في الخمسينيات، نجحنا في صياغة دستور ديمقراطي، ولكننا لم ننجح في حمايته. كانت الجمهورية السورية في بداياتها، وكما يقول جان جاك روسو، في كتابه العقد الاجتماعي: “في بدايات الجمهورية، كثر الالتجاء إلى الدكتاتورية، لأن الدولة لم تكن قد توافرت لها بعد قاعدة ثابتة لبقائها بقوة نظامها وحده”(1).
 لم يكن لدينا في ذلك الحين مراكز قوة كافية لحمايته، فقد كان الشعب السوري بعد الاستقلال ما يزال شعبًا ناشئًا. ولم يكن الفاعلون الاقتصاديون والاجتماعيون الحقيقيين، حينذاك، يتمتعون بالقوة اللازمة للدفاع عنه وحمايته من الانقلابات العسكرية. كان المجتمع السوري ما زال ضعيفًا وغير مستقر. ولم تكن تلك المشكلة الوحيدة فحسب، ذلك لأن الزمن كان سيحلّها عبر انتظام المجتمع السوري وإعادة تكونه عبر سيادة القانون. وكان من شأن الخضوع المتساوي للجميع للعقد الجديد أن يسهم في تشكله كشعب، عبر ترسخ المؤسسات الديمقراطية المكونة له. ولكن تغوّل الرغبات الإقليمية والدولية بالتدخل في سورية، وصياغة هذا البلد صياغة تناسب مصالحها، لم تعط هذا الشعب الفتي فرصة كافية ليشتد عوده. وكان الجيش هو القوة المنظمة الوحيدة على الأرض التي يمكنهم المراهنة عليها. لذلك تكالبت الدول على كسب ولاء أي ضابط من ضباطه وإغرائه بالسلطة والثروة، من أجل القيام بانقلاب عسكري لصالحها.
 تأسس الجيش أصلًا لحماية سيادة سورية، بموجب القانون والدستور، ولكنه كان المؤسسة الوحيدة المنظمة، لذلك كانت له الكلمة الأخيرة. فقد طبع العسكر تاريخنا الحديث بطابعهم. ليس في سورية فحسب، بل في منطقتنا كلها. لقد زعزعت البلاد الانقلابات العسكرية المتتالية، وحدّت من إمكانية الحكومات الوطنية على تعزيز قوة دولة القانون وتعميمها على كل مناطق سورية حتى الأرياف. لكن الضربة القاصمة التي قضت على دولة القانون في سورية كانت انقلاب الثامن من آذار، حين أعلنت حالة الطوارئ المستمرة التي وضعت الدستور على الرفّ، منذ ذلك الحين حتى الآن.
الأعداء كثر
على الرغم من أن كيفية تشكّل المؤتمر الوطني التأسيسي وشرعيته تُعدّ إحدى الضمانات الأساسية لقوة واستمرار العقد الاجتماعي، فإن ذلك لا يكفي وحده، مع الأسف، في العصر الراهن؛ فالأعداء يتكاثرون دائمًا، وخاصة في الزمن الراهن، زمن شيخوخة المؤسسات الدولية التي عانينا بسببها، عبر محاولات تعطيل انتصار الثورة الديمقراطية الدائمة من قبل العالم المافيوي، منذ أول يوم من ثورة الحرية.
 العدو الجديد الذي وقف ضدّ تشكلنا، حتى الآن، هو ذاته عدو الدولة أي دولة، وخاصة إذا كانت دولة ديمقراطية تحكمها إرادة شعبها. وهو عدوّ كل الشعوب التي تناضل من أجل الديمقراطية. العدو الجديد هو المافيا الاقتصادية الإقليمية والعالمية التي كان لها الدور الرئيسي بحماية النظام السوري المافيوي من السقوط. وهي ذاتها التي تحاول دائمًا أن تحطم قدرة الدول الديمقراطية ودولة القانون على إدارة مجتمعها. وتستخدم في سبيل ذلك الشعبوية المستندة إلى الخوف، كأهم الوسائل في مواجهة الديمقراطية ودولة القانون. مؤسسات الدولة التي تحمي كل حقوق كل المواطنين وتقوم بضبط السوق لصالحهم، باتت عبئًا عليها وتقيد حريتها في مراكمة الربح الخارج عن القانون. يقيد القانون في الدول الديمقراطية الحركة الاقتصادية اللاشرعية وجشعها للشقّ المافيوي من الاقتصاد في العالم، لذلك لا تتورع المافيات الاقتصادية من اتباع كل أشكال الحرب والمناورة لفتح ممراتها وتحرير حركتها من رقابة الشعوب. ولم تكن (داعش) سوى إحدى وسائلها القذرة.
