نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

عن روسيا وإيران شرق المتوسّط

08/05/2024 - موفق نيربية

( في نقد السّياسة )

05/05/2024 - عبد الاله بلقزيز*

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام


هندسة الفتن: في المسألة الطائفيّة والإثنيّة وما بعد ربيع العرب






نمطان من النظم السياسيّة لاقيا دعمًا منقطعَ النظير من قبل الولايات المتّحدة وإنكلترا، منذ الثلث الثاني للقرن العشرين: الإسلامُ المتطرّف، والديكتاتوريّة.

حالنا هذه يختصرها نعوم تشومسكي، أحدُ أبرز ناقدي السياسات الخارجيّة الأمريكيّة: "كانت أمريكا وإنكلترا الداعمَ التقليديَّ للإسلام المتطرّف في وجه المدّ القوميّ..." ويضيف: "إسرائيل وأمريكا تريدان من الشعوب العربيّةِ أن تبقى تحت سيطرتنا؛ لذلك نرضى بديكتاتورٍ حليفٍ لنا يَحْكمها حتى نتمكّنَ من فعلِ ما يحلو لنا..."(1) في عالمنا العربيِّ نلاحظ كيف نما حكمُ الديكتاتوريّات العرب بالتزامن مع نموِّ الحركات الإسلاميّة المتطرفة. وعلى مدى نصف قرن، أصبح الإخوان المسلمون (نظام اليوم في دول "الربيع العربيّ")، وأنظمةُ الحكم الديكتاتوريّة (نظام الأمس) وجهين لعملةٍ يعتاش كلٌّ منهما على الآخر. وكادت الساحة العربيّةُ في عمليّة الصراع على السلطة تخلو إلّا من ديكتاتورٍ ومتطرّفٍ،وما عداهما مصيرُه السحقُ (على مستوى الحياة السياسيّة) أو التهميشُ (كما حصل للأقليّات الضعيفةِ على المستوى الاجتماعيِّ والديمغرافيّ). ثم إنّ الصدامَ الذي حصل بين الديكتاتور والإسلاميِّ المتطرّف كان المبرّرَ الأبرزَ الذي أطلق يدَ الأوّل في مقدّراتِ البلاد والعباد لعقودٍ طويلةٍ، وجعل الغربَ الذي احتضن الإسلاميَّ المتطرّف الهاربَ من الديكتاتور يغضُّ النظر عن أفعالِ الأخير بحجّة الحفاظ على "الاستقرار." يمثّل شبحُ هذا الواقع، الذي وضعنا فيه النظامُ العالميُّ الجديدُ، مأزقًا خانقًا لتطوّر الحياة السياسيّة لدى النظم العربيّة. فالمنطقة العربيّة مهدّدة في تنوّعها الثقافيّ والإثنيّ والطائفيّ، في عمليّةٍ أشبهَ بتفريغ المنطقة وجعلها أقرب إلى أن تكون خاليةً إلّا من ديكتاتورٍ أو متطرّفٍ.


