زيدان وصف الزيارة بأنها "حدث مفصلي يؤسس لمرحلة مستقبلية في تاريخ التعايش السلمي بالشام"، وكأن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين كانت تنتظر توقيع الرئيس في دفتر الذكريات لتبدأ عهداً جديداً. هذه اللغة، التي تنتمي إلى القاموس الرسمي القديم، تحاول تحويل إيماءة رمزية إلى نقطة تحوّل تاريخية، وتختزل قضايا التعدد والعدالة والمواطنة في مشهد تلفزيوني أو صورة أمام الكاميرا. إنها نزعة مألوفة في الثقافة السياسية السورية، حيث يُعاد إنتاج صورة "الرئيس المؤسس" الذي يبدأ التاريخ من جديد مع كل زيارة أو خطاب، بينما تبقى الجراح مفتوحة، والمظالم بلا مساءلة.
لكن المقطع الأخطر في منشور زيدان هو حديثه عن أن ما خطه الرئيس في دفتر الذكريات "عكس فهماً عميقاً لوثيقة التعايش التي خطها سيدنا معاوية بن أبي سفيان بإملاء رسول الله". هنا تتضح محاولة بناء سردية لاهوتية للسلطة، حيث لا يُقدَّم الرئيس بوصفه رأس دولة مدنية، بل بوصفه وارثاً لعهد نبوي. هذه اللغة التي تربط بين الحاكم والنبوّة ليست جديدة، لكنها حين تُستعاد في سياق يُفترض أنه يطيح بالإرث التقديسي للسلطة، فإنها تكشف عن مقاومة عميقة لفكرة التحول الديمقراطي. فبدلاً من شرعية الدستور، يُعاد إنتاج شرعية العهد، وبدلاً من المواطنة المتساوية، يُستدعى الأمان التاريخي الذي يمنّ به الحاكم على رعاياه.
الجملة الختامية للمنشور، التي تقول إن "الشرع تسلم نسختها من البطريرك يوحنا العاشر ليجدد عهد رسولنا عليه السلام"، تختصر كل شيء. رئيس مسلم يتسلم وثيقة روحية من بطريرك مسيحي ليجدد بها عهد الرسول. ما يبدو في الظاهر طقساً للتسامح، يخفي في العمق استحواذاً على المعنى الديني والتاريخي. فالتعايش هنا لا يُفهم كعلاقة مواطنة متكافئة، بل كعلاقة بين مانح للشرعية ومجدد للعهد، أي بين من يملك التاريخ ومن يمنح الحماية. بهذه الصيغة، يتحول الدين إلى أداة تبرير للسلطة، ويتحول الحاكم إلى كاهن سياسي يتلقى البركة ليعيد توزيعها على المجتمع.
خطورة هذا الخطاب لا تكمن فقط في لغته الدينية، بل في إعادة إنتاج النموذج الأبوي للزعامة الذي ثار السوريون عليه قبل عقد ونصف عقد. حين يُقدَّم الشرع بوصفه مجدداً للعهد النبوي، فإننا نعود إلى منطق "الرئيس القائد"، وإن استُبدل بزخارف أكثر نعومة. استحضار الرموز الدينية والتاريخية لإسناد السلطة السياسية هو الوجه الآخر من التقديس القديم، ولو جاء هذه المرة بلسان المدنية والتسامح.
ولعلّ المفارقة أن الحديث عن "وثيقة التعايش" المنسوبة لمعاوية لا وجود تاريخي موثوق لها بهذا الوصف. وحتى لو افترضنا صحتها، فإن جوهرها كان تنظيماً لعلاقة بين الدولة الإسلامية وأهل الذمة، أي علاقة بين سلطة وحماية، لا بين مواطنين متساوين في الحقوق. تحويل تلك الوثيقة إلى مرجعية للتعايش في سوريا المعاصرة يعني النكوص عن مفهوم الدولة الحديثة التي لا تميز بين الناس على أساس الدين أو الانتماء، بل على أساس القانون والحقوق المتساوية.
ورغم محاولة الخطاب الرسمي تقديم الزيارة بوصفها لحظة تأسيسية، فإن هذا التوصيف بدا منفصلاً عن الواقع السوري، حيث لا تُستقبل زيارة رئيس لمكان عبادة بوصفها حدثاً تاريخياً، بل كواجب طبيعي لرئيس يُفترض أن يمثل جميع المواطنين، بمختلف دياناتهم وانتماءاتهم. فالمبالغة في توصيف الحدث، وتحويله إلى نقطة تحول، تثير تساؤلات حول جدوى هذا النوع من الرمزية، خصوصاً في ظل غياب إجراءات فعلية تعزز المساواة وتكرّس العدالة.
كما أن التركيز على الكنيسة المريمية، دون زيارة المناطق التي شهدت مجازر وانتهاكات، أعطى انطباعاً بأن الرسالة موجهة للخارج أكثر مما هي موجهة للداخل. فبدل أن تكون الزيارة خطوة نحو التصالح المجتمعي، بدت كجزء من حملة علاقات عامة تهدف إلى إظهار صورة متسامحة للسلطة، من دون أن تُترجم إلى سياسات حقيقية تعالج الجراح المفتوحة. هذا الانطباع تعزّز بفكرة أن المسيحيين، بوصفهم أقلية مسالمة، يُستخدمون كرمز لترويج التسامح، بينما تُهمّش قضايا المكونات الأخرى التي تعرّضت لانتهاكات جسيمة.
في هذا السياق، أعادت السلطة إنتاج خطاب "حامي الأقليات"، وهو خطاب مألوف في تاريخ الأنظمة الاستبدادية، حيث تُمنح الحماية بدل الحقوق، ويُقدَّم الحاكم كضامن للتعايش، لا كضامن للمواطنة. هذا النموذج، الذي يُعيد إنتاج العلاقة بين الراعي والرعية، يتناقض مع جوهر الدولة الحديثة، التي تقوم على المساواة أمام القانون، لا على الامتيازات الرمزية أو الطقوس الاحتفالية.
الاهتمام الزائد بالمسيحيين، حين لا يُترجم إلى حماية حقيقية لكل المكونات، قد يُفهم من قبل بقية السوريين كتمييز سلبي بحقهم، لا كضمانة لهم. فالتعايش لا يُبنى على مشهدية دينية، بل على مصالحة مجتمعية شاملة، تبدأ من الاعتراف، وتشمل السنة والعلويين والدروز والأكراد، وتُبنى على العدالة الانتقالية، لا على دفتر الذكريات.
التعايش الحقيقي لا يُكتب في دفاتر الذكريات، ولا يُوقّع على الورق أمام الكاميرات، بل يُبنى في القانون، والمساواة، والتعليم، والعدالة. وما لم تتجسد هذه المفاهيم في مؤسسات تحمي الجميع من التمييز والسلطة المطلقة، فكل حديث عن "تجديد عهد الرسول" سيظل مجرد استعارة لتجميل واقع مأزوم.
المنشور الذي أراده المستشار مديحاً رئاسياً، فضح في الواقع عمق الإشكالية الفكرية في السلطة الانتقالية: عجزها عن الانفصال عن منطق التقديس، والبحث عن شرعية حديثة تُبنى على الدستور لا على العهد، وعلى المواطنة لا على الحماية. وفي النهاية، فإن من يسعى لتأسيس دولة المواطنة لا يحتاج إلى استدعاء معاوية أو العهد النبوي، بل إلى أن يقول بوضوح: كل السوريين متساوين، لا فضل لمؤمن على غير مؤمن، ولا لأكثرية على أقلية، إلا بالحق والعدل.
-----
المدن


الصفحات
سياسة