 يمكننا البحث، منذ الآن، عن وسائل القوة التي يمكنها أن تحمي عقدنا الاجتماعي السوري المرتجى من كل هؤلاء الأعداء، من أجل تحقيق سلم اجتماعي مستدام في سورية. وذلك في سياق البحث عن كيفية تشكل المؤتمر التأسيسي الوطني السوري وماهية الشركاء الاجتماعيين المكونة له. وعن وسائل حمايته بعد التوافق عليه وإقراره من قبل الشعب السوري.
الشرور التي تصنع العقد الاجتماعي
 أستعير عنوان هذه الفقرة من الكاتب الأميركي وودي هولتون، من كتابه “الأميركيون الجوامح وأصول الدستور الأميركي”، حيث تحدث في مقدمته عن “الشرور التي صنعت العقد الاجتماعي” (2). يحكي الكتاب قصة صياغة الدستور الأميركي (في فيلاديلفيا 1787)، بعد تاريخ طويل من الحروب والعنف في المجتمع الأميركي، “تحدد التأريخات الشعبية حول الحرب الثورية الأميركية أصول الدستور في الصراعات البغيضة التي ظلت تهدد بتمزيق المؤتمر الاتحادي شرّ تمزيق. وتحدده كذلك في التسويات البارعة التي عاودت الجمع بين المندوبين مرة بعد مرة”(3).
 لم يتم التوافق على عقد اجتماعي عبر التاريخ، إلا كي يحلّ مشكلة الشرور التي سادت في المجتمع، بين الأطراف المتصارعة ذات المصالح المتناقضة والأيديولوجيات المتعارضة؛ فكل طرف يريد فرض مصالحه وأفكاره وعقائده على الآخرين، حتى تعبت جميع الأطراف واضطرت إلى الجلوس على طاولة واحدة للتفاوض، وسمي ذلك بالمجلس التأسيسي للجمهورية، ومهمته كتابة عقد اجتماعي، عقد شراكة في الوطن، يتنازل كل طرف فيه، كي يستطيع أن يضمن لنفسه السلم والاستقرار في البلد. في الحالة الأميركية، كان الشركاء الاجتماعيون أقوياء اقتصاديًا، أقوى من الجيش والشرطة. لذلك لم يحدث أن قام الجيش أو الشرطة بمحاولة انقلابية تعطل الدستور.
عاشت سورية بما يكفي من الشرور كي يستسلم الشركاء المنهكون لفكرة التفاهم والجلوس على طاولة واحدة، للخروج من الأزمة وكتابة عقد اجتماعي جديد يتنازل فيه الجميع. للتوصل إلى الشراكة الحقيقة والندية في بناء سورية الجديدة. ولكن التحديات كبيرة، وربما أكثر من فترة الخمسينيات التي فشلنا بها في حماية دستورنا الديمقراطي أمام العسكر والتدخلات الإقليمية والدولية. والمهمة الآن أصعب داخليًا وخارجيًا؛ داخليًا، بسبب الشتات السوري، وخارجيًا لأن الديمقراطية مهدده في كل العالم مع تزايد قوة المحور الصيني الروسي. ومعركة الدفاع عن الحرية والديمقراطية أضحت معركة عالمية. ولكننا نستطيع التحالف مع كل الفئات التي تدافع عن الديمقراطية في العالم، التي تتلقى الضربات المتتالية من معول المافيا الاقتصادية العالمية، ولم يكن نجاح “ترامب” في الانتخابات الأميركية الرئاسية في عام 2016 سوى أحد أهم نتائج نشاطاتها.
 أما في الدول غير الديمقراطية، فقد كان من السهل التغلغل فيها، كي تتطابق الدولة ذاتها مع المافيا مثل النظام السوري، لذلك لم يكن غريبًا أن تستميت المافيا العالمية للدفاع عنه. فالنظام جعل من سورية قبل الثورة مركزًا وممرًا رئيسيًا لتجارة السلاح والمخدرات، بحماية أجهزة المخابرات والمافيات الطائفية التي بدأ بتأسيسها في السبعينيات، من سرايا الدفاع وكتائب البعث وغيرها. تختلف من منطقة إلى أخرى الأيديولوجية الضرورية المستخدمة لاستقطاب العامل البشري وقودًا لحروبها. والتي تستهدف الشباب المقهور الفاقد الأمل بحياة كريمة، والحالم بالتغيير، عبر اقتراح قضية يدافع عنها ويمكن أن يموت من أجلها. وعادة ما تكون قريبة من معتقداته، سواء أكانت سنيّة أم شيعية أم علوية أم قومية أم شيوعية، كما حصل في كولومبيا التي استقطبت فيها مافيات المخدرات الشباب باسم الدفاع عن الشيوعية الماوية.
