انطباعات جوناثان باس، رجل الأعمال الأميركي، عن لقائه بالرئيس أحمد الشرع في دمشق
قال لي: "نحن لا نبدأ من الصفر. بل نبدأ من الأعماق".
قال لي: "نحن لا نبدأ من الصفر. بل نبدأ من الأعماق".
يحمل الرئيس الشرع، الذي تولّى المنصب بعد سقوط بشار الأسد، حضورًا هادئًا رصينًا. صوته منخفض، لكن كل كلمة ينطق بها تأتي عن روية. لا يظهر في صوته انتصار، بل إلحاح.
أضاف: "لقد ورثنا أكثر من مجرد أطلال. ورثنا صدمة، وانعدام ثقة، وإرهاقًا. لكننا ورثنا أيضًا الأمل. ضعيفًا، نعم — لكنه حقيقي".
طوال عقود، حكمت سوريا منظومة أربكت مفهوم الولاء بالصمت، والتعايش بالكراهية، والاستقرار بالقمع. حكمت أسرة الأسد — أولًا حافظ ثم بشار — بقبضة من حديد، استخدمت الخوف والإعدامات لترسيخ السيطرة، فيما تآكلت مؤسسات الدولة وتحولت المعارضة إلى جريمة.
الرئيس الشرع يدرك تمامًا هذا الإرث الثقيل. قال:"سيكون من غير الصادق أن نتحدث عن بداية جديدة تمامًا. الماضي حاضر — في عيون كل شخص، في كل شارع، في كل أسرة. لكن واجبنا الآن ألا نكرره. ولا حتى بنسخة مخفّفة. يجب أن نصنع شيئًا جديدًا كليًا".
كانت خطوات الشرع الأولى حذرةً لكنها عميقة الدلالة: أمر بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وبدأ حوارًا مع جماعات معارضة كانت منفية أو مُسكتة، وتعهد بإصلاح الأجهزة الأمنية سيئة الصيت. وتتمثل رؤيته في مجتمع نابض، متعدد الثقافات، تعددي بحق. وهو يدعم حق عودة جميع السوريين — من يهود ودروز ومسيحيين وغيرهم ممن صودرت ممتلكاتهم في عهد الأسد.
كما اقترح إنشاء وزارة مخصّصة لمعالجة قضية المفقودين والمغيبين قسرًا، متعهدًا بكشف الحقائق وراء المقابر الجماعية في سوريا، وهو يدرك الحاجة إلى شراكة مع الولايات المتحدة في هذا الملف — من توفير تقنيات الطب الشرعي وبناء قواعد بيانات الحمض النووي، إلى الحصول على تعاون المسؤولين عن الفظائع السابقة.
قال الشرع: "إذا كنت أنا الوحيد الذي يتحدث، فهذا يعني أن سوريا لم تتعلم شيئًا. نحن ندعو كل الأصوات إلى الطاولة — العلمانية والدينية، القبلية والأكاديمية، الريفية والحضرية. على الدولة أن تستمع الآن، لا أن تأمر".
لكن، هل ستعود الثقة للناس؟ وهل سيصدقون وعود حكومة نشأت من رماد الدكتاتورية؟
رد قائلًا:"لا أطلب الثقة. أطلب الصبر — وأطلب المساءلة. حاسبوني. حاسبوا هذا المسار. هكذا فقط ستأتي الثقة."
وعندما سألته عن أكثر ما يحتاجه السوريون الآن، أجاب بلا تردّد: "الكرامة عبر العمل. والسلام عبر الغاية".
في بلدات فرّغتها الحرب وقرى ما تزال تعاني آثار الصراع، لا يطالب الناس بالسياسة، بل بالحياة الطبيعية — فرصة لإعادة بناء منازلهم، وتربية أطفالهم، وكسب رزقهم بسلام.
يدرك الشرع هذه الحاجة، ويدفع نحو برامج طوارئ اقتصادية تركز على خلق فرص العمل في الزراعة والصناعة والبناء والخدمات العامة.
قال: "لم يعد الأمر يتعلق بالأيديولوجيا. الأمر يتعلق بمنح الناس سببًا للبقاء، وسببًا للحياة — وسببًا للإيمان".
أكد على أهمية الشراكات مع المستثمرين الإقليميين، وتمويل المشاريع الصغيرة للعائدين، والتدريب المهني للشباب الذين لم يعرفوا سوى الحرب.
"لن تُبنى سوريا مستقرة بالخطب أو الشعارات — بل ستُبنى بالفعل: في الأسواق، في الفصول الدراسية، في الحقول، وفي الورش. سنعيد بناء سلاسل التوريد. ستعود سوريا مركزًا للتجارة والأعمال".
تكشف هذه الرؤية الاقتصادية بُعدًا أعمق: بعد جيل كامل من الخسارات، تعب السوريون من الصراع. صاروا يتوقون إلى السلام — لا مجرد غياب الحرب، بل حضور الفرص.
قال: "كل شاب يعمل هو نفس واحدة أقل عرضة للتطرف. وكل طفل في المدرسة هو تصويت للمستقبل".
وفي أحد أجزاء الحوار الدقيقة، تطرق الشرع إلى مستقبل العلاقة مع إسرائيل — موضوع يلاحق المنطقة منذ 1948، واشتدّ مع كل غارة، وعملية سرية، وتهمة حرب بالوكالة.
