نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


نظرة على النصوص العربية المُحاذية المترجمة الى اللغة اليابانيّة؟






الهدف من هذه الورقة هو استعراض سريع لخلفية ترجمة الأدب العربيّ الحديث إلى اللغة اليابانيّة. كان عنوان الورقة الأصلي، هو: "ترجمة الأدب العربيّ في اليابان: لمحة عامة". كما في ملخّص الورقة. إلا أنني علمت فيما بعد أن الأستاذة كاورو ياماموتو تحدثت عن موضوع مماثل في الدَّورة السَّابقة من هذا المؤتمر، ولذلك غيّرتُ الموضوع قليلًا لتجنب التكرار ليكون العنوان الجديد: "لماذا يترجمون الأدب العربيّ إلى اللغة اليابانيّة؟ نظرة على النصوص المُحاذية للأعمال المترجمة".


 

والمعروف أنَّ النصوص المحاذية (paratexts)، هي مجموعة من النصوص المُصاحبة لنصّ مُعيّن كالعنوانيْن الرَّئيسيّ والفرعي، والغلاف، والرّسوم، والمقدمة، والتَّعقيب، والحواشي، والمحتويات، والفهرس.. إلخ. وهي تلعب دورًا مُهمًّا في توجيه القارئ وتحديد- أي تضييق أو توسيع- إطار تلقي القارئ للنّصّ.

وفي ثقافة الكتاب اليابانيّة شيء اسمه "آتوغاكي" أي التَّعقيب، فالمُعتاد أن يضع المترجم "ياكوشا آتوغاكي" أي تعقيب المترجم في خاتمة الكتاب، ونجد فيه ليس فقط المعلومات عن المؤلف الأصلي وأعماله الأخرى وتحليل العمل المترجم وتفسيره، لكننا نجد كذلك، في كثير من الحالات، الخلفيات التي أدت إلى ترجمة العمل. ومنها معلومات شخصية وخاصة للغاية؛ مثل لقاء المُترجم بالعمل الأدبيّ، وكيف تمّ التعرف عليه في حياته الخاصة، وذكريات شخصية عن العمل وكاتبه، وإن كان قد سبق أن قابله، وتقييمه الشَّخصيّ، وليس الأكاديميّ للعمل.. وغيرها. وكثيرٌ مِن القرّاء اليابانيين يتشوّقون إلى قراءة التَّعقيب وأحيانًا قبل النّص المُترجم، لدرجة أنَّه قد صدر كتاب في عام 2016 بعنوان: "في مديح تعقيب المترجم: كواليس ثقافة التّرجمة"، وهو كتاب يجمع تعقيبات المُترجمين اليابانيين لــ35 كتابًا مترجمًا صدرت منذ عام 1915 حتَّى 2014. ويقول مؤلف هذا الكتاب "من اختار، ماذا، وكيف ترجمه؟ كل هذا مكتوب في تعقيب المترجم"1.

وعلى هذا فإنَّ هذه الورقة تحاول تبيان خصائص واتجاهات المترجمين اليابانيين للأدب العربيّ الحديث من خلال تحليل تعقيباتهم للأعمال التي تمت ترجمتها على أيديهم وتجد إجابةً عن هذا السُّؤال: ما هي الأغراض والدّوافع التي تدفعهم إلى التّرجمة؟

2

قبل الخوض في الموضوع، أرى من الضَّروري أن أقدّم للقارئ صورةً عامةً عن حالة التّرجمة في اليابان. كثيرًا ما يقول اليابانيون إنَّ بلادهم "جنة التّرجمة"2. هذا صحيح بمعنى أنَّ اليابان كانت ولا تزال من أنشط الدُّول في العالم سعيًا لترجمة الكتب الأجنبية. فتُنشر كمية كبيرة من الكتب المُترجمة شهريًّا مِنها العلميّة والعمليّة والأدبيّة والتَّرفيهيّة وغيرها. وهناك حتَّى مَجلات مُتخصصة في التّرجمة غير الأكاديمية- أي غير تلك الدّوريات التي تصدرها الجمعيات العلميّة- مثل مجلة عالم التّرجمة الشَّهريّة (1978 2000)، ومجلة جرنال التّرجمة الفصلية (1992 -).