  وقد عمد واضعو خرائط النظام العالميِّ الجديد إلى رسم خرائط المنطقة بما يخدم ذلك؛ وهو ما تحدّث عنه هنري كيسينجر، أحدُ أبرز مهندسي النظام العالميِّ الجديد، إذ قال: "تمَّ التلاعبُ بحدود الكثير من الدول العربيّة في المعاهدات التي فرضتْها القوى الأوروبيّةُ المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى. ولم تعطِ تلك القوى الاهتمامَ الكافي للتنوّع العرقيِّ والمذهبيّ عندما رسمتْ حدودَ دول المشرق العربيّ... فأسسُ وقيمُ معاهدة ويستفاليا عام 1648، التي أرست مفهومَ الدول الحديثة المستقلّة ذات السيادة، لم تطبّق قطّ بشكلٍ كاملٍ على دول العالم العربيّ. وقد تعرّضتْ هذه الحدود - الجديدة نسبيًّا- إلى تحدّياتٍ متعدّدةٍ، أغلبُها عسكريُّ الطابع."(2)
هندسة الفتن يقول هيكل: "كان زمنُ الحرب الباردة جامعةً كبرى تعلَّمتْ فيها القوى هندسةَ الفتن. وأكثر من ذلك، فإنّ البراعةَ في ‘الهندسة’ وصلتْ أحيانًا إلى إعادة هندسة الماضي وإعادة تركيب تاريخ المجتمعات بما يوافق مقاصد الأقوياء!" ويلفت من خلال حديثه ما يأتي: "في ظروف اشتدادِ الحرب الباردة، تأكّد أنّ السياسة الأمريكيّة، ابتداءً من عصر الرئيس آيزنهاور، راحت تعتمد سياسةً خارجيّةً يؤدّي الدينُ فيها دورًا بارزًا... وكان جون فوستر دالاس، وزيرُ خارجيّة آيزنهاور، قد وضع سياستين متوازيتين... والخلاصة فيها أنَّ الولايات المتّحدة ترى ثلاثَ دولٍ محوريّةٍ يلزم أن يرتكز عليها الحلف لتكتملَ فاعليّته [في مواجهة الماركسيّة الملحدة...] وهي:باكستان، وهي بالتعداد أكبرُ بُعدٍ إسلاميٍّ (وقتها)؛ وتركيا، وهي بالسلاح أقوى بلدٍ إسلاميٍّ (وقتها أيضًا)؛ ومصر، وهي بالأزهر أهمُّ مرجعيّةٍ إسلاميّةٍ (وقتها كذلك).أمّا السياسة الثانية... فهي إنشاءُ ما سمّي باسم مجلس الكنائس العالميّ، وكان الغرضُ من إنشائه جمع كلِّ الكنائس من المذاهب المسيحيّة المختلفة في تنظيمٍ واحدٍ لمواجهة الدعاوى الماركسيّة. وعليه فإنّه في الوقت الذي كانت فيه العسكريّة الأمريكيّة تحاول إنشاءَ حلفٍ إسلاميٍّ واسعٍ من كراتشي إلى القاهرة إلى أنقرة، فإنّ الديبلوماسيّة الأمريكيّة وضعتْ ثقلها وراء مجلس الكنائس العالميّ..."
الربيع العربيّ لئن أطاحت ثوراتُ هذا "الربيع" بعض رموزَ الديكتاتوريّة، فإنّ الحكومة الأمريكيّة دعمت الإسلامَ المتطرّفَ، بمساعدة الأموال السعوديّة كما يقول تشومسكي، وذلك عن طريق تأسيس مدراسَ لتعليم القرآن. والواقع أنّ هذه المدارس لم تكن للتعليم، بل لتحفيظِ القرآن عن ظهر قلب، ولزرع عقيدة الجهاد في النفوس. ثم إنّ المرحلةَ الأولى بعد هذا "الربيع" اختُصرتْ في حكوماتٍ إسلاميّة، ولاقت دعمًا منقطع النظير من قبل الولاياتِ المتّحدة والدول الغربيّة. ولكننا اليوم أمامَ انعطافٍ جديدٍ يتجلّى في الصدام بين الليبراليّين والإسلاميّين (مصر)، وبين الليبراليّين/ العلمانيّين والسلفيّين (تونس). وبالعودة إلى حديثِ تشومسكي فإننا نجد أنّ خيطَ الانتقال بين حكم الإسلام المتطرّفِ والنظام الديكتاتوريّ يجري ضمن لعبة. وخطّة اللعبة تطبّق نمطيًّا ولا تحتاج إلى عبقريّةٍ لفهمها: "فإنْ واجه