| | |||
واشنطن فهمت مبكرًا أن انهيار الدولة السورية الكامل كان سيعني فوضى إقليمية مفتوحة بلا ضوابط، وأن انتصار النظام السابق كان سيكرّس محورًا روسيًا–إيرانيًا يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط، فيما كان انتصار قوى معارضة غير منضبطة يحمل خطر إنتاج قوى راديكالية قد تنقلب لاحقًا على المصالح الأمريكية نفسها. بين هذه الإحتمالات الثلاثة، اختارت الولايات المتحدة الخيار الأبرد والأكثر براغماتية، إبقاء سوريا في حالة تعليق تاريخي، دولة لا تسقط ولا تُستعاد، وصراع لا يُحسم بل يُدار.
هذا المنطق لم يتغير جوهريًا حتى بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، بل أعيد إنتاجه بأدوات مختلفة. فموقع سوريا في الجغرافيا السياسية الإقليمية يجعلها عقدة ربط لا يمكن السماح بالسيطرة الكاملة عليها من أي طرف واحد. هي حلقة الوصل بين إيران ولبنان، وبين تركيا والعالم العربي، وبين روسيا وشرق المتوسط. السيطرة عليها تعني اختلالًا واسعًا في موازين القوى، ولذلك ظل الوجود الأمريكي، خصوصًا في الشرق والشمال الشرقي وقاعدة التنف، وجودًا وظيفيًا لا احتلاليًا، جغرافيًا لا عدديًا، هدفه التحكم بالخرائط ومسارات النفوذ أكثر من خوض الحروب أو حماية الموارد.
دخلت سوريا مرحلة النظام الأمني الجديد، لا بوصفه نظامًا وطنيًا موحدًا، بل كترتيب هشّ يقوم على تعدد مراكز القوة. في الشمال هناك بنى مدعومة من تركيا، وفي الشرق قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية، وفي دمشق سلطة مركزية جديدة محدودة القدرة والامتداد، وفي الجنوب سقف إسرائيلي صارم يمنع إعادة العسكرة ويحمي خطوطه الحمراء. بين هذه الأقطاب، أعادت واشنطن تعريف دورها، من فاعل عسكري مباشر إلى مدير مخاطر، ومن قوة ردع ثابتة إلى وسيط يفرض قواعد اشتباك يومية، ويراقب، ويتدخل عند الضرورة لمنع الانهيار لا لفرض حل شامل.
الولايات المتحدة، التي أنهكتها الحروب الأبدية في العراق وأفغانستان، لم تعد معنية ببناء دول أو هندسة نظم سياسية. سياستها في سوريا اليوم تقوم على الحد الأدنى الضروري، منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية ، ضمان استمرار احتجاز مقاتليه وعائلاتهم، إبقاء الطرق الرئيسية مفتوحة، وحماية المواقع الحساسة، من سجون ومراكز أمنية وبنى تحتية. أي خلل في هذه الوظائف الثلاث يفتح الباب أمام فراغ أمني قد تستغله قوى جهادية أو إقليمية، وهو ما تحاول واشنطن تجنبه بأقل كلفة ممكنة.
في هذا السياق، تحولت القواعد الأمريكية إلى عقدة تحكم إقليمية تفوق قيمتها العسكرية حجمها العددي. فهي تراقب المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، وتقطع أي محاولة لإعادة فتح ممرات لوجستية غير منضبطة، وتوفر قدرة استجابة سريعة تمنح واشنطن نفوذًا يتجاوز ملف مكافحة الإرهاب إلى ضبط التوازنات مع إيران، وطمأنة الأردن، والتنسيق غير المباشر مع إسرائيل. فهي ليست قاعدة حرب فقط، بل أداة تحكم، ورمز لفكرة الحضور الأمريكي المحدود لكن المؤثر.
غير أن أخطر ما في المشهد السوري الجديد ليس فقط تعدد مناطق النفوذ، بل هشاشة البنية الداخلية للدولة الناشئة. فالسلطة في دمشق، رغم حصولها على اعتراف دولي متدرج، ما تزال تعتمد على شبكات تعبئة ضيقة ذات طابع أيديولوجي ومناطقي، وتفتقر إلى مؤسسات أمنية مهنية محايدة. اللجوء إلى الحشد الطائفي أو العشائري، سواء عبر المساجد أو شبكات الولاء المحلي، يعيد إنتاج منطق الميليشيا داخل الدولة، ويقوض أي إمكانية لبناء إطار وطني جامع. هذا النمط من الإدارة الأمنية لا يهدد التماسك الاجتماعي فحسب، بل يفتح الباب أمام صراعات هوية في الشرق والشمال والجنوب، ويخلق بيئة مثالية لعودة التنظيمات المتطرفة بأشكال جديدة.