 تحطيم الشركاء الاجتماعيين في العقد الاجتماعي السوري
إن الشركاء الاجتماعيين السوريين في العقد الاجتماعي الجديد هم كلّ القوى المجتمعية المتنوعة التي تحررت من احتكار النظام، وبدأت بالعودة إلى الوجود المنظم الحر والمستقل، بعد فترة خمسين سنة من محاولة النظام الدكتاتوري تحطيم كل قوة منظمة في المجتمع، ليضمن بذلك استمرار سلطته كقوة منظمة وحيدة.
 بدأت المسيرة الأساسية في عملية التحطيم هذه بالانقلاب العسكري 1963، وتعطيل الحريات الأساسية والسياسة والاقتصادية التي كان قد ضمنها الدستور، عبر إعلان حالة الطوارئ المؤبدة. وتم إلحاق النقابات بحزب البعث وتحويلها إلى هياكل فارغة تابعة. كما ألحقت الأحزاب السياسية التي بقيت نشطة رغم القمع بالجبهة الوطنية التقدمية في عام 1972. كلّ من تمرد على هذه المصادرة للشراكة الرامية إلى احتكار السلطة كان مصيره القمع الشديد والقتل والسجون في عقد الثمانينيات. ولم يكن ممكنًا فعل كل ذلك إلا بعد مصادرة قوة الشركاء الاجتماعيين، عبر التأميم الذي طال حتى أصحاب المشاغل الصغيرة. وكذلك عبر تجفيف كل مساحات التأثير التي كانوا يتمتعون بها من قبل.
 لكن الضربة القاضية على الشركاء ومفهوم الشراكة الاجتماعية في إدارة الدول، جاءت في أوائل الثمانينيات، عندما تم حل المجالس المنتخبة للنقابات المهنية، وتم تعيين مجالس بديلة لمجالسها التنفيذية، مجالس عينتها مباشرة الأجهزة الأمنية، وفرضتها تحت قوة السلاح والترهيب والاعتقال. ثم أتبع ذلك بإخضاع أحزاب جبهته نفسها، على نحو نهائي، عبر الاعتقالات التي شملت بعض أحزابها. تلك التي تجرأت وأبدت رأيًا مخالفًا قليلًا، مثل الاعتقالات التي شملت الحزب الشيوعي (بكداش نتيجة بيانه الشهير الذي استنكر فيه عملية نزع الحجابات في دمشق التي مارستها ميليشياته الطائفية في ذلك الحين). وسرعان ما خضعت كل أحزاب الجبهة الوطنية الديمقراطية للسقف الواطي الجديد الذي فرضته السلطة الأمنية.
 أما بعد مجزرة حماة في عام 1982، وترهيب المجتمع السوري كله والقضاء على الإخوان المسلمين عبر الاعتقالات وعبر إصدار القانون 49. التفت إلى الأحزاب المعارضة خارج جبهته الوطنية التقدمية، وكانت قد تحولت إلى أحزاب سرّية، لأنها ترفض الانضمام إلى الجبهة. وشنّ النظام في حينها حملة اعتقالات واسعة، طالت غالبية أعضاء المؤتمرات الحزبية المعارضة التي عقدت في عامي 1979 و1980 واستطاعت استقطاب الشباب المعارض في حينها. فقد طالت تلك الحملات حزب العمل الشيوعي والحزب الشيوعي -المكتب السياسي (الترك الذي كان أحد مؤسسي التجمع الوطني الديمقراطي المعارض الذي تشكل في عام 1980)، كما طالت تلك الاعتقالات أحزابًا أخرى من هذا التجمع، كحزب الاتحاد الاشتراكي (الناصري). كان عام 1982 هو العام الذي أطلقت فيه طلقة الرحمة على الشركاء الاجتماعيين، على الحركة السياسية والنقابية وعلى كل حيوية الشعب السوري. لم تكن تلك القوة الرهيبة في القمع مستمدة من المخابرات والجيش والسجون ومراكز الاعتقال وفرق الإعدام فحسب، بل من سيطرة كل تلك الأدوات على أموال البلاد وثرواتها الطبيعية واستغلالها الخارج عن القانون ونهبها، كي تنشأ فيما بعد تلك الفئة من البشر التي سوف يحتاج إليها لحماية حكمه. فحتى الدكتاتور يحتاج إلى الناس والبشر. ولكنه يحتاج إليهم كعبيد، فهو يعمل جاهدًا على توسيع قاعدة الاستعباد ومصادر قوتها، عبر توزيع حصة بسيطة من الثروة المنهوبة عليهم، كي يضمن طاعتهم مع تغذيتها بالخوف والطائفية على نحو دائم.
