تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

سبع عشرة حقيبة للمنفى

27/11/2025 - خولة برغوث

في أهمّية جيفري إبستين

26/11/2025 - مضر رياض الدبس

طبالون ومكيودون وحائرون

07/11/2025 - ياسين الحاج صالح

"المتلحف بالخارج... عريان"

07/11/2025 - مزوان قبلان

كيف ساعد الهجري و"قسد" سلطة الشرع؟

07/11/2025 - حسين عبد العزيز


سبع عشرة حقيبة للمنفى





رزمة ورق أبيض تستدعي ما استعصى من ذاكرة، منذ قررت المشاركة في نص مفتوح بلا قيود ضمن ملف (البلاد التي نعرف ولا نعرف)


 
كتابة -خارج الشروط- تجعلُ مهمة البوح مساحة لا نستطيع سبر أغوارها قبل أن نَجُدَّ المسير إلى أركانها، لنكتشف الشعور الذي سيلتقطُ طرفَ الكلام، ليبدأ نسج الحكاية.
ها نحنُ ذا نتداعى لنتشاركَ ما يختلج في نفوسنا دونما تحضيراتٍ مسبقة سوى حقيقة أنّ دربَ الرّجوع إلى الوطن عاد سالكاً.
أسترقُ النظر إلى البياض الماثل أمامي، ثم أشيحُ عنه هاربة من احتمالاته، ولأنّ هذا البوح بمثابة قارب نجاة ما زلت لا أصدّقُ تحقّقها. كتبت بخط كبير كلمة “العـودة”، أرجأت التفكير بالحقائب، فلربما سأختارُ أن أعودَ فارغة اليدين، فحينَ نتجهّز للعودة إلى بيوتنا لن نحتاج سوى إلى قلوبٍ متأهبة للارتماء في الذاكرة التي أغلقنا عليها الباب، وغادرنا بحثاً عن أمان أخلّ الوطنُ بعهدهِ فيه.
“البحث عن الوطن في اللجوء إلى سواه”
تلكَ عبارتي الأخيرة التي أرسلتها لأصدقائي آنذاك، كانت بمثابةِ وداع واعتذار خجول لمن سيبقونَ هناك، ففرصة لقاء حياةٍ أخرى خارج الخوف لا تحدث بسهولة، فقد علّمتني واقعية أيام المنفى الأولى، أن الوطن هو “ألا يحدثَ كلَّ الذي حدث” وأن البحث عن الأمان هو درب الوطن الحقيقي حيث لا يهم أيّ اللغة تُبثُ بها أخبارِ الصباح على الراديو الوطني، لم تكن بالنسبة لي صدمة حضارية لكنها كانت الغصة التي لم تتلاشَ من حنجرتي رغم أنّني ما عدتُ أديرُ لها بالاً.
إنّه عالمُ آخر يفتحُ أبواباً لفرص لا تتكرر فيها اللحظة مرتين، فهي في عبورها المستديم نحو النهاية تدوس على أحزاننا، وتعلّمنا ألّا ننظر إلى الوراء كي ننجو.
ترى ألهذا السبب لم أشعر بالنجاة؟
كنت أعبرُ دربي قُدماً وعيناي معلقتان بما تركناه وراءنا، ولسبب ما كنّا محظوظين بفرصة المغادرة لا القتل، لكن الحظ لا تكتمل له أركان، فقد يبيتُ على صيغة الفقد الذي لا دواء له. لقد كتبتُ عن ذلك الكثير في مدونتي الأولى “ترحال” التي كانت نافذتي لصباحٍ جديد يُطلُ على اشتياق دائم لم أُشفَ من نارهِ، التي وإن خمدت بقيتْ جمراً تحتَ الرماد، ففي المنفى كلّ يومٍ هو يومٌ ثانٍ في عدِّ الأيام إلى العودة.
بخط وحروف مرتبكة بقيت الكلمة أياماً مرميّةً على مكتبي، ترمقني بصمتها المضني، وأنا أتهرّبُ من ملاحقتها لأنفاسي ونوباتِ هلعي، أسترضيها بأنني عن عمدٍ أتركُ لها المساحةَ لتتدفقَ حرّةً مني، من سجونِ قلقي.