غير أنَّ هذا لا يعني، طبعًا، أنَّ التّرجمة تتمّ عن لغات العالم بمساواة وتوازن. فمنذ بداية العصر الحديث تُرجمت الكتب في اليابان عن اللغات الأوروبيّة الكبرى بشكل طاغٍ ولا سيّما الإنجليزيّة. ويمكننا أن نرى هذا الخلل في التوازن، بوضوح، في الأرقام التالية لأعداد الكتب المُترجمة إلى اللغة اليابانيّة من عام 1974 حتَّى عام 1978. إذ بلغ عدد الكتب الإنجليزية التي تُرجمت إلى اليابانيّة في هذه الفترة، حسب إحدى الإحصائيات، 7.957 كتابًا، والكتب الفرنسية 1.637 كتابًا، والكتب الألمانية 1.338 كتابًا، والكتب الرُّوسيّة 567 كتابًا، بينما بلغ عدد الكتب العربيّة المترجمة إلى اليابانيّة 12 كتابًا فقط، وهو ما يُشكّل 0.1 بالمائة من مجموع الكتب الأجنبيّة المترجمة إلى اليابانيّة في تلك الفترة، والتي يبلغ عددها 12.523 كتابًا3. أضف إلى ذلك ما تدل عليه إحصائيات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثَّقافة "اليونسكو" الخاصة بأعداد الكتب المترجمة إلى اليابانيّة في فترة ما بين عامي 1979 و2009. فعدد الكتب العربيّة منها 103 فقط من العدد الكلي وهو 129.645 كتابًا، بينما بلغ عدد الكتب الإنجليزية 100.520 وعدد الكتب الفرنسية 9.671 وعدد الكتب الألمانية 8.726 وعدد الكتب الرُّوسيّة 1.817، وعدد الكتب الصَّينيّة 1.8164.

 هذا وهناك سلسلة من الكتب التي بدأت تصدر عن دار نشر تُسمّى "كوبونشا Kōbunsha" في عام 2006 وهي سلسلة تحمل اسم "KotenShinyakuBunko" أو"مكتبة التّرجمة الجديدة للأعمال الكلاسيكية". وقد صدر من هذه السَّلسلة حتَّى سبتمبر 2018، 280 كتابًا منها 94 كتابًا إنجليزيًّا وأمريكيًّا (%34)، و68 كتابًا فرنسيًّا وإيطاليًّا (%24)، و52 كتابًا ألمانيًا (%19)، و39 كتابًا روسيًّا (%14)، و27 كتابًا مترجمًا عن لغات أخرى (%10). والفئة الأخيرة تحتوي على كتب إسبانية وإغريقية ولاتينية وصينية ويابانية قديمة، وليس فيها كتاب واحد مترجم عن لغة شرق أوسطيّة. فيقول منشئ هذه السلسلة إنَّ: "قائمة كتب السلسلة، في النهاية، تكاد تكون كلها من الإنتاج الأدبيّ والفكريّ الأوروبيّ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.. فقد كان للغرب الدّور النَّموذجيّ في التحديث بالنسبة إلى اليابانيين وهو الذي حدّد مسار فكر وثقافة اليابانيين إلى حدٍ كبيرٍ حتَّى الآونة الأخيرة"5.

 هذا من جهة، ومن جهةٍ أُخرى، فإنَّ هناك تحيّزًا واضحًا في الدّراسات اليابانيّة حول الشرق الأوسط؛ إذ إنّ جُزءًا كبيرًا من اهتمامات الباحثين اليابانيين لشؤون الشَّرق الأوسط تنصبّ على الدّراسات التَّاريخيّة بشكلٍ ملحوظ وإن كانت بعض الميادين الأخرى مثل الدّراسات الأنثروبولوجية، والدراسات الإسلاميّة، والعلوم السياسيّة، وغيرها أصبحت تجذب عددًا متزايدًا من الباحثين الشباب في السنوات الأخيرة. هذا في حين أن عدد الباحثين اليابانيين المتخصصين في دراسة الأدب العربيّ وترجمته بقي محدودًا حتَّى الآن ولا يزداد، كما يبدو، بسهولة6. وفي مثل هذه الظّروف تمت، عبر العقود، ترجمة عدد من الأعمال المهمة من الأدب العربيّ الحديث إلى اللغة اليابانيّة على أيدي المترجمين اليابانيين، الأمر الذي يدفعنا إلى طرح سؤالنا الآنف الذكر وهو: "لماذا ترجموها؟" فلننظر الآن فيما يقولونه في تعقيباتهم وغيرها من النصوص المُحاذية لكي نتعرف على "كواليس ترجمتهم".