إعادة البناء الوطني من منظور العقد الاجتماعي والشركاء الاجتماعيين
 أطلقت الثورة السورية إمكانية صياغة عقد اجتماعي سوري جديد. وهذه أهم سمة من سمات الثورات كما هو معروف. فالثورة تنطلق عادة كي تعلن عدم إمكانية استمرار الوضع القائم، وضرورة صياغة عقد اجتماعي جديد. تكمن المشكلة الراهنة في أن سورية تفتت وتشتت في كل أنحاء العالم. ولكن هذا الشتات هو سورية أيضًا. لأن غالبيتهم لم يخرج منها بإرادته، وكذلك لأنهم يشكلون نسبة كبيرة جدًا من الشعب السوري. لذلك على العقد الجديد أن يخطط لسورية جديدة، تجمع فتات الداخل مع شتات الخارج، لتكون بلدًا مركزه الجغرافيا السورية، ويمتد افتراضيًا ومؤسساتيًا إلى كل مناطق اللجوء السوري.
 الأجواء السورية الحالية اليائسة والمنقسمة ليست جديدة في التاريخ. وأحد تجلياتها جملة “كنا عايشين”. وفي الفصل الثامن من كتاب هولتون الذي يحمل عنوان “كان يمكن لهذه الثورة أن تكون مجيدة”، يقول: “إن انتصار الأميركيين الباهر على الإمبراطورية البريطانية -أقوى أمة عرفها التاريخ أبدًا- غمرهم بالأمل في المستقبل. ولكن هذا التفاؤل ترك مكانه لليأس في منتصف عقد 1780” (4). مشيرًا إلى عريضة رفعها المزارعون يعبّرون فيها عن خيبتهم من الثورة “العامل الشريف الذي يمهّد الأرض بعرق جبينه يبدو إلى الآن الوحيد المعذب في الثورة”، وكذلك أشار هولتون إلى بعض الآراء اليائسة الأخرى التي انتقدت الثورة، والتي كانت تنطلق من المعاناة الشعبية التي نشأت بعد ها مباشرة، وقبل عام 1787، عام صياغة العقد الاجتماعي  الاتحادي الجديد في فيلادلفيا الذي صاغته ووقعته الولايات الثلاثة عشر التي تحررت من البريطانيين في ثورتها عام 1776.  “فبحلول 1785 تساءل جون ريد من ماساتشوستس <ألم يصبح الكثير مضطهدًا مئة مرة أكثر مما كانوا أبدًا من قبل البريطانيين سابقًا؟>”(5).
أعتقد أن اليأس والمستنقع الذي نعيشه منذ عشر سنوات عاشته كثيرٌ من الشعوب بعد الثورات المجيدة. لذلك ينبغي ألا يقطع هذا المناخ إمكانية إعادة تشكل الشعب السوري من جديد. بعد أن قطعت الدكتاتورية إمكانية التطور الطبيعي للمجتمع السوري التي انطلقت بعد الاستقلال. أصبح من الضرورة بمكان دراسة استراتيجية وخريطة طريق لكيفية تشكلنا كشعب سوري مرة أخرى، في الخارج والداخل، كممر إجباري لاستعادة السيادة له في سورية. فالسيادة للأوطان لا تحميها إلا سيادة شعوبها فيها، عبر مؤسساتها الشرعية التي تعبّر عن إرادتها الحرة. وهذه الإرادة هي التي سوف تدير البلاد عبر الممثلين الشرعيين المنتخبين.
وإن وضع استراتيجية منذ الآن هو ضرورة سورية قصوى لاستمرار وجودنا كسوريين. ولكن الأمر كما يقول جين شارب “قد لا يرى بعض الأفراد والمجموعات حاجة حركات التحرر إلى تخطيط واسع بعيد الأمد، ويكون لديهم بالمقابل اعتقاد ساذج بأنهم إذا تمسكوا بهدفهم بقوة وشدة ولفترة طويلة، فإنه سينجح بطريقة ما. على افتراض أن ثباتهم على مبادئهم ومثالياتهم في وجه الصعوبات يعني أنهم يبذلون كل ما يستطيعون القيام به. وهذا أمرٌ رائع، ولكنه غير مناسب للعمل على القضاء على الدكتاتورية وتحقيق الحرية” (6). ولذلك علينا الإصرار ومحاولة إقناع الجميع بضرورة بناء استراتيجية تعيد تشكلنا كشعب، بعد عقود من التحطيم المنهجي الذي جعلنا محض غبار من السكان غير متشكل تذروه رياح الاستبداد. ربما يمكننا بذلك أن نردم الهوة الكبيرة بين ثورة الحرية وقوتها وشرعيتها، وبين كل التشكيلات السياسية التي انبثقت من حطام الحركات السياسية القديمة.. حطام الأحزاب السياسية في الداخل مع حطام حزب الإخوان المسلمين في الخارج. هذه التشكيلات السياسية التي حاولت التعبير عن الثورة، فجاءت هزيلة وضعيفة وفاقدة للشرعية.