كلمةٌ اعتدت أن أحتالَ على طعم مرارتها مترافقة بغصة تخنقني، كلّما حاولت ابتلاعها أخفيها، ولا أجرؤ على فتح مساري الشعوري إليها، أغلقتُ في وجهها الأبواب قسرياً منذ 2005. “قسريّاً” كما كانت مغادرتنا لدمشق تحت التهديد بالتصفية لا الاعتقال. مرت سنوات المنفى الأولى ولم يكن صوتي يصل إلى أحد، إلى أن أدركتُ فجأة أنّني قد ابتلعتهُ خوفاً على من بقي هناك تحت التهديد. ثم قامت الثورة.
الآن أقف وراء عشرين عاماً من الغربة، لم أنسَ في أيّ من صباحاتها أن أضعَ الماء للعصافير، كمن ينثر ماء قلبهِ في فراغ المسافة، ويبقى عَطِشاً لا يرتوي من الحنين.
أترون؟ مستعصية كلمة “العودة”، رغم أن الذكاء الاصطناعي يستطيع أن يؤلف حولها كتاباً مسروقاً من أحلامنا. حين نكتبُ عن المنفى نُضمِّنُ العودةَ ما بين الحروف، نخفيها بحرصٍ كأمنيةٍ نخشى عليها عين الجلاد. كتبتُ عنه نصوصاً لا يحصى عددها، فلماذا تستعصي “العودة” عن البوح؟ أهو الخوف من مواجهة الحقيقة، تلكَ التي زيَّنها المنفى بحيث يبدو الوطن في ذاكرةِ فقدهِ كاملاً؟ الوطنُ المبتور من جهةِ القلب ينزف توقاً إلى وصالٍ لم يتحقَّق بعد.
خرجنا بسبعة عشر حقيبة، وحفنة من بذور ريحان شرفتي الدمشقية، لم تناسبها التربة الجديدة فلم تزهر، لكن الحقائب التي اشتريتها من سوق “الخجا” للخروج القسري ما زالت في قبو بيتي هنا مركونة للغبار. لم أتمكّن خلال عشرين سنة من رميها، رغم أنّ العودة كانت حلماً ضائعاً. ولكن من قال إن الأحلام تموت في عتمة الأقبية! هل مات شهداؤنا؟ هل انتهت حياتهم من جوانحنا وكلماتنا وقلوبنا المفطورة ونحن نكشف الستار عن قبور ابتلعتهم أحياء، وأطبقت بجنونها على أرواحنا، في كل ما نكتبه ونحسهُ ونحن نطاردُ الزمن خارج حدود القهر، مؤمنين بحقنا بالعودة إلى رفاتهم، وركام مدننا في خرابها الممتد عبر كل منا في هذا العالم؟
العودة إلى الحلم الوفي لبناء وطنٍ يليقُ بكل هذه المقابر الجماعيّة، وشهداء ما بعد التعذيب، وطن يليق بالشفاء الذي نستحقه، يمتلكُ القدرة على التحليق، يليق بأجنحتنا التي لم يهزمها البُعد، ولا كسرتها المسافة، ولا تعبت من التحديق في عين الحق، تسعى إلى حرية غير منقوصة لا تشوبها شائبة.
على درب عودتي أفكُ ألغاز الانتظار، وأتهيأ بمتابعةِ كل ما يُنشر عن الشام. أراقب الشوارع المهترئة، وجوه الناس وضحكاتهم التي فقدت أسنانها من الفقر، لكنها ما زالت صافية تنبع من طيبة وفرحة أصيلة بالخلاص. أتوقف ما قبل أنفاسي لأدققُ بعشوائية ارتماء الظل في زواريب الأحياء القديمة، ثم أعاود المشي مع العابرين أتحسس الجدران، ألمس كل عرق أخضر ينمو في ظل بيت مهجور، أحتضن كل طفل يسعى إلى لقمتهِ في شوارعها. عن بعدٍ أحدّقُ بكلّ الخسائر التي تعكسُ ما نال أرواحنا من تعب، وعقلي مجهدٌ من تكرار سؤال كيف يمكن تخطيها.. كيف السبيل إلى التعافي؟
