تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

هل يعرف السوريون بعضهم بعضا؟

29/10/2025 - فارس الذهبي

كلمة للفائزين بعضوية مجلس الشعب السوري

26/10/2025 - ياسر محمد القادري

سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة

13/10/2025 - ياسين الحاج صالح

اوروبا تستعد للحرب

13/10/2025 - د. إبراهيم حمامي

من الفزعة إلى الدولة

13/10/2025 - حسان الأسود

انتخاب أم اصطفاء في سورية؟

13/10/2025 - احمد طعمة

المسار التفاوضي بين الحكومة السورية وقسد.. إلى أين؟

01/10/2025 - العقيد عبدالجبار العكيدي


بعد مئة عام وواحد: كيف حطم الحزب الشيوعي السوري المطرقة والمنجل





في مطلع القرن العشرين، كانت دمشق تفيض بالأسئلة أكثر مما تفيض بالإجابات.
بلادٌ خرجت من حكم العثمانيين لتدخل في قيد الانتداب الفرنسي، وشعبٌ يعيش بين الحلم بالحرية والواقع المرهق للاستعمار.
في ذلك الزمن وُلد الحزب الشيوعي السوري–اللبناني عام 1924، حاملاً شعارًا بسيطًا وعميقًا: «وطن حر، شعب سعيد.»