محاولات العودة إلى الشراكة السورية
 شهدنا في العقد السابق عشرات المحاولات الجادة والصادقة لتأسيس تجمعات سورية لردم الفجوة الكبيرة بين قوة وشرعية الثورة والتشكيلات الهزيلة التي تدعي تمثيلها.. عشرات المحاولات لتلبية هذه الضرورة السورية الملحة، ولكنها لم تستمر ولم تنجح. ليست المشكلة بالنيات، فهي صادقة، ولكن لنعترف بأننا خرجنا بعد الحكم الدكتاتوري محطمين وفاشلين بالإدارة وجاهلين بعلوم السياسة والمأسسة. ويزيد الوضع السوري الحالي المتشتت جغرافيًا من عمق هذا الفشل موضوعيًا. في الفترة الأخيرة، صار البحث واسعًا بين السوريين في كلّ مكان، ويتزايد حاليًا عدد من ينادي بضرورة التجمع وإنتاج البدائل التي يمكنها أن تساعدنا في التشكل كشعب في هذا الشتات السوري الكبير.
لنعترف أولًا ونشخّص أمراضنا بكل صراحة، ثم نذهب باتجاه اقتراح الحلول. وكلمة “نحن” تشمل كل من يهتم بنهضة سورية الديمقراطية وحريتها. لن أشارك في جلدنا في هذا المكان. لسنا استثناء في منطقتنا، ولا في كثير من دول العالم الثالث، فهذه أمراض سكان كل المناطق الذين لم يتكونوا كشعوب بعد. ولكننا، انطلاقًا من قوة الثورة التي اندلعت وحجم الكارثة الرهيب التي مرت بها سورية نتيجة قمعها، يمكننا أن نخرج بحلول جديدة أيضًا لا تشبه أي تجربة مرت في بلد شبيه. وربما سيكون للسوريين مساهمة مهمة في السلة العالمية والتاريخ البشري، مع الاستفادة طبعًا من كلّ التجارب التي تقارب ظروف بلادنا. من أهم شروط استراتيجية الخروج من الكارثة، انطلاق الحلول من السوريين المتنوعين وحاجاتهم، والخروج من حالة الارتهان، لقوى إقليمية أو دولية، التي دخلت فيها قوى الثورة مجبرة أو مختارة، في محاولات الرد على دعوة النظام لإيران وروسيا لاحتلال سورية في سبيل بقائه في السلطة.
من التبسيط إلى التعقيد في العقلية التي ستقوم بصياغة العقد الاجتماعي الجديد
 كتبت آلاف الكتب عن النقلة من حالة السكان إلى حالة الشعب التي حصلت في أوروبا واليابان وبعض دول آسيا. وقد قرأ جيلنا والأجيال التي قبلنا آلاف الكتب كي يصل إلى هذه الوصفة السحرية. واستسهلت أجيالنا القديمة الجواب، وجاءت الأجوبة بسيطة وفقيرة، لا تستند إلى معرفة عميقة في كيفية تشكل الشعوب. وفي الوقت ذاته، لا تستند إلى معرفة واسعة بالواقع السوري ولا بالظروف التاريخية لتشكلها وخصوصياتها. فجاءت الحلول على شكل شعارات رغبوية منفصلة عن الواقع.. شعارات كاليسار هو الحل أو البعثية أو الناصرية هي الحلّ أو الإسلام هو الحل.. إلخ. يقول الفيلسوف الفرنسي إدجار موران في الفصل الثاني من كتابه “الفكر والمستقبل” (من التبسيط إلى التعقيد): “لا يوجد أي منهج قادر على رؤية التعقيد الشديد الذي يميز الظاهرة الإنسانية” (7). وكذلك ليس هناك إجابات بسيطة عن أسئلة أي مجتمع كان، فما بالك في المسألة السورية الشديدة التعقيد. يحدد موران موقفه من التبسيط الذي تقع فيه كل من الطائفة الحداثوية وطائفة ما بعد الحداثة، إذ يقول: «إنني أتموقع فعلًا خارج الطائفتين المتصارعتين، والواحدة تسحق الاختلاف عن طريق إرجاعه إلى الوحدة البسيطة، والأخرى تحجب الوحدة، لأنها لا ترى سوى الاختلاف. لكن لنحاول دمج حقيقتي هاتين الطائفتين، أي تجاوز الاختيار بينهما” (8). والآن، لدينا ما يكفي من العلماء لوضع استراتيجية وخريطة الطريق لعودة تشكلنا كشعب. فبعد عام 2011، خرج شباب الثورة ودرسوا في أحسن الجامعات كل أنواع العلوم والإدارة. وبقي أن يجتمع هؤلاء الشباب يدرسوا لنا طريقًا مبتكرًا ناجحًا لتحويل الشتات السوري الراهن إلى شعب متشكل من كل مكوناته السياسية والقانونية على نحو مدروس. وتحويل هذا الشتات إلى تشكيلات متنوعة ومتعددة، إلى مؤسسات يمكنها أن تدير اختلافاتنا وتنوعنا وتعددنا، كما يليق بأي شعب. وعندئذ فقط، أي عندما نتشكل شعبًا له مؤسساته، يمكننا أن ننظم انتخابات عامة على الصعيد الوطني السوري. سواء الانتخابات البرلمانية أو أي من المناصب السيادية العليا في جمهوريتنا السورية الثالثة.
