نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي


عن مصر والدسترة اللاتاريخية!




الحاصل في مصر من عملية دسترة بعد «الثورة» يعكس إشكالية «العقل العربي» أكثر مما يعكس الصراع بين علمانيين ومؤمنين أو بين ليبراليين وبين محافظين. الصراع هو بين مفهوم الدولة الحديثة والإنسان الحداثي وبين المؤسسة الدينية أو الإنسان بوصفه مخلوقاً متديناً. والإنسان المتدين عادة ما يسأل عن الفروض الملقاة عليه، بينما يسأل الإنسان المواطن عن حرياته وحقوقه. وهذا ليس فارقاً لفظياً بل دلالي. فالإنسان المؤمن يتحرك في العادة ويناور ويداور لتحقيق تموضع مقبول مقابل الله للفوز برضاه. أما الإنسان الحداثي فيتحرّك وينشط لأجل إلزام الدولة بإحقاق حقوقه وحرياته.


صحيح أن للمصريين سجالهم الخاص، لكننا يُمكن أن نرى إلى هذا السجال ـ الصراع ـ على أنه تجسيد لواحد من أعطاب العقل العربي في أحد تجلياته، وهو الميل إلى إقناع العالم بأن هذا العقل قادر على استحضار «نجاحات» الإسلام الأول، «نقطة البداية الفذّة» من «فتوحات» إسلامية بالقفز على نحو 1400 عام أو بمجرّد السير وراء النصّ المقدس بحرفيته. وهذا تجلٍّ غير تاريخي للتاريخ وتفكير غير «عقلي» في السياسة. ليس لأنه من غير الممكن نسخ زمن تاريخي على غرار ما تفعله تقنية الحاسوب «إنسخ واطبع»، بل لأن فرضيته القائلة بأن البدايات كانت ذروة في النجاحات وقصة مُثلى إنما هي فرضية غير مثبتة تاريخياً، ولأن هذا الميل المزمن للعقل العربي إلى تمثّل الماضي والتحسّر على انقضائه كفردوس مفقود هو في كثير من أشكاله حالة نفسية ناشئة من قهر وشعور بالنقص وركون إلى أن الماضي كان بهياً، إذ لم يكن الحاضر كذلك. بل كونه لم ينجح حتى الآن في فرض قبولنا بكل فرضياته يؤكّد أكثر مما ينفي أنه غير ممكن!
الدولة الحديثة بحاجة إلى دستور والدستور ليس شريعة ولا أحكاماً دينية. وكل محاولة لفرض تطابق قسري بين عملية دسترة للدولة الحديثة وبين إخضاعها للشريعة وأحكامها إنما هي عملية مُخفقة أصلاً، بل هي تطويع الأيديولوجيا للحقائق التاريخية. الشريعة تعني إلغاء الدولة الحديثة بمعنى دولة المواطنين وليس احتكار القوة فقط أو فرض السيادة على الجغرافيا. فالسيادة والعنف لا يكفيان للقيام بأود دولة المواطنين. لقد كانت هناك أشكال من سيادة واحتكار للعنف قبل الدولة بكثير مثل القبيلة مثلاً! أما التوليفة التي يريدها الرئيس مرسي ومريدوه فهي ذاك «النظام» الذي يضمن ديمومة حكمهم وسيطرتهم وهيمنتهم. وهم يفعلون فعلاً مماثلاً للديكتاتوريات العربية ولحكم مبارك تحديداً ولكن بحركة مغايرة تسير باتجاه آخر. فقد حكم حزب مبارك مصر من خلال توليفة مشابهة تحركت من فلسفة الدولة الحديثة باتجاه الاستناد إلى شرعية الشريعة ومحاباتها في كثير من مجالات الحياة وتصريف الأمور. وها هو الرئيس مرسي الذي لم يُنتخب بغالبية عظمى ولا بغالبية معقولة يستند إلى الشريعة أولاً ويُطعّمها بأفكار الدولة الحديثة. وكلاهما - نظام مبارك و (قبله السادات) ونظام مرسي - يقصدان إدامة السيطرة والسؤدد لهما. والفارق أن كلاً منهما يضع نقطة الارتكاز في موضع آخر. هذا في أفكار الدولة الحديثة وعينه على الشريعة وهذا في الشريعة وزاوية عينه على ما في نُظم الدولة الحديثة.