ديكتاتورُك المفضّل مشكلاتٍ، قفْ إلى جانبه حتى آخر مدى؛ وعندما يستحيلُ الاستمرارُ في دعمه، ابعثْه إلى مكانٍ ما وأصدرْ تصريحاتٍ رنّانةٍ عن حبّك للديمقراطيّة، ثم حاولِ الإبقاءَ على النظامِ القديم ربّما بأسماء جديدة... وهذا ما وجدناه في مصرَ وتونس والدول المثيلة." ولذلك ليس غريبًا أن نجدَ خلال الاحتلال الأمريكيّ للعراق، وفي ثورات "الربيع العربيّ،" كيف رُفعتْ عبارة GAME OVER لتكونَ أشبه بشفيرةٍ لعمليّة التغيير.
تفريغ المنطقةِ من ثقافاتها منذ أواخر القرن التاسع عشر شهدتْ بلادُ الشام هجرةً واسعةً للمسيحيّين، لكنّ الهجرةَ الكبرى كانت على مدى السنواتِ الثلاثين الماضية. فثمّة إحصائيّة تقدّر المسيحيّين في سوريا عام 1980 بـ 16.5% من عدد السكّان. وهناك إحصائيّةٌ نشرتْها وزارةُ الإعلام السوريّة في العام 1982 قدّرتْ نسبتَهم بـ 13.5 %. أمّا الباحث الهولنديّ نيقولاوس فاندم فيشير إلى أنّها 14.1%.(4) ويقول الباحثُ السوريّ منير درويش إنّ هجرة المسيحيّين السوريّين بلغتْ ذروتها في فترةِ الأحداث التي اندلعتْ بين السلطةِ والإخوان المسلمين منذ عام 1980 وبعدها: "ففي هذا العام كانت نسبتهم نحو 16.5 %، وانخفضتْ خلال ربع قرنٍ إلى 8 ـ 10 %، ولم تكن النسبةُ هي التي انخفضتْ فقط بل العدد نفسه أيضًا، إذ كان عدد المسيحيّين في تلك الفترة 2 مليون، بينما الآن لا يتعدّى هذا العدد1.5 مليون."(5) وهناك إحصائيّاتٌ أخرى تشير إلى أنَّ نسبتهم اليوم تترواح بين 4.5 و 10%. الأرقام تقول إنّ أكبر هجرة للأقليّات كانت في عهد الديكتاتوريّة التي ادّعت حماية الأقليّة، والخوف من أن يكون اجتثاث الديكتاتوريّة سببًا آخر في هجرتها (العراق وسوريا نموذجًا). فقد انخفض عدد المسيحيين منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطةبشكل كارثيّ؛ فبعد أن كانت نسبتهم 16.5 بالمئة مطلع السبعينيّات، قد تصل اليوم إلى أقلّ 6 بالمئة اليوم. يتحدّث عيسى المهنّا عن ظاهرةٍ خطيرةٍ تتفاقم في منطقتنا، هي هجرة الثقافات بكلِّ ما تحمله من تاريخٍ وتراثٍ ولغةٍ وعاداتٍ وتقاليدَ تُصوّر "بكلِّ تفاصيلها ودقائقها حقائقَ ذلك الزمان الغابر الضروريّة لاستمرارنا." ويضيف: "بهذه الهجرة تتحقّق الأرضيّة الممهّدة لأعدائنا ليحقّقوا أهدافَهم ويحوّلوا طبيعة الصراع في المنطقةِ بما يخدمهم ويخدم مصالحَهم من خلال مخطّطاتٍ رُسمتْ للمنطقة ويُراد تنفيذُها، ويأتي في أولويّتها تفريغ المنطق ثقافيًّا. ونذكر من الأمثلةِ على ذلك: هجرة أكثر من 500 ألف سريانيّ وآشوريّ وكلدانيّ من الشمال السوريِّ والعراقيّ، استقّروا في السويد وهولندا وألمانيا ودولٍأخرى؛ هجرة أكثر من 126300 كلدانيٍّ عراقيّ إلى الولايات المتّحدة من تلِّ فائق شمال العراق قرب مدينة نينفة القديمة (مقرّ الآشوريّين والبابليّين)؛ تهجير أكثر من 113 ألف يهوديٍّ يمنيّ على يد بريطانيا والوكالة اليهوديّة بين عاميْ 1810 و1950 معظمهم رفض الذهاب إلى إسرائيل."