 تقع على عاتق هؤلاء الشباب مهمة وضع خطة استراتيجية، تجعل الانتقال من الوضع الحالي إلى الوضع المستقبلي المنشود ممكنًا. وكلنا نعرف معوقات التخطيط هذا في ساحتنا السورية المشتتة، سواء كان بعدم توفر القدرة على التوافق على الخطة الاستراتيجية، أو عدم إيمان كثير من السوريين بأهميتها. لأن الميل باتجاه الفعل المباشر هو الحال دائمًا في المراحل الثورية، ولكن الآن، بعد مرور عشر سنوات، أعتقد أن بإمكاننا أن نتجاوز مثل هذا الميل.
 في عالم الهندسة، تتكون المنشأة وتُرسم وتُدرس الوسائل لتلبية كلّ احتياجات سكانها في حياتهم فيها، على الورق وعلى الطاولة، قبل البدء بضربة فأس واحدة على الأرض. يمكننا الآن أن نستلهم من ذلك البداية، وأن ننطلق من الإنجاز الكبير الذي يسجل لغالبية شباب الثورة، ألا وهو الثبات على مبادئ ثورة الحرية في وجه الصعوبات والآلام والاحباطات المتنوعة التي تعرضوا لها. أعتقد أنه حان وقت التخطيط للمنشأة التي ستكرس مبادئ ثورة الحرية على أرض الواقع. ربّما لم يكن ذلك ممكنًا قبل الآن. قبل أن توصل الجميع الآن، حتى الموالون للنظام، إلى إدراك الحقيقة التي تقول إن غيرنا والدول الإقليمية والدولية تضع الخطط وتنفذها لصالحها، في ظل غيابنا وغياب مصالحنا الكامل. حان الوقت كي نضع خططنا الرئيسية لاستعادة بلدنا. الموارد البشرية أصبحت متوفرة من الشباب الثائر الذي درس في أفضل جامعات العالم، واختار موضوع رسالته سورية. وهم مؤهلون لوضع خطة استراتيجية، تجعل الانتقال من وضع التفتت الحالي إلى بناء سورية الجديدة ممكنًا.
 ستتيح صياغة العقد الاجتماعي الجديد في سورية الديمقراطية تشكيلَ سورية جديدة، يشعرُ كلّ مواطن فيها، مهما كان مختلفًا وضعيفًا، بأن لديه وطنًا يرعاه كمواطن سوري. سيشعر فيها أنه لم يعد يتيمًا من الدولة، عاش السوريون طوال عقود يتامى من دون دولة ترعى شؤونهم كمواطنين، ويتم الدولة أقسى أنواع اليتم. هذا الشعور بالانتماء من قبل جميع السوريين لن يتحقق من دون فصل الدين عن الدولة في العقد الجديد، الأمر الذي سوف يضمن بالتأكيد حرية التدين وممارسة الشعائر الدينية لجميع أديانها وطوائفها. وكذلك لن يتحقق بدون أن يضمن الحقوق الاثنية المتنوعة للسوريين. وذلك انطلاقًا من حقيقة أن سورية متعددة الأديان والطوائف والاثنيات، ولا يمكن أن يُكتب الاستمرار لأيّ عقد اجتماعي يفرّق بين السوريين، وستعود الدكتاتورية مرة أخرى، إذا لم يتحقق ذلك.
 سوف يكتفي الشيوخ من أمثالي بتأسيس مجلس شيوخ، يلجأ إليه المجلس الشبابي المؤهل علميًا، ويعرض عليه خطته كي يستفيد من الخبرات المتنوعة ومعرفتهم بالتاريخ، كي يتوصل هؤلاء الشباب إلى إمكانية إدارة عملية انعقاد المجلس التأسيسي السوري الثالث، الذي سيصوغ العقد الاجتماعي الجديد للجمهورية السورية الثالثة. هؤلاء الشباب والشابات سوف يستشيرون، لكن القرار النهائي لهم، فالمستقبل ملك لهم، ملك لأولادهم، أحفادنا.
