والسني "متطرف"، والعلوي "شبيح"، والمسيحي "صامت"، والدرزي "براغماتي"، واليساري "عدمي طائفي"، والإسلامي "ظلامي"، والمعارض "عميل"، والمثقف "منفصل عن الواقع"، هذه ليست معرفة، بل تعميمات قاتلة وأقنعة تحول المجتمع إلى كتل متخيلة، لا إلى بشر.

المشكلة الأشد خطراً هي تحويل الناس إلى أرقام، في عالم المنصات، يصبح الإنسان متابعاً أو مشاهداً أو حساباً، يفقد جسده ورائحته ونبرته ونزقه وهشاشته وانفعالاته وفرديته، يفقد حياته التي هي أساس السياسة والاجتماع والإبداع.

هنا تتفوق السلطة دائماً، لأنّها تعرف شيئاً بسيطاً: مهما تعاظم ضجيج الرأي العام في الإنترنت، فإنه يبقى محكوماً بالافتراضية وبإمكان السيطرة عليه من خلال الجيوش الإلكترونية، أمّا الشارع فشيء آخر، الأرض شيء آخر، اللقاء بين البشر في المنتديات والمؤتمرات السياسية والميادين والساحات شيء آخر.

لهذا يبدو أن وسائل التواصل الاجتماعي، رغم أهميتها في التعبير وكسر الخوف، ليست بديلاً عن الفضاء العام الحقيقي، هي أداة، لكنها ليست بيتاً، هي مرآة مشوهة للواقع، وليست الواقع نفسه، وهي قد تسهم في خلق وعي أولي، لكنها لا تصنع مجتمعاً ولا تبني ثقة ولا تؤسس لعقد اجتماعي جديد.

فهل يعرف السوريون بعضهم بعضاً اليوم مجدداً، بعد 14 عاماً من الثورة والحرب والتهجير؟ يمكن القول إن السوريين يمتلكون معرفة أكبر بالمصائر المشتركة، لكنهم لا يمتلكون معرفة حقيقية ببعضهم بعضاً.

المطلوب هو تجاوز لغة التخوين والتصنيف، وبناء لغة سياسية وأخلاقية جديدة تدرك أن سوريا ليست شعاراً، بل شبكة حياة معقدة لشعب موزع في كل مكان، يريد أن يعيد اكتشاف نفسه من جديد..

فقد أنتجت الحرب أكبر عملية تفكيك اجتماعي في تاريخ سوريا الحديث. نصف الشعب تغير مكان عيشه، ملايين لجأوا أو نزحوا داخلياً، ثم توزعت البلاد بين قوى أمر واقع متعددة، ومع هذا التمزق، حلّت وسائط التواصل محل الواقع، فباتت العلاقة بين السوريين محكومة بما وصفه بنديكت أندرسون بـ"الجماعات المتخيلة"، لكن ليس بمعناها الإيجابي المؤسس للوطنية الحديثة، بل بمعناها المنكسر الذي يقوم على الصور المتبادلة من دون اختبار اجتماعي مباشر.

هذه المعرفة الشكلية ما زالت مشروخة، سطحية، محكومة بالشك وسوء الفهم، المطلوب اليوم ليس المزيد من الضجيج الرقمي، بل المزيد من اللقاءات الإنسانية الواقعية، المطلوب فتح الفضاء العام وتدعيم الثقة بمساحات الحوار الشعبي، للقاء بين الضحايا من كل الأطراف، للسؤال عن العدالة الانتقالية والمصالحة وحقيقة ما جرى.

المطلوب هو تجاوز لغة التخوين والتصنيف، وبناء لغة سياسية وأخلاقية جديدة تدرك أن سوريا ليست شعاراً، بل شبكة حياة معقدة لشعب موزع في كل مكان، يريد أن يعيد اكتشاف نفسه من جديد.

المعرفة الحقيقية بالآخر لا تأتي عبر الشاشة، بل تأتي حين نسمع قصته كاملة من دون خوف، حين نرى دموعه تسبق كلماته، حين ندرك أن الآلام لا مذهب لها، وأن الطغيان يقتل الجميع وإن تفاوتت أشكاله. تبدأ المعرفة حين نسأل: من نحن؟ لا كشعار قومي أجوف، ولا كهوية قاتلة، بل كسؤال إنساني مفتوح يعترف بالتعدد والاختلاف. عندها فقط يمكن لسوريا أن تبدأ حياتها من جديد.
---------
تلفزيون سوريا


فارس الذهبي
الاربعاء 29 أكتوبر 2025