3

نقطة البداية هي مع كتاب مُختارات مِن الأدب العربيّ المعاصر الذي نُشر في سنة 1974 بإشراف وتحرير الكاتب الياباني اليساري هيروشي نوما (1915-1991)7. كان مجلدًا واحدًا وبسبب ضيق المساحة لم يتضمن روايات إلا قصّةً متوسطة الحجم، وهي عائد إلى حيفا لغسان كنفاني، ولكنه يحتوي على عدد لا بأس به من القصص القصيرة والمسرحيّات وأشعار ومقالات ألفها مختلف الأدباء العرب من مصر، وسوريا، وفلسطين، ودول شمال أفريقيا.

ولكن لماذا أشرف "نوما"، وهو كاتب وليس مستعربًا، على إخراج هذا الكتاب؟ والحكاية أنه عندما زار القاهرة ليحضر مؤتمرًا لجمعية الكُتّاب الإفريقيين والآسيويين مطلع سنة 1974، قدّم اقتراحًا لعقد مؤتمر آخر في اليابان للتضامن الثقافي بين اليابان والدّول العربيّة. وبعد عودته من مصر قرر هو وزملاؤه أن يصدروا كتابًا يجمع مختارات من الأدب العربيّ المعاصر قبل عقد المؤتمر في اليابان في السَّنةِ نفسها. ومِن هنا يأتي تفرّد هذا الكتاب، وهي أنَّ مشروعه قد بدأ بمبادرة من قبل الكُتّاب ثمَّ بطلبهم شارك المستعربون في المشروع. والنتيجة أن جاء الكتاب عملًا مشتركًا بين الكُتّاب والمُترجمين، وقد شارك بعض الشُّعراء -الذين لا يعرفون العربيّة أيضًا- في ترجمة الأشعار العربيّة إلى اللغة اليابانيّة بالتعاون مع المُستعرِبين.

 ونفهم من مقدمة الكتاب الذي وضعها "نوما" أنه كان مُصرًّا على اختيار الأعمال بنفسه بصرف النظر عما يقال في النَّقد الغربيّ، فيقول: "كنت أشك، باستمرار، في موقف الناظر إلى الأدب العربيّ وفق مقاييس الأدب الأوروبي"8. أما الكاتب والناقد ياسوهيرو تاكيوتشي (1930-1997)، الذي كان زميلًا لـ "نوما" في مؤتمر الكُتّاب الإفريقيين والآسيويين وجمعية الأدب الياباني الجديد، فقد أسهم في هذا الكتاب بمقال عنوانه: "حول تقديم الأدب العربيّ المعاصر"، وهو يؤكد أن اليابانيين لا يعرفون شيئًا من الأدب العربيّ ويستغرب كيف يمكن أن يفهموا مجتمعًا أو شعبًا ما بدون فهم أدبه الذي هو عنصر مهم في ثقافته9. والجدير بالذكر أن تاكيوتشي يعقد مقارنةً بين ترجمة الآداب الأوروبيّة التي لها تاريخ طويل في اليابان وقد وُلد من بين ممارسيها عدد كبير من الكتّاب والنقاد الكبار الذين صنعوا الأدب الياباني الحديث من جهة، وبين ترجمة الأدب العربيّ التي ليس لها تاريخ يذكر. ويزعم أن الأخيرة يجب أن تقفز قفزًا وتتجاوز هذه الهوة الفاصلة بينهما حتَّى يولد من بين ممارسيها أدباء يكتبون عن الأدب العربيّ، ويقومون بنقده أو يبدعون بأنفسهم. وعندما يتم ذلك فقط، على حدّ قوله، يمكننا أن نقول إن التبادل بين الأدب العربيّ والأدب الياباني قد تمّ بشكل حقيقي10.

وفي سياق جو التعاون هذا بين الأدباء والمُستعربين، صدرت سلسلة "الروايات والقصص العربيّة المعاصرة" من عام 1978 حتَّى عام 1980 في عشرة أجزاء. ومن بين الأعمال المترجمة في هذه السلسلة: شجرة البؤس لطه حسين، وعصفور من الشرق لتوفيق الحكيم، وبين القصريْن لنجيب محفوظ، والأرض لعبد الرحمن الشرقاوي، وموسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين للطيب صالح، وعودة الطائر إلى البحر لحليم بركات، ورجال في الشمس وعائد إلى حيفا لغسان كنفاني، بالإضافة إلى بعض الأعمال الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسيّة.