تأسيس وتقوية الشركاء الاجتماعيين الذين سيشكلون المؤتمر الوطني السوري
 إن كتابة العقد الاجتماعي الجديد بعد الثورة تحتاج إلى شركاء اجتماعيين فعليين، إضافة إلى إدارة سياسية ناتجة عن تحالف قوى الثورة. ففي تونس، مثلًا، بعد الثورة مباشرة «تم إرساء عقد اجتماعي يجمع ثلاثة أطراف، هي الحكومة التونسية والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية. وقد تم توقيعه يوم 20 كانون الثاني/ يناير 2013، بعد سنتين من سقوط نظام بن علي، في فترة الحكم الثلاثي النهضة – التكتل من أجل العمل والحريات – المؤتمر من أجل الجمهورية، أي في أوج المسار الانتقالي، وفي فترة تتميز بقوة الحراك الشعبي والنقابي” (9).
 النموذج التونسي كان هو الأقرب إلى أحلامنا، في صياغة العقد الاجتماعي الجديد بعد الثورة. ولكن الظروف السورية لم تسمح بعملية الانتقال هذه، ولكننا يمكن أن نعمل على وضع استراتيجية وخطة طريق تتناسب مع الشروط المعقدة التي يعيشها السوريين في الداخل وفي الشتات. ويمكن أن تكون الخطوة الأولى بإعادة تشكيل أو إعادة تأهيل النقابات والتجمعات المهنية والثقافية الحرة، التي تشكل بعض منها بعد الثورة، وذلك عبر أنظمة داخلية ديمقراطية. وكذلك العمل على سيادة الآلية الديمقراطية الداخلية في كل هذه المؤسسات، بما يخص انتخاب مجالسها الإدارية والآلية الداخلية الديمقراطية لاتخاذ القرار فيها. ومن ثم إرسال الممثلين عنهم والمتحدثين باسمهم. فتحدي البناء بعد الثورة كبير، ويحتاج إلى أدوات قوية واستراتيجية مدروسة جيدًا.
 تمتلك الآلية الديمقراطية الداخلية، لأي تنظيم أو منظمة، قوة مؤثرة كبيرة في المجتمع؛ لأن الشرعية التي يكتسبها المنتخب داخليًا بطرق ديمقراطية تزيد من قوته، عندما يتم اختياره كممثل عن المؤسسة إلى المجلس التأسيسي. وكذلك تزيد من قوة تمثله لمصلحة التجمع المهني أو السياسي الذي يمثله، لأن خلفه مؤسسة تساعده وتقدّم له الدعم والمعرفة والمعلومات وتراقبه كذلك. كما تزيد هذه الآلية الديمقراطية الداخلية من عمق قناعة القوى الأخرى به، كشريك اجتماعي جدير بالشراكة الضرورية التي سيتم عبرها صياغة العقد الاجتماعي الجديد. هذه الآلية ذاتها التي ستحكم تشكّل المؤتمر التأسيسي هي ذاتها سوف تحمي هذا العقد، بعد إقراره وسيادته؛ لأن خلفه مؤسسات قوية لها مصلحة باستمراره، لذلك ستدافع عنه. وفي هذا السياق يؤكد شارب أن قوة العقد الاجتماعي تكمن في مدى “إيمان الناس بشرعية العقد. ومساندة أفراد وجماعات تحظى بثقة أعداد كبيرة من المواطنين توافق على العقد وتدعم الحكام ما داموا أوفياء له” (10).
طبعًا هذا بالإضافة إلى الوسائل الأخرى التي سيبتكرها الشعب السوري لحمايته، في سياق تشكله الجديد.
