نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

في كذبة الوطنية السورية

21/07/2025 - غازي دحمان

خديعة الرحمة

03/07/2025 - هناء محمد درويش

التريمسة...حين يلتقي العائد بظلّه

24/06/2025 - عبير داغر إسبر


نحو وعي وطني ..بناء الهوية السورية بين الجذور والتجديد





مقدمة:تُعرّف الهوية السياسية، في الأدبيات السوسيولوجية المعاصرة، بأنها الشكل الذي تُعبّر به الجماعة السياسية عن ذاتها داخل النسق العام؛ بما يشمل تصورها للسلطة، وشرعية التمثيل، وحدود الفعل السياسي الممكن.وهي ليست بنية جاهزة، بل عملية تكوّن اجتماعي – تاريخي تتأثر بالتحولات البنيوية والمؤسساتية والخطابية


 .

وفي الحالة السورية، تُعد الهوية السياسية مجالًا مشتبكًا بين التمثل الرسمي، والانتماء الأهلي، والانكفاء الشعبي، ضمن منظومة توصف بأنها "ما بعد–سياسية" بحكم انسداد التمثيل وانحسار المجال العام لعقود.
فقد عمل النظام السوري البائد، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي، على هندسة هوية سياسية قسرية للمواطن، ترتكز على الانضواء ضمن جبهة حزبية مركزية، والخضوع لخطاب سلطوي موحد، والمشاركة الشكلية في تمثيلات برلمانية صورية.
وتميزت هذه الهوية بكونها "مفروضة فوق–سياسيًا"، لا تنشأ عن عقد اجتماعي، بل عن علاقة هيمنة أفقية تلغي الذات السياسية للمواطن، وتستعيض عنها بانتماء وظيفي للحزب أو الجيش أو الجهاز البيروقراطي.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وما تبعها من تفكك في مركزية الدولة، بدأت تظهر محاولات جديدة لإعادة تعريف الهوية السياسية خارج الإطار السلطوي، عبر المجالس المحلية، وشبكات المعارضة، والمجتمع المدني.
إلا أن هذه المحاولات بقيت محدودة الترسيم، بفعل التنافس على الشرعية، وضعف البناء المؤسساتي، وانقسام الجغرافيا إلى مناطق نفوذ متصارعة.
أما اليوم، ومع بدء التحرير التدريجي لأجزاء واسعة من الأرض السورية (بقيت مناطق قسد والسويداء)، تبرز لحظة تأسيسية نادرة لطرح سؤال الهوية السياسية على أسس تعاقدية وتمثيلية، لا قسرية وولائية.
وهي لحظة تتطلب إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الفرد والمؤسسات، في إطار يؤسس للسيادة الشعبية بوصفها الحاضن الحقيقي لأي هوية وطنية جامعة.
في هذا السياق، تهدف هذه الورقة إلى تحليل تحولات الهوية السياسية السورية بين الانتماء القسري والتمثيل الحر، واستكشاف إمكانات تأسيسها من جديد في ظل التغيرات الميدانية، والمسارات الدستورية المرتقبة، والتفاعلات المجتمعية المحلية التي تعيد إنتاج الذات السورية بوصفها فاعلًا سياسيًا مستقلًا، لا ملحقًا سلطويًا.

في مفهوم الهوية السياسية – من التمثل السلطوي إلى المواطنة التعاقدية:


تُشكل الهوية السياسية إحدى تجليات السلطة الرمزية في المجتمع، فهي ليست فقط طريقة تعريف المواطن لذاته داخل البنية السياسية، بل أيضًا شكل من أشكال التوزيع المعنوي للسلطة، والاعتراف، والانتماء.
وقد أسهمت التحولات التاريخية والفكرية في إعادة صياغة هذا المفهوم، من التمثيل الجماعي المرتبط بالعشيرة أو الطائفة، إلى مفهوم المواطنة القائم على العقد السياسي.
وفي الأدبيات الكلاسيكية، تناولت المدرسةُ الجمهورية الهويةَ السياسية بوصفها نتاجًا للمشاركة الفعلية في الحياة العامة، كما عند "روسو" و"أرندت"، حيث تصبح الذات السياسية مرادفًا للحرية والممارسة الجماعية داخل المجال المشترك.
أما المدرسة الليبرالية، فقد ربطت الهوية السياسية بالحقوق الفردية والمشاركة المؤسسية، مشددة على علاقة المواطن بالدولة كفاعل حقوقي أكثر من كونه مشاركًا مباشرًا.
وفي السياقات ما بعد الاستعمار، كما في العالم العربي، ظهرت نماذج من "التسييس القسري"، كما وصفها "محمد عابد الجابري"، حيث يجري اختزال المواطن في علاقته بالسلطة عبر الانتماء الإيديولوجي أو العرقي أو الحزبي، لا عبر الانخراط العقدي أو التمثيل التعددي.
ضمن هذا الإطار، تميزت سورية، منذ وصول حزب البعث إلى السلطة، بنمط من "الهوية السياسية المؤممة"، حيث لم يعد المواطن كائنًا سياسيًا مستقلًا، بل جزءً من بناء هرمي يتوسطه الحزب ويُهيمن عليه الخطاب القومي المركزي.
وقد أدى ذلك إلى إفراغ المجال العام من الديناميات السياسية الطبيعية، واستبدالها بهويات وظيفية تقاس بمدى الولاء للمركز لا القدرة على التعبير.

