انفتح بشار أسد على الأتراك لعدة أسباب، منها رغبته في الاستفادة من النموذج الاقتصادي التركي الذي كان يصعد ويُبشّر بالنجاح، وبالتالي فكّ العزلة المضروبة حوله، وازداد التقارب مع أنقرة بسبب الموقف المتشابه والداعم لحركة حماس. وقد يكون الأسد اقتنع بأنّ إيران تنفعه عسكرياً وأمنياً وهي حليف استراتيجي، لكنها لا تملك نموذجاً اقتصادياً. وقد يكون الخوف من هيمنة إيرانية مطلقة على سوريا الأسد دفعه لموازنة ذلك بنفوذ تركي منافس. أيضاً، وباعتبار الأتراك محسوبين على الغرب وأعضاء في حلف الناتو، فممكن اعتِبارهم نافذة يُطلّ الأسد من خلالها على المحور الغربي ويُخفّف الاحتقان منه باعتبار سوريا دولة مارقة وراعية للإرهاب وتدور في الفلك الإيراني.
أما الأتراك، وهم النمور الاقتصاديون الجُدد، فأرادوا الاستدارة جنوباً باتجاه العرب عبر البوابة السورية لفتح أسواق جديدة وفضاء استراتيجي إضافي بعد تعثّر الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبروز صبغة إسلامية غير معتادة عند حكام تركيا الجدد.
كان التقارب التركي مع الأسد يحظى بدعم أمريكي لعلّ وعسى يتمكّن الأتراك من عقلنة الأسد، خاصة بعد مواقفه المتماهية مع قاسم سليماني في الملف العراقي إثر الغزو الأمريكي واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. ووصل الأمر بتركيا أن قادت وساطة لتطبيع العلاقة بين سوريا الأسد وإسرائيل فشلت في مراحلها الأخيرة.
مع انطلاق الثورة السورية، كان الأسد مدعوماً من الكيان الأزرق في الجنوب، ومدعوماً من لبنان والعراق بسبب سيطرة الحرس الثوري الإيراني عليهما، وبقي الخطر الحقيقي عليه من تركيا في الشمال، وهو ما حصل في النهاية، حيث كانت قوى الثورة السورية المدعومة من تركيا هي التي أطاحت به وأسقطته عن عرشه.
وخلال سنيّ الثورة الطويلة، تساقط معظم داعمي الثورة ولم يبقَ إلا دولتان فقط هما تركيا وقطر، لم يتأثّر موقفهما الداعم للثورة السورية وثبتتا على موقفهما إلى أن أسقط السوريون أسد السيرك في دمشق.
لذلك يمكننا القول إنّ الأتراك يمتازون بامتلاك صبر استراتيجي هائل، ومراكمة الإنجازات، وإخفاء الأهداف الحقيقية الكبرى، والتمويه والخداع عنها بإقناع الخصوم والأعداء والمنافسين بأهداف أخرى يسعون لتحقيقها. وأبسط أو أحدث مثال على ذلك هو التخطيط قبل سنوات لإسقاط الأسد، والتظاهر بخطب ودّه وإصلاح العلاقة معه، مع أنّ كل الترتيبات مع قوى الثورة السورية كانت تسير بخطى حثيثة لإطلاق معركة ردع العدوان.
وقبل إسقاط الأسد، أدارت تركيا بكل حكمة الصراع في سوريا، وكانت آخر المتدخلين العسكريين المباشرين، وكسبت هي فيما خرج (أو سيخرج) البقية من المولد بلا حمص.
وكان ذلك صعباً لأنّ خصومها في الملف السوري هما أكبر قوتين عظميين في العالم: الولايات المتحدة التي تدخلت تحت شرعية محاربة الإرهاب، والاتحاد الروسي الذي تدخل بطلب الحكومة التي يعتبرها العالم شرعية، بينما تركيا انتزعت التدخل انتزاعاً من فكي الروس والأمريكان. وكان تطهير الجيش والإدارة من التنظيم الموازي بعد الانقلاب في 2016 هو ما أراح القيادة التركية في رسم سياساتها في الملف السوري.
ويمكننا تحديد ملامح الإستراتيجية التركية تجاه سوريا بالثوابت التالية:
أرى أنّ الثوابت الثلاثة السالفة الذكر هي من أهمّ محددات الإستراتيجية التركية تجاه سوريا.
---------
نينار برس
أما الأتراك، وهم النمور الاقتصاديون الجُدد، فأرادوا الاستدارة جنوباً باتجاه العرب عبر البوابة السورية لفتح أسواق جديدة وفضاء استراتيجي إضافي بعد تعثّر الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبروز صبغة إسلامية غير معتادة عند حكام تركيا الجدد.
كان التقارب التركي مع الأسد يحظى بدعم أمريكي لعلّ وعسى يتمكّن الأتراك من عقلنة الأسد، خاصة بعد مواقفه المتماهية مع قاسم سليماني في الملف العراقي إثر الغزو الأمريكي واغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري. ووصل الأمر بتركيا أن قادت وساطة لتطبيع العلاقة بين سوريا الأسد وإسرائيل فشلت في مراحلها الأخيرة.