 
لم تكن العبارة مجرّد شعار حزبي؛ كانت نشيدًا للقرن الجديد، وعدًا بعدالةٍ اجتماعية، ونداءً لتأسيس وطنٍ لا يُقسم بين الإقطاعيين والجنرالات. كانت الفكرة يومها ثورية إلى حدّ السذاجة الجميلة: أن الحرية ليست ترفًا سياسيًا، بل شرطًا للكرامة الإنسانية.
الشيوعيون الأوائل لم يكونوا بيروقراطيين ولا متكلّمين بلاغيين. كانوا عمّال مطابع، معلّمين، فلاحين، طلابًا في بيروت وحمص وحلب. لم يقرأوا ماركس بلغته الأصلية، لكنهم فهموا روحه: أن الفقر ليس قدَرًا، وأن الخبز يجب أن يكون للجميع. كانت اجتماعاتهم سرية في المقاهي والبيوت، وشعاراتهم تُكتب بالطباشير على جدران المدارس:
المطرقة والمنجل، وطن حر وشعب سعيد.
يُشير الباحث الدكتور عبد الله تركماني في دراسته عن تاريخ الحزب إلى أن الحزب الشيوعي السوري – اللبناني نشأ في صفوف الأقليات القومية والدينية، من أكراد وأرمن وشركس ويهود ومسيحيين، ما منحه طابعاً مدنياً متعدداً، لكنه أبعده عن القضايا الوطنية الكبرى. ويؤكد تركماني أن العلاقة العضوية بين الحزبين السوري واللبناني استمرت عملياً حتى عام 1964، حين أعلن الشيوعيون اللبنانيون الانفصال النهائي، لتبدأ بعدها مرحلة طويلة من الانتقادات الموجهة إلى القيادة السورية، ولا سيما إلى خالد بكداش الذي مثّل سلطة الحزب المركزية وشخصن قيادته.
كما يوضح الدكتور تركماني أن تاريخ الحزب كان حافلاً بالأزمات والانشقاقات التي اقترنت غالباً بتحولات الداخل السوري أو بتبدّل موازين القوى الإقليمية والدولية. فموقفه من قرار تقسيم فلسطين عام 1947 أدى إلى طرد وتجميد عدد من القيادات، بينما تسببت توجهاته الستالينية في الخمسينيات بخروج رموز فكرية بارزة مثل الياس مرقص وياسين الحافظ وميشيل كيلو. ومع الوحدة المصرية–السورية (1958–1961) تكررت الأزمة حين انسحب مثقفون احتجاجاً على موقف الحزب من الوحدة، منهم سعيد حورانية وإلياس الديراني.
ويخلص تركماني إلى أن الانشقاقات العمودية الكبرى في الحزب — بقيادة رياض الترك في السبعينيات ويوسف فيصل في الثمانينيات — لم تكن سوى نتيجة طبيعية لغياب الديمقراطية الداخلية وتبعية الحزب للنظام الحاكم، الذي رسّخ منطق الولاء والتوريث حتى داخل الأطر الحزبية الشرعية.
إنّ تجربة الحزب الشيوعي السوري، كما يصفها تركماني، تُلخّص مأساة الحركة الشيوعية العربية بين المثال الثوري والممارسة السلطوية. فالحزب الذي وُلد من رحم التعدد والتنوّع، انتهى أسير ولاءات مغلقة ونظام ديكتاتوري صادر شعاره التاريخي. ومع مرور قرن كامل، يبقى السؤال مفتوحاً:
هل ما زال ممكناً أن يكون في سورية وطن حر… وشعب سعيد؟
مع تبدّل الأنظمة، وتغيّر التحالفات، واشتداد القبضة الأمنية، بدأ الحزب الذي وُلد ضدّ الاستبداد يتكيّف معه.
في سبعينيات القرن الماضي، جاء عهد حافظ الأسد، ومعه ولدت «الجبهة الوطنية التقدمية».
قال النظام يومها إنّها إطار تعددي جديد، لكنّها في الحقيقة كانت أداة لتدجين السياسة.
أُعطي للأحزاب الصغيرة مقاعد رمزية في البرلمان، وصحف حزبية محدودة، وحقّ التجمّع بشرط الولاء.
في تلك اللحظة، دخل الحزب الشيوعي السوري بيت الطاعة. تحوّل الشعار «وطن حر، شعب سعيد» إلى ديكور سياسي. صار الحزب يحتفل بالمناسبات الوطنية أكثر مما يحتفل بأعياد العمال. لم يعد يتحدث عن «تغيير النظام الطبقي»، بل عن «تعميق مسيرة القائد».
ولأنّ الجبهات السياسية لا تُبنى على المساواة بل على التراتب، أصبح الحزب الشيوعي تابعًا في هيكلية يقودها حزب البعث بشكل مطلق. وبدأت الانشقاقات تتوالى منذ السبعينات وثمانينيات القرن الماضي.
كلّ جناح يدّعي أنه الوريث الشرعي للتاريخ النضالي، بينما الواقع كان يختزلهم جميعًا في مشهد واحد:
مناضلون سابقون يرفعون صورًا للقائد، لا لماركس أو لينين. ربما لم تكن الخيانة متعمّدة، بل كانت نتاج خوفٍ مزمن. الخوف من الحظر، من السجون، من النسيان. فآثر الحزب أن يبقى «قانونيًا» ولو بلا روح، على أن يكون مطاردًا بشعاراته.