وتمتاز هذه السلسلة بأنَّ كل جزء منها له تعقيبان: أحدهما للمترجم، والثاني لكاتب يميل إلى التضامن مع دول العالم الثالث مثل "نوما". ففي جزء كنفاني، على سبيل المثال، يكتب المترجم "نوبواكي نوتاهارا" تقديم العمل ويليه مقالٌ للكاتب الياباني الشهير "كينزابورو أوئه" (1935)، الذي حصل فيما بعد على جائزة نوبل للآداب (1994). وهكذا في كل جزء من السلسلة، يجد القارئ قراءتين مختلفتين تسبقان قراءته هو ويستطيع أن يستفيد منهما في تعميق فهمه للعمل المترجم.

ومن بين الكُتَّاب الذين كتبوا هذه المقالات المُلحقة بالأعمال المترجمة كوريان مقيمان في اليابان يكتبان باليابانيّة. ومن اللافت للنظر أنهما يَقرَآن الأعمال العربيّة من وجهة نظر المُستعمَر ويعرضان قراءتيهما على القرّاء الذين أغلبيتهم يابانيون. فالكاتب "كيم سوك بوم" (1925-) يتحدَّث عن حالة الازدواجية اللغوية التي يعيشها هو والكاتب الجزائري مولود معمري (1917-1989) فكلاهما يكتب بلغة المُستعمِر. أما الكاتب "كو ساميون" (1932-) فيشير إلى البعد الذي يفصل بينه وبين العالم العربيّ فهو كوري شمالي مقيم في اليابان ولا حرية له للخروج منها.

والكُتَّاب والمترجمون اليابانيون بدورهم يقرؤون الأعمال العربيّة من وجهة نظر اليابانيين، فمترجم "عصفور من الشرق""هوريوتشي"، مثلًا، يُقارن بين البلاد العربيّة واليابان في تحديث المجتمع، بينما يقارن الكاتب الياباني "مومو إيدا" بين تجربة بعض الأدباء اليابانيين وتجربة توفيق الحكيم في الحضارة الغربية. وقد كتب الكاتب "تاكيوتشي" مقالًا عن رواية الأرض وهو يقول إن الأحداث التي تجري في القرى المصرية لا تخلو من صلة ما باليابان في العصرين الحديث والمعاصر ويتمنى أن تكون الأعمال العربيّة المترجمة، مع الآداب الأخرى من العالم الثالث، مصدرًا للإبداع والنقد الذاتي للأدب الياباني11. ونستطيع أن نرى في أقوالهم هذه أنهم كانوا يعتبرون قضايا الأدب العربيّ الحديث قضايا ذواتهم ويسعون إلى اكتشاف نقاط مشتركة بينهم وبين الكُتَّاب العرب.

 صحيح أنَّ في خلفية موقفهم هذا وجدان التضامن القوي مع العالم الثالث الذي تميّزوا به في تلك الفترة من الزمن. ولكن الموقف نفسه ظل موجودًا حتَّى العقود التالية. فـ"ميتسوؤو غوتو" (1921-)، الذي أصدر ترجمة المستعرب الياباني الراحل "سيجي تاكاي" (1948-1991) لـعمل طه حسين في الشعر الجاهلي، يعقد مقارنةً بين ما وقع فيه طه حسين من مشكلة وما وقع فيه بعض أصحاب القلم اليابانيين من مشاكل في أيام اليابان الإمبراطورية12. وبالإضافة إلى ذلك، فإن "آساكو تاكيدا" (1963-)، وهي مترجمة السيرة الذاتية رحلة جبلية رحلة صعبة لفدوى طوقان، تتحدث في تعقيبها عن النقاط المشتركة بين المرأة اليابانيّة والمرأة الفلسطينية وليس عن البعد الفاصل بين الاثنتين13.