تظهر خطورة هذا النموذج في تغييب ثلاثة مرتكزات أساسية للهوية السياسية:

  1. غياب التعدد التمثيلي، إذ جرى حصر المجال السياسي ضمن جبهة وطنية تقدمية، دون إمكانية المنافسة أو التنوع الحزبي الفعلي.
  2. نفي الإرادة السياسية الفردية، فالمواطنة لم تكن بوصفها حقًا تمثيليًا، بل موقعًا وظيفيًا داخل منظومة الولاء.
  3. اندماج الهوية الوطنية بالهوية السلطوية، حيث أصبح التعبير عن الانتماء الوطني مشروطًا بالدفاع عن السلطة، لا عن الدولة كمؤسسة جامعة.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وخصوصًا في سياقات الحراك المدني والمجالس المحلية، بدأ التأسيس لهوية سياسية جديدة، تقوم على التمثيل لا الامتثال، وعلى الانتماء المجتمعي لا الولاء الإيديولوجي.
إلا أن هذه الهوية بقيت هشّة، مفتتة بين الفصائل، ومرتبطة أكثر بالسياقات الأمنية والجغرافية، دون قدرة حقيقية على بلورة مشروع سياسي جامع.
ومع تحرير أجزاء واسعة من البلاد بسقوط الأسد، تطرح اللحظة السياسية الراهنة إمكانية العودة إلى مفهوم "المواطنة التعاقدية"، حيث يتم تشكيل الهوية السياسية السورية عبر اعتراف دستوري بالتعدد، وعبر بناء مؤسسات تسمح للفرد بالتعبير، والتمثيل، والمشاركة ضمن فضاء سياسي مشترك، وليس عبر امتثال سلطوي.
إن إعادة تعريف الهوية السياسية في سورية لا تعني فقط تفكيك الأطر القديمة، بل تأسيس سردية جديدة للعلاقة بين الفرد والدولة، بين المكوّن والمركز، وبين السيادة والشرعية.
وهي عملية لا تنفصل عن البناء الدستوري، وإعادة تشكيل المؤسسات، وبناء المجال العام كحاضنة فعل سياسي مدني.

تفكيك الهوية السياسية للدولة السورية قبل الثورة (من هندسة الولاء إلى نفي التعدد):


تشكل الهوية السياسية للدولة انعكاسًا لطبيعة العقد الذي يُراد بناؤه بين المواطن والمؤسسات؛ فهي تحدد كيف تنظر الدولة إلى ذاتها، وما تطلبه من الأفراد في إطار الشرعية والانتماء.
وفي الحالة السورية، منذ استلام حزب البعث للسلطة عام 1963، ثم ترسيخ حكم حافظ الأسد بدءً من عام 1970، تشكّلت هوية سياسية للدولة تقوم على الإخضاع الرمزي والسياسي، عبر خمس أدوات محورية: الاحتكار الحزبي، العسكرة، تأميم الوطنية، إغلاق المجال العام، وملاحقة الهويات المنافسة.

أولًا: المادة الثامنة من دستور 1973 – قوننة الاحتكار الحزبي:


مثّلت المادة الثامنة من دستور 1973 حجر الأساس في بناء هوية سياسية أحادية، حيث تنص على أن "حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب".
بهذا النص، الذي بقي ساريًا لأربعة عقود، تم إلغاء أي إمكانية للمنافسة السياسية، وتحول التمثيل إلى مجرد امتثال ضمن هيكل حزبي هرمي، أُعيد إنتاجه داخل المؤسسات والبرلمان والنقابات.
وقد وصفت منظمة Human Rights Watch هذا النظام بأنه "حكم حزبي شمولي لا يسمح بالتعددية ولا بالتداول، حيث تُختصر الهوية السياسية للمواطن في ولائه للبعث".