(6) المؤرّخ الفرنسيُّ والخبير في الديانات آودون فاليه يحذّر في تقريرٍ نشرتْه وكالةُ الصحافة الفرنسيّةِ من "هوّةٍ كبيرةٍ بين ضفّتي المتوسط": بين غربٍ يوسم بالمسيحيّة، وشرقٍ يوسم بالإسلام. ونقلت الوكالة عن الأب روفائيل زغيب قوله: "لطالما كان المسيحيّون أقليّةً في الشرق، لكنّهم أقليّةٌ فاعلةٌ. والخشية هي أنْ يصبحوا أقليّةً مشلولةً بالخوف". ويبدو أنَّ التجربةَ المرّة التي ذاقها مسيحيّو العراق شكّلتْ عنوانًا جديدًا لمستقبلٍ قاتمٍ يحيط بالوجود المسيحيِّ في المنطقة. واليوم، ومع تصاعدِ سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد الحكم في دول "الربيع العربيّ،" والحال التي وصلتْ إليها الثورةُ السوريّةُ عبر حصر الصراع بين "واجبٍ جهاديٍّ" تحدّث عنه الأمينُ العامُّ لحزب الله وبين "جهاد مقدّس" أعلنته الجماعاتُ الإسلاميّةُ المتطرّفة في سوريا، نكون أمام صدامٍ خطيرٍ شيعيّ ـ سنيّ سيمتدُّ تأثيره على الأقليّات التي تميّز هذه المنطقة، وبالمقام الأولِ الوجود المسيحيّ. وقد يتطوّر الأمر إلى حربٍ أهليّةٍ، لا ترى القوى الخارجيّةُ أيّة مشكلةٍ في اندلاعها ما دام المنتصرُ سيخرج منها ضعيفًا ومفكّكًا وطيّعًا لتأدية الدور الذي يراد له أن يؤدّيه ضمن الإستراتيجيّة الجديدةِ للنظام العالميّ الجديد. (7)
مستقبلنا قد تكون الرؤيةُ التي رسمناها تشاؤميّةً، لكنّلها ما يبرّرها. وتطوّرُ الأحداث في مصرَ وتونسَ وليبيا واليمن بعد ثورات "الربيع العربيّ" بات شبه واضحٍ: فالعملُ يجري بسرعةٍ كبيرةٍ على انقسام الشارع إلى إسلاميٍّ متطرّف ـ علمانيٍّ ليبراليّ. فبعد ابتلاع ثقافات المنطقة، وتهجيرها، أو تخويفها وقوقعتها، تنقسم اليوم إلى شارعين أو ساحتين، وتبدأ عمليّة تفكيك المجتمع بعد تفكيكِ النظم السياسيّة. وفي ضوء المعطياتِ التي خلص إليها حديثنا، علينا أن نقرأ بتمهّلٍ ما ختم به هيكل فصل "المسلمون والأقباط" في كتابه كلام في السياسة، إذ يتحدث عن "قلقٍ حقيقيٍّ" يتعلّق بمسيحيّي الشرق (في فلسطين، ولبنان، وسوريا، والعراق، وحتى تركيا)، فيقول: "هناك ظاهرةُ هجرةٍ بينهم يصعب تحويلُ الأنظار عنها، أو إغفال أمرها، أو تجاهلُ أسبابها. وأشعر... أنّ المشهد العربيّ كلّه سوف يختلف إنسانيًّا وحضاريًّا... أيُّ خسارة لو أحسَّ مسيحيّو المشرق ـ بحقٍّ أو بغير حقٍّ ـ أنْ لا مستقبل لهم أو لأولادهم فيه، ثم بقي الإسلام وحيدًا في المشرق لا يؤنس وحدتَه غيرُ وجود اليهوديّة الصهيونيّة ـ بالتحديد ـ أمامه في إسرائيل؟!"
1. نعوم تشومسكي، ندوة "النظام العالمي الناشئ والربيع العربي" 23/10/2012؛ ومقابلة مع قناة الجزيرة 24/3/2012. 2. هنري كسينجر، "الربيع العربي يخلّ بالنظام العالميّ،" موقع الجزيرة نت 3/6/2012. 3.محمد حسنين هيكل، كلامٌ في السياسة، عامٌ من الأزمات 2000-2001، ط 4 (القاهرة: الشركة المصريّة للنشر، 2001). 4. نيقولاوس فاندام، الصراع على سوريا، النسخة الإلكترونيّة. 5. منير درويش،"الهجرة الواسعة للمسيحيين المشرقيين وتهميش حضارة المنطقة"(ألقيتْ في حلقةٍ نقاشيّة، 23/3/2005). 6.عيسى سامي المهنا،"آثار هجرة وتهجير العلماء والمهنيين العرب،"المركز العربيّ للدراسات الإستراتيجيّة، آب 2004، ص 15. 7. أ ف ب، بيروت، 14/9/2011.
*كاتب وإعلاميّ سوريّ.

جورج كدر
الخميس 16 يناير 2014