ويتشارك كثير من المترجمين في الشُّعور بأنَّ اليابانيين لا يعرفون العالم العربيّ ولا يفهمونه، أو أنهم لا يهتمون بثقافة العالم العربيّ بشكل كافٍ، ويذكرون ذلك في النصوص المحاذية وهم يأملون أن تساهم ترجمتهم في حل هذه المشكلة ولو بقدر متواضع. فإنَّ الدّبلوماسيّ السَّابق "هيديجي تامورا" (1904-1988) يذكر عن دوافع ترجمته الأيام لطه حسين الآتي: "قد تعلمت العربيّة وأصبحت صديقًا للعرب حميمًا، أتصارح معهم بلا تحفظ، وعملت على تعزيز الصداقة والعلاقات الاقتصادية -بين اليابان والبلاد العربيّة- ولكني كنت مُقصّرًا في النشاط الثقافي وكان تلافي ذلك الخلل هو الغرض الرئيسي من وضع هذه التّرجمة، إضافةً إلى اعتقادي بأن كفاح الدكتور طه حسين سيكون تشجيعًا قويًّا للعديد من المعاقين والبؤساء في بلادنا"14. أما "ماكوتو ميزوتاني" (1948-)، وهو دبلوماسي سابق أيضًا، ومترجم حياتي لأحمد أمين، فيعرب عن خوفه من سوء فهم بعض اليابانيين للتجربة العربيّة في العصر الحديث، ويقول إنه أراد أن يعرّف الشعب الياباني بوجود شخصيات عربية نموذجية محترمة، مثل أحمد أمين، تجمع بين الاجتهاد والجدية والتواضع والإخلاص، يرضى عنها وجدان الشعب الياباني.

 وأهم من ترجم الأدب العربيّ الحديث إلى اللغة اليابانيّة، هو "نوبوآكي نوتاهارا" (1940). فقد ترجم لغسان كنفاني، ويوسف إدريس، وحليم بركات، وعبد الرحمن الشرقاوي، ومحمد شكري، وإبراهيم الكوني، وغيرهم. كان يُدرّس اللغة العربيّة في جامعة طوكيو للدراسات الأجنبية لفترة طويلة وقد تخرّج على يده كثير من المُترجمين والباحثين في الأدب العربيّ الحديث. وهو معروف في البلاد العربيّة أيضًا كمؤلف كتاب العرب: وجهة نظر يابانية الصادر في عام 2003.

 فلا حاجة إلى تعريفه بالتفصيل. بل نكتفي هنا بالإشارة إلى نقاط تعتبر مهمةً فقط: أولًا، في حدّ علمي، هو المستعرب اليابانيّ الوحيد الذي يستحق اسم المترجم، فصفة المترجم صفة ثابتة بالنسبة إليه بينما هي صفة مؤقتة بالنسبة إلى غيره. وثانيًا، يترجم نوتاهارا بدوافع داخلية وشخصية جدًّا وإلا فالتّرجمة ليس لها معنى بالنسبة إليه. يقول "نوتاهارا" عن ترجمته في كتاب العرب: وجهة نظر يابانية:

 "قبل كل شيء حاولت أن أكون أحد قرّاء الأدب العربيّ المُعاصر. وفي هذا السبيل قابلت الكثير من الكُتَّاب ومن الإنتاج الأدبيّ وإرادتي هذه -أن أكون قارئًا للأدب العربيّ المعاصر- أريد لها أن تستمر في المستقبل .. بعد متعة القراءة تأتي التّرجمة. وفي هذه الحالة اخترت الإنتاج وفق اهتمامي الشخصي بالدرجة الأولى قبل الاهتمام بالجمهور الياباني، ولذلك اخترت وفق إرادتي وهذا يعني أن مجموعة الروايات والقصص القصيرة التي ترجمتها لا تعطي صورةً متكاملةً عن الأدب العربيّ الحديث .. وأعترف بصراحة كاملة إنني كنت أفكر بالتجربة من أجل نفسي أولًا قبل أن أفكر في مهمة نقل تجربتي إلى الآخرين"15.

ويبدو لي أنّه يتلقى الأعمال الأدبيّة بكل شخصيته وكيانه كهدايا من الكُتّاب، ثمَّ يترجمها إلى اللغة اليابانيّة كردّ الجميل لهم. إذ يتحدث المترجم عن غسان كنفاني في تعقيبه لرواية ستة أيام لحليم بركات ويقول: "لقد رددتُ الصَّدمة التي تلقيتها من أعمال كنفاني بشكل التّرجمة لها"16. ثمَّ يقول في تعقيبه لترجمة الخبز الحافي لمحمّد شكري: "أشعر الآن بالارتياح والطمأنينة وقد سدّدتُ الدين الذي كان عليّ لشكري لمدة طويلة"17.