قال بحزم: "أريد أن أكون واضحًا: عهد الضربات المتبادلة التي لا تنتهي يجب أن ينتهي. لا تزدهر أمة حين تكون سماؤها مليئة بالخوف. الحقيقة أننا نواجه أعداء مشتركين — ويمكننا أن نلعب دورًا رئيسيًا في الأمن الإقليمي".
أبدى رغبته في العودة إلى روح اتفاق فصل القوات لعام 1974 — لا كخط وقف إطلاق نار فحسب، بل كأساس لضبط النفس وحماية المدنيين، خاصةً أبناء الطائفة الدرزية في جنوب سوريا والجولان.
قال: "دروز سوريا ليسوا بيادق. إنهم مواطنون — متجذرون، أوفياء تاريخيًا، ويستحقون كل حماية يقرّها القانون. سلامتهم غير قابلة للتفاوض".
ورغم أنّه لم يطرح تطبيعًا فوريًا، أشار إلى انفتاحه على محادثات مستقبلية مبنية على القانون الدولي والسيادة المتبادلة. قال: "السلام لا يُبنى بالخوف، بل بالاحترام المتبادل. سنشارك حين يكون هناك صدق وطريق واضح للتعايش — وسنبتعد عن أي شيء دون ذلك".
ربما كانت أبرز تصريحاته تلك التي تضمّنت رغبة دبلوماسية جريئة: استعداده للجلوس مباشرة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
قال: "بغض النظر عمّا يقوله الإعلام عنه، أراه رجل سلام. لقد استهدفنا العدو نفسه. ترامب يفهم النفوذ والقوة والنتائج. سوريا تحتاج وسيطًا نزيهًا يعيد ضبط المحادثة. إذا كان هناك مجال للتلاقي يساهم في استقرار المنطقة — وفي أمن أميركا وحلفائها — فأنا مستعد لذلك. هو الرجل الوحيد القادر على إصلاح هذه المنطقة، لنجتمع حجراً فوق حجر".
كان تصريحًا لافتًا — ليس لصراحته فقط، بل لما يعنيه: سوريا الجديدة لا تخشى اتخاذ خطوات غير تقليدية في سبيل السلام والاعتراف.
والشرع لا يُجمّل التحديات التي تواجه سوريا: أكثر من مليون قتيل في مقابر جماعية، 12 مليون نازح، اقتصاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، عقوبات خانقة، وميليشيات متجذرة في الشمال.
قال: "هذه ليست قصة خيالية. إنها عملية تعافٍ. والتعافي مؤلم".
يعترف بأن القوى الأجنبية — من الصين وروسيا وإيران وتركيا إلى الإمارات وقطر والولايات المتحدة — ستواصل التأثير في طريق سوريا. لكنه يؤكد أن السيادة السورية تبدأ من التوافق السوري.
من هنا قال: "لن نكون بيادق، ولن نكون حصنًا مغلقًا. سنكون دولة تُحكَم بالشرعية، لا بمجرد السيطرة. نريد من الولايات المتحدة أن تكون شريكًا لنا — في الحوكمة، وفي مكافحة الفساد، وفي بناء مؤسسات على أسس النزاهة".
يرى كثير من السوريين في الشرع ليس مجرد ثائر بل مُرمّماً — رجلًا قادرًا على رتق جروح أمةٍ أنهكتها الحرب وفرّقتها الهويات. ولعل بساطته وإصراره على عدم لعب دور المستبد، رغم ماضيه المتطرف، هي ما يجعله رجل اللحظة.
قال لي في نهاية لقائنا: "لم أسعَ إلى هذا المنصب لأحكم. وإنما قبلته لأن سوريا يجب أن تطوي الصفحة. وأُفضّل أن أساعد في كتابة هذا التاريخ — مع الآخرين — على أن أراه يُمزّق من جديد. ليس لدينا خيار سوى النجاح. يجب أن نجعل سوريا عظيمة مجددًا".
أعتقد أن ماضيه العنيف جعله أكثر قدرة على قراءة المستقبل. نعم، يمكن للإنسان أن يتغير وينمو. لقد تعلّم من التجربة، وصار يمتلك رؤية واضحة لتشكيل ما هو آتٍ. إن ماضيه مع التطرف جعله قادرًا على الدفاع عن سوريا من الداخل — ضد تنظيم داعش وكل من يريد إسقاط التقدّم الهش الجاري. لقد تطور من الثورة إلى الحُكم، وأرى فيه القدرة على قيادة المستقبل الحقيقي لهذا البلد.
حين غادرت قصر الرئاسة، التفتُ لأرى الرجل الذي أوكلت إليه مهمة إحياء واحدة من أقدم الحضارات — حيث وُلدت أول أبجدية. لم تكن هناك صور له على الجدران، ولا شعارات، ولا أعلام. فقط رجل يسعى لتوحيد خريطة سوريا إلى وطن متساوٍ. يقف شامخًا، ثابتًا في عزيمته، رغم كل ما يقف ضده — لكنه عازم على المضي قدمًا.
إنه يريد بناء مستقبل لشعبه، وللمنطقة، ولسوريا التي ستخرج من الظلمة لتجلس أخيرًا على طاولة العالم.
ويبقى الحكم للأيام.