في الشرق السوري تحديدًا، تتقاطع الهشاشة الداخلية مع صراع المصالح الإقليمية. التنافس التركي–الإسرائيلي يضع سقفًا لأي مشروع وطني سوري متكامل. تركيا تريد تفكيك البنية العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية ومنع أي كيان كردي شبه مستقل، فيما تفرض إسرائيل في الجنوب معادلة الردع ومنع التمركز العسكري، مع احتفاظها بحرية الضرب. بين هذين السقفين، تحاول واشنطن الحفاظ على توازن هش، لكنها تدرك أن غياب تفاهم تركي–إسرائيلي أوسع سيُبقي سوريا دولة مجزأة، والشرق منطقة اختبار دائم للإنفجار.
من هنا، لا يمكن فهم السياسة الأمريكية في سوريا بوصفها انسحابًا أو تخليًا، بل بوصفها إعادة تموضع. واشنطن لا تغادر لأنها فشلت، بل لأنها حققت الحد الأدنى الذي تريده، لا نصر لخصومها، ولا كلفة عالية عليها، ولا انفجار إقليمي شامل. سوريا في هذا التصور ليست دولة يجب إنقاذها، بل ملف يجب إبقاؤه تحت السيطرة. ولهذا فإن النجاح الأمريكي لا يُقاس بإعادة الإعمار أو بناء الشرعية، بل بقدرتها على منع الأسوأ وتأجيل الإنفجار.
في الخلاصة، سوريا لن تتحول إلى دولة مستقرة، بل إلى مساحة إدارة أزمات مفتوحة. الولايات المتحدة لم تنتقل من سياسة التعطيل إلى سياسة البناء، بل من تعطيل صاخب إلى تعطيل هادئ، أقل ظهورًا وأكثر تقنية. إنها لا تصنع نظامًا جديدًا، بل تراقب توازنًا هشًا، وتراهن على أن إدارة الفوضى، مهما كانت أخلاقية الثمن، أقل خطورة من محاولة وراثة دولة مدمّرة. وفي هذا المعنى، تبقى سوريا مثالًا صارخًا على منطق أمريكي بات يحكم الشرق الأوسط، لا حلول نهائية، بل أزمات قابلة للتحكم… إلى أجل غير مسمى.
------------
الحوار المتمدن
هذا المنطق لم يتغير جوهريًا حتى بعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، بل أعيد إنتاجه بأدوات مختلفة. فموقع سوريا في الجغرافيا السياسية الإقليمية يجعلها عقدة ربط لا يمكن السماح بالسيطرة الكاملة عليها من أي طرف واحد. هي حلقة الوصل بين إيران ولبنان، وبين تركيا والعالم العربي، وبين روسيا وشرق المتوسط. السيطرة عليها تعني اختلالًا واسعًا في موازين القوى، ولذلك ظل الوجود الأمريكي، خصوصًا في الشرق والشمال الشرقي وقاعدة التنف، وجودًا وظيفيًا لا احتلاليًا، جغرافيًا لا عدديًا، هدفه التحكم بالخرائط ومسارات النفوذ أكثر من خوض الحروب أو حماية الموارد.
دخلت سوريا مرحلة النظام الأمني الجديد، لا بوصفه نظامًا وطنيًا موحدًا، بل كترتيب هشّ يقوم على تعدد مراكز القوة. في الشمال هناك بنى مدعومة من تركيا، وفي الشرق قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية، وفي دمشق سلطة مركزية جديدة محدودة القدرة والامتداد، وفي الجنوب سقف إسرائيلي صارم يمنع إعادة العسكرة ويحمي خطوطه الحمراء. بين هذه الأقطاب، أعادت واشنطن تعريف دورها، من فاعل عسكري مباشر إلى مدير مخاطر، ومن قوة ردع ثابتة إلى وسيط يفرض قواعد اشتباك يومية، ويراقب، ويتدخل عند الضرورة لمنع الانهيار لا لفرض حل شامل.