أمس كنتُ وطالبي نناقشُ فكرة اللاعنف والسلام، تطرقنا إلى ما تقوم به إسرائيل وكيف أن جذور أفعالها هي اضطهاد هتلر لليهود، ليبرز سؤال مباغت: أكانت ألمانيا ستكون أعظم مما عليه الآن لو لم يوجد هتلر؟ أم أن للأقدار حتميتها، فلو لم يكن هتلر لكان سواه. تكلمنا عن كتاب مهم عنوانه Hitler’s Willig Executioners حول جاهزية جلادي هتلر للقتل، قبل تغوله وبروزه كـ “هتلر” الذي نعرف عنه، وكيف أن السياقات الزمانية والمكانية والبشرية كانت تتراكم لتكرّس الأسباب التي أفضت إلى المحرقة، التي يستمر أبرياء بدفع ثمنها حتى الآن.
كانت المدن التي دمرتها الحروب العالمية تلوح خلال نقاشنا، وأنا أشردُ وراء المدن السورية المدمرة التي احتلت رأسي، تلك التي لحقت بأخواتها الألمانيات، وجلادينا الذين كانوا متأهبين للخوض في دمائنا. ترى لو لم يكن الأسد وابنه كيف كنّا سنكون؟ سؤال لا يمكن الإجابة عن احتمالاته، ونحن ما نزال نخوض رمال الكراهية المتحركة التي صنعها عهدٌ طويل من الاستبداد وإلغاء الهوية.
الدكتاتوريات تتغذى على الكراهية، والحروب الأهلية لا تبدأ حروباً، لكنها تُرَسِّمُ أقدار البلاد بالتجهيز لقابلية قتل الآخر المختلف. هذا هو درسنا اليوم ما بعد التحرير، فهل سننجحُ بأن لا نخوض أكثر في دمائنا السائلة؟
تركتُ صفحة “غوغل دوكمنت” مفتوحة أمامي على إشارة الاستفهام كنهاية. مرت عدة أيام، أرمقها وتراقبني بينما تمكث الأوراق هادئة تنتظر عودتي إليها بما كتبتهِ بخط اليد لتتحوّل إلى وثيقة إلكترونية كشاهد أبدي.
كم من وثائق تاريخية مرت على بلادنا لا نعرف عنها شيئاً، لكنها نحتت مصائرنا، أحفاد حُقبٍ لا نملك تغيير ما تركته صدماتها في جيناتنا. شعبٌ مصاب بصدمات نفسية نتوارثها مرغمين، يصعدُ وجعها عند المساس بمحفزاتها، منطلقاً من عقاله، فنواجهُ وجوه أجدادنا المحتقنة بالغضب، وتعود إلى شفاهنا ملوحة دماءهم. حقيقةٌ علينا مواجهتها اليوم.
أتذكر عندما بدأتُ مدونتي “ترحال” في بداية المنفى، كم استغرقني الاعتياد على وسيلة التعبير الإلكتروني عما يختلجُ في أعماقي ما كان له من وسيلة سوى التدوين، لسبب واحد، أن مدوناتنا كانت الطريقة الوحيدة للتواصل بشكل آمن مع من تركناهم خلفنا تحت الخوف، ومع كل من يستطيع الدخول عبر البروكسي ليعرف أخبارنا، بينما تبقى الاتصالات الهاتفية مقتضبة وحذرة، تحاشياً لأذن الرقيب المخابراتية التي كانت تعسعس في كل زاوية مستعدةً للإيذاء، the willing executioners – “الجلادون طوعاً”.
ذات مرّة، بعد انتهاء المكالمة، أغلقتْ أمي سماعتها في دمشق، وبقيتُ هنيهة، فسمعتُ حديثنا يتكرر على مسامعي مُسجلاً.
لقد بدأت الثورات من المدونات. الفضاء الذي خلقه الشباب خارج العقلية التقليدية، ليعبِّروا من خلالها عن آمالهم عابرين أنفاقَ الظلم تواقين للحرية.