 وفي التَّعقيبات التي كتبها "نوتاهارا" نجده يذكر علاقاته الشَّخصيّة بالعمل المترجم وكاتبه بعناية كبيرة ثمّ يعلّق على العمل من وجهة نظره وقيمه الشَّخصيّة، ولا تعنيه كثيرًا، على ما يبدو، المعلومات التاريخية والنقدية عن العمل. فالتّرجمة عنده ليست عمليةً موضوعيةً مستقلةً عن شخصيته بل عملية شخصية جدًّا كوّنت جزءًا كبيرًا من شخصيته هو، كما يذكر في مقاله المنشور في كتاب بعنوان "مائة عام من التّرجمة": "أنا عازم على تحمل كل مسؤوليتي عن آثار التّرجمة التي أتركها، وأعتز وأقول بفخر: انظروا إلى آثار ترجمتي إذا كنتم ترغبون في معرفتي"18.

 يتميز "نوتاهارا" بمثل هذا الموقف بتفرد بين المترجمين اليابانيين ولكن يبدو في الوقت نفسه أن كثيرًا من تلاميذه وأصدقائه يتوارثون هذه الصفة إلى حدّ كبير. فالمترجم الراحل "آكيهيرو تاكانو" (1951-2004)، الذي ترجم لنجيب محفوظ، ومحمد مُستجاب، ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم، كان بدوره يؤكد دائمًا أن اختيار العمل للترجمة اختيار شخصي ويتم بذوقه هو ولا يمت بأي صلة إلى ما يقوله النُّقَّاد19. و"كاورو ياماموتو" (1968-)، مترجمة رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل لـ إميل حبيبي، تشاركهم قوة الارتباط الشخصي هذه نفسها، بالعمل المترجم فتقول في تعقيبها للترجمة إنها، منذ لقائها بالرواية في بداية دراستها للُّغة العربيّة قد سارت على طريق دراسة الأدب العربيّ وكأن جاذبية هذا العمل مرشدها .. وإنها كانت تتساءل دائمًا: "هل وصلت إلى المستوى المطلوب لترجمة إميل حبيبي"20؟ وينضم الدُّبلوماسي السَّابق " نوبوآكي نوتاهارا " (1931-2016) كذلك إلى صفوفهم بالرغم من أنه ليس من مدرسة "نوتاهارا" بل كان أكبر منه سنًّا. ولكنه هو أيضًا ترجم عددًا من أعمال نجيب محفوظ، ومنها الثلاثية القاهرية الشهيرة، إلى اللغة اليابانيّة بحماس وجهود شخصية وفردية بحتة لأنه كان يحب هذا الكاتب حبًّا عظيمًا منذ بدأ دراسة اللغة العربيّة في القاهرة كدبلوماسي مستعرب. وخير دليل على ذلك أنه قد نشر كتابين، أحدهما ترجمة اللِّصُّ والكلاب، والآخر ترجمة قصص قصيرة لمحفوظ، على نفقته الخاصة.

4

والآن، وبعد أن ألقينا نظرةً سريعةً على تعقيبات المترجمين اليابانيين وغيرها من النصوص المحاذية للأعمال الأدبية العربيّة المترجمة، يمكننا القول بأن ترجمة الأدب العربيّ الحديث في اليابان، إذا استثنينا حالات سابقةً قليلةً ومتفرقةً، بدأت بشكل جماعي في السبعينيات من القرن الماضي مبادرة بعض الأدباء اليابانيين (اليساريين) المتحمسين إلى التضامن مع أدباء العالم الثالث وقضاياهم. غير أن هذه الحركة الجماعية للترجمة خمدت بسرعة في أوائل الثمانينيات، وتبع ذلك عصر الحماس الشخصي والجهود الفردية.

والواقع أنَّ المترجمين، منذ ذلك الوقت، يواجهون صعوبات كبيرةً في العثور على دار نشر تنشر أعمالهم المترجمة، ولكن في المقابل كانت النتيجة لم تخل من جانب إيجابي. وهو أن الأعمال المترجمة كلها، مبدئيًّا، باختيار المترجمين أنفسهم. فهم يختارون ما يحلو لهم ويعجبهم حقًا، بعيدًا عن طلب الآخر، والحوافز الدَّاخلية والرَّغبة الحقيقية تحركهم وتدفعهم للإقدام على ترجمته. والتّرجمة التي تتم بمثل هذا الأسلوب لا بدّ أن تكون مؤثّرةً بشكل من الأشكال وإن لم تسلم بالضرورة من عيوب وأخطاء تقنية21.