مع انطلاق الثورة السورية، كان الأسد مدعوماً من الكيان الأزرق في الجنوب، ومدعوماً من لبنان والعراق بسبب سيطرة الحرس الثوري الإيراني عليهما، وبقي الخطر الحقيقي عليه من تركيا في الشمال، وهو ما حصل في النهاية، حيث كانت قوى الثورة السورية المدعومة من تركيا هي التي أطاحت به وأسقطته عن عرشه.
وخلال سنيّ الثورة الطويلة، تساقط معظم داعمي الثورة ولم يبقَ إلا دولتان فقط هما تركيا وقطر، لم يتأثّر موقفهما الداعم للثورة السورية وثبتتا على موقفهما إلى أن أسقط السوريون أسد السيرك في دمشق.
لذلك يمكننا القول إنّ الأتراك يمتازون بامتلاك صبر استراتيجي هائل، ومراكمة الإنجازات، وإخفاء الأهداف الحقيقية الكبرى، والتمويه والخداع عنها بإقناع الخصوم والأعداء والمنافسين بأهداف أخرى يسعون لتحقيقها. وأبسط أو أحدث مثال على ذلك هو التخطيط قبل سنوات لإسقاط الأسد، والتظاهر بخطب ودّه وإصلاح العلاقة معه، مع أنّ كل الترتيبات مع قوى الثورة السورية كانت تسير بخطى حثيثة لإطلاق معركة ردع العدوان.
وقبل إسقاط الأسد، أدارت تركيا بكل حكمة الصراع في سوريا، وكانت آخر المتدخلين العسكريين المباشرين، وكسبت هي فيما خرج (أو سيخرج) البقية من المولد بلا حمص.
وكان ذلك صعباً لأنّ خصومها في الملف السوري هما أكبر قوتين عظميين في العالم: الولايات المتحدة التي تدخلت تحت شرعية محاربة الإرهاب، والاتحاد الروسي الذي تدخل بطلب الحكومة التي يعتبرها العالم شرعية، بينما تركيا انتزعت التدخل انتزاعاً من فكي الروس والأمريكان. وكان تطهير الجيش والإدارة من التنظيم الموازي بعد الانقلاب في 2016 هو ما أراح القيادة التركية في رسم سياساتها في الملف السوري.
ويمكننا تحديد ملامح الإستراتيجية التركية تجاه سوريا بالثوابت التالية:
- وجود منظومة حكم صديقة في دمشق، بغضّ النظر عمّن يحكم في أنقرة ودمشق، وتلك نرى حيثيات إنضاجها أو بنائها، حيث لم تتوقف الزيارات الرسمية المعلنة والسرّية، وما تم الإعلان عنه من توقيع اتفاقيات عسكرية ودفاعية هو أقلّ مما قد يكون موجوداً على الأرض، إضافةً إلى الرعاية السياسية للعهد الجديد، والاندفاعة الاقتصادية نحوه على قاعدة ثابتة لا يمكن أن تتغيّر أو يعتريها الضعف، وهي الندية والمصالح المشتركة.
- سوريا فضاء استراتيجي ومجال حيوي جيوبوليتيكي لتركيا، ويوجد حدود طويلة بينهما وتداخل ثقافي ومجتمعي عميق بين شعبيهما، كما أنّ الوحدة في الدين والمذهب تُزيد من أواصر العلاقة بينهما. وسوريا وتركيا معاً تُشكّلان قلب العالم والرابط بين القارات الثلاث، والعلاقة الجيدة مع سوريا تفتح الجغرافيا وتُعيد التاريخ من البحر الأسود شمالاً إلى بحر العرب جنوباً، ككتلة بشرية متماسكة استمرت لقرون ولم تنهَر إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وقد أدرك مؤخراً العرب والترك أنّ مصيرهما واحد وعدوهما واحد، وقد يُفيد العرب والترك معاً البدء في إنشاء محور وفق أسس ثابتة ومتأنّية تردع أطماع الغربيين والعبرانيين والفرس، وكل الأسباب الموضوعية مهيّأة للبدء في بناء هذا المشروع، وسوريا واسطة العقد في هذا الحلف بعد أن تمّ قطع الهلال الشيعي اعتباراً منها.
- تعاني تركيا من مشكلة داخلية كبرى عمرها من عمر تأسيس الجمهورية التركية، وهي المشكلة الكردية. ولم تكن القوة التركية في بداية التسعينيات قادرة على منع إقامة كانتون كردي عراقي جنوبها وعلى تماس مع أكرادها، ولكن مستوى القوة التي تمتلكها الآن قادر على منع إقامة كانتون كردي في سوريا يُهدّد أمنها القومي. وبعد مسيرة طويلة من الإرهاب والدم، توصّل الأتراك إلى اتفاق تاريخي مع عبد الله أوجلان لإنهاء التمرّد المسلّح والبدء بالنضال السلمي والانخراط في الحياة السياسية الداخلية، وتدرك أنقرة أنّ هذا المسار التاريخي لن ينجح بوجود كانتون كردي مسلّح في سوريا. وهنا تتلاقى المصالح العليا لسوريا وتركيا في القضاء على هذا التهديد الذي يُقوّض الاستقرار في البلدين.
أرى أنّ الثوابت الثلاثة السالفة الذكر هي من أهمّ محددات الإستراتيجية التركية تجاه سوريا.
---------
نينار برس


الصفحات
سياسة