اقتراحات للبدايات
 كيف نبدأ؟ هذا سؤال مطروح علينا كلّنا نحن السوريين. وبالتأكيد ليس لدى أحدٍ منا جواب سحريّ عنه. يؤكد موران عدم قدرة أي فرد أو طرف اجتماعي على تقديم وصفة كاملة خاصة، بكيفية الانتقال من التبسيط إلى التعقيد في تناول الظواهر الإنسانية؛ لأن هذا الفكر “لا يمكن أن يصوغه شخص واحد.. إنه نتاج تطور ثقافي وتاريخي وحضاري”، ويتكون من مجموع الرؤى والتصورات والاكتشافات والتأملات الجديدة التي تظهر نتيجة “الكمية القصوى للتفاعلات وللتداخلات والارتدادات بين عدد كبير من الوحدات” (11). ولذلك من المهم طرح الأسئلة دائمًا، مع اللجوء إلى كل أدوات البحث من أجل الوصول إلى التفاعل الواسع الضروري، لإنتاج الإجابات والحلول على نحو جماعي. وهناك تراكمات يمكن أن يبنى عليها. ويمكننا أن نبحث في إمكانية تأسيس مجلس رقابة سوري مكون من قضاة ومحامين وعلماء سياسة واجتماع سوريين، لخلق منصة سورية بشراكة مع الأمم المتحدة، يتم عبرها مأسسة عملية دعم تطوير الآلية الديمقراطية الداخلية لكل حزب أو نقابة، حتى نقابات أصحاب رؤوس الأموال، وكذلك كل تجمع مهني أو ثقافي وكل منظمة مجتمع مدني وكل حركة. ومن المهم ألا تعتبر الأحزاب السورية الحالية الجديدة أو التاريخية أنها خارج هذا الإصلاح، لأن الأحزاب التاريخية وُلدت في الماضي حسب التقاليد الحزبية التي كانت سائدة في سورية، التي كانت تفتقر إلى الديمقراطية الداخلية، وكانت تعيد إنتاج الاستبداد في حياتها الحزبية. أما الجديدة فغالبيتها تم تأسيسها على عجل، لأهداف محددة وآنية. وعلى هذا النحو، يمكن للتنظيمات المختلفة أن تشارك بعد ذلك في الحياة السياسية السورية على نحو فعال. كما يمكنها أيضًا أن تتعاون مع الخبراء والقانونيين المختصين، من أجل صياغة قانون الأحزاب الجديد الذي سوف يكون متضمنًا في العقد الاجتماعي الجديد. وأعتقد هنا أن التركيز على تأهيل وتأسيس التجمعات المهنية والمدنية والنقابات سوف يخفض من حدة الاختلافات السياسية الحالية التي أعاقت تشكل المؤتمر التأسيسي السوري الجديد حتى الآن.
 ومن أجل الاستفادة من التجارب المرة التي مررنا بها حتى الآن، أعتقد أن من المهم التوافق منذ البداية على أن مجلس الرقابة السوري، هذا سوف يكون غير ممول. ولكنه يمكن أن يعين سكرتارية محترفة، مدفوعة الأجر من التبرعات السورية؛ لأن أي تجمع يحتاج إلى أعمال إدارية، ومن دونها تعمّ الفوضى وتزداد الشخصنة في الخلافات، ثم يفشل هذا التجمع في الاستمرار، كما شهدنا في السابق. وكذلك يمكن أن يتم الاشتراط بأنه لا يحق لأعضاء هذا المجلس المشاركة في الحكم القادم، ولا في المجالس الإدارية للتجمعات الحرة. ويمكن تأسيس صندوق نقد سوري، من أجل الخروج من التبعية للدول عبر التمويل. وقد تم اقتراح ذلك مرات في الأوساط السورية، ولكنه لم ير النور حتى الآن. لذلك يمكن لمجلس الرقابة السوري تنفيذ هذا الاقتراح القديم. ويمكن تأسيس صندوق النقد السوري في إحدى الدول الديمقراطية التي تضمن الممارسة المالية الشفافة، كي يكتسب ثقة المتبرعين السوريين له؛ لأنه لن يعتمد إلا على أموال السوريين الموجودين في كل أنحاء العالم، والذين سوف يوافقون على ورقته التأسيسية ومبادئها الديمقراطية. وهدف هذا الصندوق الرئيسي تقديم الدعم المادي والإداري والمؤسساتي لكل حالات التشكل السورية الجديدة، أو التجمعات القديمة التي سوف يتم تأهيلها للمشاركة في الحياة السياسية السورية القادمة، عبر تجديد أنظمتها الداخلية. الديمقراطية تحتاج إلى ديمقراطيين لبنائها، وفاقد الشيء لا يعطيه. ومن يمارس السياسة حاليًا، في تنظيم أو منظمة لا تمتلك آليات ديمقراطية داخلية، سوف يعيد إنتاج الاستبداد عندما يتاح له الوصول إلى السلطة.
الهوامش:
1 – العقد الاجتماعي، جان جاك روسو، ترجمة عبد العزيز لبيب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2011، صفحة 232
2 – الأميركيون الجوامح وأصول الدستور الأميركي، وودي هولتون، ترجمة أبو يعرب المرزوقي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، 2010، صفحة 13
3 – المرجع السابق ص 14
4 – المرجع السابق ص 207
5 – المرجع السابق ص 208
6 – من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، جين شارب، مؤسسة ألبرت أنشتاين، ترجمة خالد دار عمر، 2002، ص 37
7 – مدخل إلى الفكر المركب، أدجار موران، ترجمة أحمد القصوار ومنير الحجوجي، دار طوبقال، 2004، ص21
8 – المرجع السابق ص 22
9 – إشكاليات المجتمع المدني والحركات الاجتماعية العربية وقدراتها على التأثير في قضية الاجتماعية.. المجتمع المدني التونسي بعد “الثورة”، د. ليلى الرياحي، 2015 أوراق البدائل. صفحة 4
10 – من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، مصدر سابق، صفحة 22
 11 – مدخل إلى الفكر المركب، مصدر سابق، ص7
---------------
مركز حرمون