كما أن في نية المترجمين أن يعرّفوا الشَّعب اليابانيّ على أعمال أدبية عربيّة جيدة يؤمنون هم أنفسهم بقيمتها الأدبية. وغني عن القول إن مُعظمهم يؤكدون على أهمية التّرجمة كوسيلة نستطيع أن نتعرف بها على العالم العربيّ من الداخل لا من الخارج، وفي الوقت ذاته يؤكدون أهمية ألا ننسى وجهة النظر الخاصة بنا استقلالًا عن الآخر.

 وفي ختام هذه الورقة أود أن أشير إلى شيء أظنه مهمًّا لمستقبل ترجمة الأدب العربيّ الحديث في اليابان. وهو أن الجهود الفردية والحماس الشَّخصيّ والذَّوق الخاص كلها، بلا شك، مهمة ومحترمة في حدّ ذاتها. إلا أننا يجب ألا نتوقف عند هذا الحدّ لو فكرنا في مستقبل التّرجمة جديًّا. خاصةً وأن الظَّروف التي تحيط بترجمة الأدب العربيّ في اليابان، كما ذكرت في بداية هذه الورقة، لم تتطور بشكل ملحوظ منذ زمن بعيد. ولم يزدد عدد القادرين على قراءة الأدب العربيّ وترجمته إلى اللغة اليابانيّة ازديادًا كبيرًا.

 ولكن هناك بعض بوارق الأمل مثل نشأة حركة جماعية جديدة في مجال التّرجمة في العقد الماضي وهي "الحلقة البحثية لآداب الشَّرق الأوسط المعاصرة" التي أسستها الأستاذة "ماري أوكا" (1960-) بجامعة كيوتو عام 2008، لكي تكون مُلتقى لباحثي آداب الشرق الأوسط في اليابان. وينضوي تحت رايتها بالفعل نحو ثلاثين باحثًا تمتد اختصاصاتهم لتشمل الأدب العربيّ، والأدب التركي، والأدب الفارسي، والأدب الكردي، وأدب المهاجر .. إلخ. وتسعى هذه الحلقة، بجانب البحوث الأكاديمية، إلى تعريف الجمهور الياباني القارئ بآداب الشرق الأوسط الحديثة من خلال التّرجمة وإقامة الندوات المفتوحة المتنوعة.

من المهم أن نتابع مثل هذه النشاطات ونطوّرها بشكل مطرد لتكون لدينا قطعة أرض ليضرب الأدب العربيّ (والشرق أوسطي) جذوره فيها مستقبلًا. ولأجل ذلك، فمن الضروري أن نبحث عن أعمال جيدة أكثر فأكثر ونقوم بترجمتها ترجمةً سليمةً وسلسةً -وفي هذا سوف نستفيد حتمًا من تجارب المترجمين السابقين- وملائمة ليس فقط لذوق المترجمين بل لذوق الجمهور القارئ في اليابان. أي أننا لا بدّ أن نسعى إلى النجاح التجاري، والنجاح الثقافي في آن.

 تقول كاتبة المقالات "كريمة موروكا" (1970-) في مقال قصير كتبته بمناسبة صدور التّرجمة اليابانيّة لثلاثية نجيب محفوظ: "بصورة عامة، فإن ترجمة الأدب العربيّ إلى اللغة اليابانيّة محدودة حتَّى الآن. والمترجم الذي يختار العمل والقارئ الذي يتصفحه، كلاهما يقرأ الأدب العربيّ كوسيلة لفهم عالم غريب مختلف عن اليابان وهو العالم العربيّ، أكثر منها كوسيلة للمتعة الخالصة المحضة"22. وهي تأمل أن يتحوّل الأدب العربيّ في اليابان من وسيلة الفهم إلى وسيلة المُتعة. وأعتقد أن هذه الإشارة مهمة للغاية لأن القراءة متعة أصلًا والقراءة بلا متعة، بكل بساطة، لا يقدّر لها البقاء.