كنت أتابع مدونات النشطاء في مصر، ما زلت أتذكر كم كانت مدهشة. في 2010 أقنعني ابني أن اشترك في “الفيسبوك” قال جملةً كان يعرف أنها كفيلة بوقف ترددي: ماما تشعرين بالغربة والفيسبوك سيجعل كل أصدقائك حولك دون أن يتأذى أحدهم من المخابرات.
الفيسبوك كان أداة الثورة التي جعلت من صفحاتنا صحافة بديلة داعمة، وأساليب للمقاومة الشعبية، وتنمية مهارات جديدة لابتكار طرق الاستمرار، وعصف ذهني حول الحقوق. كم كانت ترعبهم هذه الكلمة “الحقوق”، كبندقيّة موجهةٍ إلى رؤوسهم، كانت تهمة حيازته قد تؤدي إلى القتل تحت التعذيب.
أراني أتهرب من الكتابة عن “العودة”، تهرب الأفكار، يتوقف عقلي عن اللهاث وراءها، فهي جميعها محقّة بالأولوية، مزدحمة في قلبي.
نعم قلبي، فقد أثبتَ العلمُ مؤخراً أن القلبَ ليس مركزاً لتنظيم تدفق الدماء فحسب، بل هو عقل آخر، مكَّون من آلاف الخلايا العصبية الماهرة بمعالجة المعلومات والتعلّم، بارتباطٍ مُعقد بالدماغ، يمتلكَ قدرة التأثير على الإدراك، واتخاذ القرارات من خلال إشاراته الهرمونية والعصبية، وله ذاكرته الخاصة. والأهم أنّه قد تتقطع نياطهُ من شدة الحزن، لذلك كنت أشعر أن قلبي منكسر من وطأة الخذلان، كنّا وحدنا رغم أننا كنا نحمل هم الوطن، ذاك الذي لم يكن مبالياً بأحد. أيكون هو السبب؟
قلبي بذاكرته الحيّة، يدفعني بعيداً عن ملامسةِ بوح العودة الملتصق باختبار الأعمق من الخسائر، تلك التي تبقى فادحة مع مرور الزمن. ليست كسواها التي تتجلى عن مكاسبٍ بعد مرورٍ قليل منه عليها.
في كتابي “الأسفار.. أبعدُ من موت أقربُ من حياة” كتبتُ حول ذلك، لكنني هنا أتكلمُ عن خسارة الوطن، تلك التي تبقى طعنةً في كل شهيق، لا يبرأ الصدر من مباغتتها .
لماذا أمضي في كل هذه الجراح الآن؟ سيأتي التفسير بعبارةٍ كتبتها بعدَ سقوط نظام الفارّ، كانت الشهقة الأولى دونما توجع. باللهجة المحكية كتبتُ عن إحساس جديد، وأن كل فقدٍ لم يعد فقداً منذ استعادة الشام.
بدأت أبواب العودة حين فُتحت أبواب ذاكَ المعتقل الرهيب “صيدنايا”، وحدنا نعرف ماذا يعني فتحَ أبواب الجحيم أمام عيون العالم، خارجينَ للعراء بأجسادنا المنتهكةِ بآثار التعذيب، بالفقدان، بالانتظارات دونما أمل، بالوحشية التي من شدتها لم يصدّقها كثيرون، وظنوا أنها مجردُ هلوسات مجانين. كيف لعقلِ بشري أن يستوعبَ كل هذه الفظائع، ويستمر دون أن يصاب بالجنون؟ كثيرون آثروا أن يصدّقوا كذبة أنها مجرد توهمات خيالية، حماية لعقولهم بالإنكار.
نحن السوريون الذين لم يكن كرنڤال الربيع العربي لنا كما كان لسوانا، فقد دخلنا عن عمدٍ وإصرارٍ نفق التاريخ المعتم لقوة الاستبداد، وجبروت المجزرة، متحدينَ أعتى آلات الإبادة الجماعية، التي استمرت تحصدنا عقوداً، فقد بدأت مع المجرم حافظ الأسد بمجازره السريّة، وطموحاته المرضية وأنانية الشعور بالنقص حين يتحول إلى مسخ متوحش. بإرادتنا الكاملة ودمائنا قلنا لا للاستبداد، ونقول الآن لن يتكرر، أو سيلقى نفس المصير.