الولايات المتحدة، التي أنهكتها الحروب الأبدية في العراق وأفغانستان، لم تعد معنية ببناء دول أو هندسة نظم سياسية. سياستها في سوريا اليوم تقوم على الحد الأدنى الضروري، منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية ، ضمان استمرار احتجاز مقاتليه وعائلاتهم، إبقاء الطرق الرئيسية مفتوحة، وحماية المواقع الحساسة، من سجون ومراكز أمنية وبنى تحتية. أي خلل في هذه الوظائف الثلاث يفتح الباب أمام فراغ أمني قد تستغله قوى جهادية أو إقليمية، وهو ما تحاول واشنطن تجنبه بأقل كلفة ممكنة.
في هذا السياق، تحولت القواعد الأمريكية إلى عقدة تحكم إقليمية تفوق قيمتها العسكرية حجمها العددي. فهي تراقب المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، وتقطع أي محاولة لإعادة فتح ممرات لوجستية غير منضبطة، وتوفر قدرة استجابة سريعة تمنح واشنطن نفوذًا يتجاوز ملف مكافحة الإرهاب إلى ضبط التوازنات مع إيران، وطمأنة الأردن، والتنسيق غير المباشر مع إسرائيل. فهي ليست قاعدة حرب فقط، بل أداة تحكم، ورمز لفكرة الحضور الأمريكي المحدود لكن المؤثر.
غير أن أخطر ما في المشهد السوري الجديد ليس فقط تعدد مناطق النفوذ، بل هشاشة البنية الداخلية للدولة الناشئة. فالسلطة في دمشق، رغم حصولها على اعتراف دولي متدرج، ما تزال تعتمد على شبكات تعبئة ضيقة ذات طابع أيديولوجي ومناطقي، وتفتقر إلى مؤسسات أمنية مهنية محايدة. اللجوء إلى الحشد الطائفي أو العشائري، سواء عبر المساجد أو شبكات الولاء المحلي، يعيد إنتاج منطق الميليشيا داخل الدولة، ويقوض أي إمكانية لبناء إطار وطني جامع. هذا النمط من الإدارة الأمنية لا يهدد التماسك الاجتماعي فحسب، بل يفتح الباب أمام صراعات هوية في الشرق والشمال والجنوب، ويخلق بيئة مثالية لعودة التنظيمات المتطرفة بأشكال جديدة.
في الشرق السوري تحديدًا، تتقاطع الهشاشة الداخلية مع صراع المصالح الإقليمية. التنافس التركي–الإسرائيلي يضع سقفًا لأي مشروع وطني سوري متكامل. تركيا تريد تفكيك البنية العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية ومنع أي كيان كردي شبه مستقل، فيما تفرض إسرائيل في الجنوب معادلة الردع ومنع التمركز العسكري، مع احتفاظها بحرية الضرب. بين هذين السقفين، تحاول واشنطن الحفاظ على توازن هش، لكنها تدرك أن غياب تفاهم تركي–إسرائيلي أوسع سيُبقي سوريا دولة مجزأة، والشرق منطقة اختبار دائم للإنفجار.
من هنا، لا يمكن فهم السياسة الأمريكية في سوريا بوصفها انسحابًا أو تخليًا، بل بوصفها إعادة تموضع. واشنطن لا تغادر لأنها فشلت، بل لأنها حققت الحد الأدنى الذي تريده، لا نصر لخصومها، ولا كلفة عالية عليها، ولا انفجار إقليمي شامل. سوريا في هذا التصور ليست دولة يجب إنقاذها، بل ملف يجب إبقاؤه تحت السيطرة. ولهذا فإن النجاح الأمريكي لا يُقاس بإعادة الإعمار أو بناء الشرعية، بل بقدرتها على منع الأسوأ وتأجيل الإنفجار.
في الخلاصة، سوريا لن تتحول إلى دولة مستقرة، بل إلى مساحة إدارة أزمات مفتوحة. الولايات المتحدة لم تنتقل من سياسة التعطيل إلى سياسة البناء، بل من تعطيل صاخب إلى تعطيل هادئ، أقل ظهورًا وأكثر تقنية. إنها لا تصنع نظامًا جديدًا، بل تراقب توازنًا هشًا، وتراهن على أن إدارة الفوضى، مهما كانت أخلاقية الثمن، أقل خطورة من محاولة وراثة دولة مدمّرة. وفي هذا المعنى، تبقى سوريا مثالًا صارخًا على منطق أمريكي بات يحكم الشرق الأوسط، لا حلول نهائية، بل أزمات قابلة للتحكم… إلى أجل غير مسمى.
------------
الحوار المتمدن


الصفحات
سياسة