الهوامش

1 Keisuke Fujioka ed., Honyakusha Atogaki San: Honyaku Bunka no Butaiura, Tokyo: Michitani, 2016, p. 1.

2 . يصادفنا هذا التعبير كثيرًا فنكتفي هنا بالإشارة إلى مثال واحد فقط وهو:

 Shunsuke Kamei, „Nihon no Kindai to Honyaku,“ Shunsuke Kamei ed., Kindai Nihon no Honyaku Bunka, Tokyo: Chūōkōron-sha, 1994, pp. 7-50: 8.

3 . Kaigai Kōhō Kyōkai ed., Waga Kuni Kaigai Kōhō Katsudō no Sōgō Senryaku Kenkyū, Tokyo: Kaigai Kōhō Kyōkai, 1986, p. 27.

4 . UNESCO, Index Translationum (accessed December 8, 2018).

5 Minoru Komai, Ima Iki WO Shiteiru Kotoba de, Tokyo: Jiritsu Shobō, 2018, p. 284.

6 إذا ألقينا نظرةً على توزيع مجالات التخصص بين أعضاء الجمعية اليابانية للدراسات الشرق أوسطية في أبريل 2005، فنجد أن عدد الأعضاء الإجمالي هو 572 ويصل عدد المتخصصين في التاريخ منهم إلى 203 (% 35.5)، بينما عدد الباحثين في الأدب هو 24 فقط (% 4.2)، مع العلم بأن عدد المتخصصين في الأدب العربي منهم نحو 10. المصدر:

Nihon Chūtō Gakkai (Japan Association for Middle East Studies), Nihon Chūtō Gakkai 20-nen no Ayumi 1985-2005 (accessed December 8, 2018)

Hiroshi Noma ed., Gendai Arabu Bungaku-sen, Tokyo: Sōju-sha, 1974.

8 ibid., p. 7.

9 ibid., p. 424.

10 ibid., p. 426.

11 Sharukāwī, Daichi, tr. Nobuaki Nutahara, Tokyo: Kawade Shobō Shinsha, 1979, p. 450.

12 Tāhā Husain, Isuramu Reimeiki no Shi ni Tsuite, tr. Seiji Takai, Tokyo: Gotō Shobō, 1993, pp. 225-6.

13 Faduwa Tukān, Watashi no Tabi: Paresuchina no Rekishi, tr. Asako Takeda, Shin Hyōron, 1996, p. 296.

14 Tāhā Husain, Waga Ejiputo: Kōran tono Hibi, tr. Hideji Tamura, Tokyo: Saimaru Shuppan-kai, 1976, pp. 3-4.

15 نوبوأكي نوتوهارا (كذا)، "العرب: وجهة نظر يابانية"، كولونيا: منشورات الجمل، 2003، ص. 137.

16 Harīmu Barakāto, Muika-kan, tr. Nobuaki Nutahara, Tokyo: Daisan Shokan, 1980, p. 248.

17 Muhammado Shokurī, Hadashi no Pan, tr. Nobuaki Nutahara, Griot, No. 5, 1993, p. 137.

18 Takuya Hara and Yoshinari Nishinaga eds., Honyaku Hyakunen: Gaikoku Bungaku to Nihon no Kindai, Tokyo: Taishūkan Shoten, 2000, p. 286.

19انظر مثلاً المصدر التالي:

Yahayā Tāhiru Abdollā et al., Kuro Majutsu: Kami Ejiputo Shōsetsu Shū, tr. Akihiro Takano, Tokyo: Daisan Shokan, 1994, p. 259.

20 Emīru Habībī, Hirakkan-ya Saīdo no Shissō ni Matsuwaru Kimyō na Dekigoto, tr. Kaoru Yamamoto, Tokyo: Sakuhin-sha, 2006, p. 231.

21 يقول المترجم نوتاهارا: "ماذا نترجم ولماذا؟ لماذا نختار هذا العمل دون بقية الأعمال؟ الترجمة لا تكتسب قوةً إلا إذا تبينتْ هذه العلاقة التي تربط بين المترجم والعمل". انظر:

Hara and Nishinaga eds., Honyaku Hyakunen, p. 286.

22 Karīma Morooka Eru-Samunī (Al-Samnī), “ Kairo Sanbu-saku no Mei-bamen " in a leaflet attached to the 3rd vol. of the Trilogy (Nagību Mahufūzu, Yoake, tr. Haruo Hanawa, Tokyo: Kokusho Kankō-kai, 2012), p. 4
--------------------------------

منتدى العلاقات العربية والدولية


يوشياكي فوكودا
السبت 28 ماي 2022