إنها حتمية التاريخ الذي فقهناه، وصنعناه، لتكتمل دائرته الآن بالعودة. الدرب الذي بدأ ولن ينتهي، دربُ حقنا وواجبنا، دربُ البقاء على الأمل بالعمل.
انتصرنا، ولكن الشرخَ ما يزال في أرواحنا. لذا علينا أن ندركَ حجم الفاجعة، وأن نتوقفَ لنستوعبَ منشأ هذا الغضب، وما يثيره فينا الخوف من الآخر. وقتها سيبدأ طريقُ التعافي.
شعبٌ بهذه القوةِ الروحيّة لن يتوقف حتى يحقّق ما يريد. برجاله ونسائه ما يزال يتحدى موته. إنه الفولاذ الذي سقيناهُ ونحن نحتضنُ جثث أطفالنا ونودعها حضن أرضنا، ونقسمُ أن نعود وإن اضطررنا أن نزرع الحدود بالخيام رافضينَ أن نهان، غير آسفين على رخيص.
“السوريات صانعاتُ القرار” هو العنوان العريض لحال البلادِ التي ما زلنا نحلم بتحقّقها. يقولون “الذكور يقومون بالحرب والنساء يصنعنَ السلام”. تعيد السوريات رتق الجراح، وحياكة المستقبل، وجمع الشتات، ونسج الأمل، فهنَ البنّاءاتٌ المرنات القادراتٌ على خلق بداياتٍ جديدة، صنعنَ أنفسهنَّ على عين الفقد والألم، وما زلن على إيمانهنَّ بسوريا التي يردنَها مثلهنَّ قوية حرّة، جميلة معافاة، متسعة لتضمَ أبناءها لتصعد بهم جميعاً إلى مصافِّ البلادِ الحرة المستقرة، بعد أن اختبرنَ الشتات، وتحدينَ صعاب الغربة، وحققنَ النجاحات الباهرة، وتفوقنَ في كل مجال دخلنهُ، حين كان عليهنّ البدء من الصفر في مجتمعات غريبة وبلاد جديدة، تعلمنَ منها أن تكون القيمة للإنسان.
العودة عنوانٌ أَسطرُ تحتهُ كل ما مرّ بنا حين التفتُ إلى ما مضى، لأرى شوط الدربِ الذي قطعناهُ، ونحن لا نملكُ سوى الحلمِ الذي تجرأنا عليه، ولم نندم على الكرامة، ولم نفقد الأمل بسوريا العظيمة لا سوريا الأسد، فنلملمُ شتات ما تبقى لنعودَ إلى بلادٍ نحبّها حتى قيامتها الجديدة، لا في خرابها الأخير.
تسألني لماذا تريدينَ العودة؟ لأُتمَّ ما بدأتُ به منذ نعومة أظافري، حين رفضتُ كل استبداد، وكل محاولةِ للتطويع، كل إلغاء لإرادتي، وكل استغلالٍ وتنميط، وقررتُ أنّني امرأة حرّة فخورة بإنسانيتها، بالحزن قبل الفرح، بالإصرار قبل التعب، بالحب قبل الخذلان. ولكلِّ ما سبق ما يزال لدينا وطنٌ نبنيه كما يليق بحقيقتنا الجديدة.
حين قامت الثورة تركتُ عملي، تفرّغتُ لأكونَ ابنتها البارة، كنت أجيبُ على تعجب أصدقائي الأمريكيين بسؤالي لهم: كم مرة يتاح لإنسانٍ أن يحرّرَ نفسه، ويشارك في تحرير بلاده!
أمّا الآن عند سؤال العودة: كم مرّة في الزمان يتاحُ لبلادٍ أن تنهضَ من الرّكام لتصنع إنسانها وتاريخها!
مجلة أوراق/ العدد 25

خولة برغوث
الخميس 27 نوفمبر 2025