تلك هي المعضلة الأخلاقية التي واجهت كل اليسار العربي:
كيف تحافظ على وجودك في نظامٍ لا يعترف إلا بنفسه؟
كيف ترفع راية العدالة وأنت جالس في مقعد السلطة؟
لقد فقد الحزب، شيئًا فشيئًا، علاقته بالطبقة العاملة التي وُلد من أجلها.
المصانع أُغلقت، والنقابات تحوّلت إلى أذرعٍ بيروقراطية للدولة، والفلاحون صاروا يبيعون أرضهم ليهاجروا أو ليعيشوا. أما الحزب، فبقي يحتفل بعيد العمال ببيانات مطبوعة تُوزَّع في قاعات مغلقة.
عام 2025، بعد مرور قرنٍ ونيفٍ على تأسيس أول حزب شيوعي في سوريا ولبنان، تبدو المفارقة مؤلمة. البلاد التي كانت تحلم بوطنٍ حر أصبحت ساحة صراع بين قوى متداخلة، والشعب الذي كان يُراد له أن يكون سعيدًا يعيش على حافة البقاء.
الحرب التي عصفت بسوريا منذ 2011 لم تُبقِ شيئًا على حاله: لا البنية الاقتصادية، ولا النسيج الاجتماعي، ولا حتى معنى «الوطن». أجيالٌ كاملة وُلدت في زمن الحرب، لا تعرف من الشيوعية سوى اسم نادي أو مطعم  أو جريدة باهتة. أما الحزب، فقد وجد نفسه غريبًا في وطنٍ لا يُشبه شعاراته. فقد تآكلت قاعدته الاجتماعية، وانصرف عنه العمال والفقراء إلى همومهم اليومية.
وبينما غرق بعض رموزه في حساباتٍ برلمانية شكلية، غرق الناس في طوابير الخبز والكهرباء.
إنّ مأساة الحزب الشيوعي السوري ليست في مبادئه، بل في خيانة رموزه… فالشعار الذي كان إعلانًا عن ولادة جديدة للأمة، تحوّل إلى نشيد يُتلى في احتفال رسمي لا يشعر به أحد.
أصبح يُستخدم لتزيين خطبٍ لا علاقة لها بالحرية أو السعادة.
الشعار نفسه  «وطن حر، شعب سعيد»  صار ينتمي إلى عالم الأدب أكثر من عالم السياسة.
ربما كان نجيب محفوظ محقًّا حين كتب: «السياسة عندنا كالأدب: نقرأها لنتسلّى لا لنتغيّر.» التحالف الطويل مع السلطة لم يكن مجرد خطأ تكتيكي، بل انتحار بطيء للمعنى.
عندما يصبح الحزب الثوري جزءًا من منظومة قمعية، فهو لا يُغيّر النظام، بل النظام يغيّره.
وحين يتحوّل إلى أداة تبرير، يفقد قدرته على النقد، ثم على التفكير، ثم على الوجود. التحالف الذي بدأ بحجّة «الاستقرار الوطني» انتهى بمحو الفارق بين الموالاة والمعارضة. صار الحزب يتحدث بلغة البعث لا بلغة الثورة.
حين نعود إلى البدايات، ندرك أن الفكرة لم تكن سياسية فقط، بل إنسانية. الوطن الحرّ لا يُقاس بخطابات السيادة ولا بعدد الدبابات، بل بحرية الفرد في قول رأيه، بحرية الصحفي في الكتابة،
بحرية المرأة في القرار، بحرية العامل في أن يعيش بكرامة. والشعب السعيد لا يُقاس بمعدلات النمو، بل بقدرته على الحلم. وحين يفقد الحلم، يفقد الوطن مبرّر وجوده. اليوم، ربما لا يوجد حزب شيوعي بالمعنى القديم، لكنّ هناك آلاف السوريين الذين يعيشون وفق روحه:
مدرّسون يعطون دروسًا مجانًا في المخيمات، فنانون يرسمون على جدران الخراب، شبابٌ يزرعون أشجارًا في أرضٍ أنهكها القصف، نساءٌ يُقمن مبادراتٍ تضامنٍ في الأحياء الفقيرة. هؤلاء، دون بطاقات عضوية، هم الورثة الحقيقيون للشعار القديم. هم الذين يعيدون الحياة إلى الجملة التي فقدت معناها:
«وطن حر… شعب سعيد.»
أن يذكّر بأنّ الأفكار لا تموت بخيانة أصحابها، بل بالسكوت عنها. لن يعود الحزب الشيوعي السوري، لكن الفكرة التي حملها  العدالة والمساواة والحرية ربما ستجد طريقها  بطريقة أخرى وفي أجيالٍ جديدة، تكتب بلغتها الخاصة، وتثور بأساليب أخرى، وتؤمن أن السياسة ليست بياناتٍ فقط، بل أخلاق.
مئة عام مضت منذ أن رُفعت اللافتة الأولى في شوارع دمشق، وما زال السؤال معلّقًا في الهواء: هل يمكن أن يصبح الوطن حرًّا إذا لم يتحرّر العقل أولًا؟
وهل يمكن أن يكون الشعب سعيدًا إذا كان الخوف هو الخبز اليومي؟
ربما الجواب يأتي من المستقبل.

نوار الماغوط- العربي القديم
الجمعة 31 أكتوبر 2025