وفي سياق متصل لا يُمكن الدستور وبخاصة بعد «ثورة» وتضحيات جسام أن يكون نتيجة ترجمة لمكسب انتخابي جارٍ ومتحول لجماعة الرئيس مرسي. وإقراره في هذه الملابسات وهذه التوجهات نوع من إدارة الظهر للتاريخ المصري النازع وفق خطاب الثورة إلى مزيد من الحريات والحقوق وكرامة الإنسان وليس إلى العودة بالثورة إلى ما قبل الإنسان السياسي... أي إلى الإنسان الديني، وهي المرحلة التي سبقت الدولة الحديثة في أوروبا وسواها. والدستور هو نقطة التوازن المُثلى بين الدولة والمواطن، بين السلطة والمواطنين، بين الأكثرية والأقلية، بين الأقوياء والمستضعفين ـ الأقباط مثلاً ـ وليس انعكاساً لمبنى قوى موقت. هو نقطة توازن وخط اعتدال بين الشركاء في الوطن وليس نقطة انتصار يسجلها شريك على الآخرين! الدستور هو ذاك الإطار الفلسفي والجهاز الإداري والنظام القانوني والإجرائي الذي يُنظم الاختلافات وينظم التداول على السلطة ويحمي المواطن والأضعف والحريات والحقوق من عسف الأكثريات وإغراء السلطة والاستئثار بها. وهذه كلها مبادئ وأفكار وقيم لا تُعدّ ولا تُحصى. وهي تاريخياً أوسع من الشريعة - أي شريعة دينية - وأوسع من الأيديولوجيا ـ أي أيديولوجيا!
الإصرار الإخواني في مصر على جعل الشريعة أساساً للدستور ومرجعيته يعني النكوص عن إنجازات الثورة وتضحياتها وعن كل ما سُقناه. الدستور وقد أُعدّ على عجل هو تأشير من الرئيس مرسي الى أن شرعيته في نهاية النهار لا تأتي من المواطنين والمُنتخبين وإنما من الشريعة وما تعنيه من موروث مقدّس. وهي فاتحة لإمكانية تقديس السلطة ورموزها ضد المواطنين وحقوقهم أو ضد كل من يُخالف رأيهم ويخرج عن خطهم. بل تكريس الشريعة على هذا النحو الذي يزكّيها حكماً في كل شيء قد يجعل حياة المصريين الخاصة وغُرف نومهم مُباحة لهيئات وفتاوى وتدخلات الدولة أو وكلائها من الشيوخ والأئمة في اللباس والجماع وتسريحة الشعر وتجميل الوجه وما إلى ذلك من أمور في الحيز الخاص أو الشخصي. ونشير إلى أن ثورة مصر بشيبها وشبانها وشاباتها تكرّست من أجل الحريات السياسية والحقوق العامة والكرامات وحيز عام مفتوح للجميع. وها هو الرئيس مرسي يصرّ، على رغم جهد مثير للاحترام من معارضيه، على التأشير للمصريين بأنهم قد يفقدون سريعاً جداً جملة حقوقهم السياسية والفردية أيضاً وأنهم سيكونون تحت وصاية دولة الشريعة وفتاواها.
وقراءة سريعة للفتاوى التي صدرت من شيوخ ـ وليس في مصر وحدها ـ حيال سياسات مرسي والدَسْترة الجارية تدلنا إلى ما يُمكن أن يحصل في مصر مع إقرار الدستور. سيكون في ذلك نكوص عن حركة التاريخ تكريساً للاتاريخية العقل العربي المعتقد أنه قادر على إحياء العظام وهي رميم أو الإجابة عن سؤال الحداثة بحبس العقل السياسي في قمقم الشريعة وإهالة الفتاوى من كل حدب وصوب على حريات الفرد وحقوقه وكرامته!

مرزوق الحلبي
الاثنين 31 ديسمبر 2012