ثانيًا: الجبهة الوطنية التقدمية – التعدد الزائف والانصهار الإيديولوجي:

أنشئت الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972 لتضم الأحزاب المُرخّصة، لكنها كانت واجهة شكلية تخضع لسلطة البعث، كما ورد في ميثاقها: "الحزب يشكّل الأكثرية في مؤسسات الجبهة، ويقوم بتوجيه سياستها العامة".
ولم يُسمح لأي حزب في الجبهة أن يمارس نشاطا داخل الجيش أو الجامعات أو خارج الإطار المنضبط.
حتى التيارات الشيوعية أُجبرت على الانقسام إلى جناحين (بكداش وفيصل) تحت مظلة الجبهة، مقابل تجميد نشاطها المستقل.

ثالثًا: مجزرة حماة 1982 – إعادة رسم حدود الهوية السياسية بالقوة:

في شباط/فبراير 1982، ارتكب نظام حافظ الأسد مجزرة غير مسبوقة في مدينة حماة، بعد تمرد قادته جماعة الإخوان المسلمين، وبحسب تقديرات روبرت فيسك وتوماس فريدمان، استشهد ما لا يقل عن 20 ألف مدني، ودُمرت أجزاء واسعة من المدينة.
كانت هذه المجزرة بمثابة إعلان أن الانتماء السياسي الخارج عن السلطة ليس فقط غير مسموح، بل يُقابل بالإبادة.
لقد أصبحت حماة رمزًا لتأميم الهوية بالقوة، وللحد الذي يمكن للنظام أن يذهب إليه في نفي التعدد.

رابعًا: العسكرة الرمزية للمواطنة – إعادة تعريف الانتماء عبر الجيش:

مع تصاعد دور الجيش في الحياة السياسية، وتحوّله إلى ذراع إداري–أمني، بدأت الدولة في إعادة تعريف المواطنة بوصفها انتماءً عسكريًا رمزيًا.
المواطن النموذجي في الخطاب الرسمي هو من يخدم في الجيش، يلتزم بشعار "الأسد قائدنا"، ويؤمن بأن الأمن يسبق السياسة.
وقد أصبحت هذه الظاهرة تحت عنوان "العسكرة الرمزية"، كمكون من مكونات هندسة الهوية الوطنية وفق النموذج السلطوي.

خامسًا: قانون الطوارئ والأجهزة الأمنية – إغلاق المجال العام:

منذ إعلان حالة الطوارئ في عام 1963، تحوّلت الهوية السياسية إلى علاقة بين المواطن وجهاز المخابرات، لا بينه وبين الدولة كمؤسسة مدنية.
تمّت ملاحقة المعارضين، تجميد النقابات المستقلة، واستبدال المجال العام بمنظومات رقابة.
ويُذكر أن بداية نشوء هذه العلاقة قد بدأت مع تأسيس "الشعبة الثانية" (المخابرات العسكرية) بقيادة عبد الحميد السراج، لتكون مركز ضبط المجتمع، وأداة لبناء هوية سياسية خالية من التعدد، مشبعة بالخوف والانكفاء.

سادسًا: اختزال الوطنية في السلطة – المواطن كامتداد للنظام:

في الكتب المدرسية، والخطابات الرسمية، والإعلام الحكومي، تم الدمج بين الوطن والنظام السياسي:
من يعارض السلطة هو خائن، ولو خدم المجتمع.
أصبحت الوطنية تُقاس على أساس الولاء لـ "القائد"، لا على أساس العمل العام أو المصلحة الوطنية.
ليُصبح هذا النموذج "الهوية السلطوية الزائفة"، حيث يُفرغ الانتماء من مضمونه العقدي، ويُعاد تحميله بالدفاع عن الشرعية المفروضة.

الهويات السياسية خلال الثورة والنزاع السوري (2011–2012): من انفجار المجال العام إلى أزمة التمثيل:


عند انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011، شهدت البلاد لحظة مفصلية أعادت فتح المجال العام بعد خمسة عقود من التقييد، وكشفت عن رغبة مجتمعية جارفة في إعادة تعريف الهوية السياسية للمواطن خارج إطار الولاء الحزبي أو التبعيات السلطوية.
فقد بدأ الحراك من مدينة درعا، إثر اعتقال وتعذيب أطفال كتبوا شعارات مناهضة للنظام، ما شكّل شرارة الاحتجاجات التي اتسعت إلى معظم المحافظات.
في تلك الأسابيع الأولى، رُفعت شعارات مثل "الشعب السوري ما بينذل" و"الله، سورية، حرية وبس". وخلال جمعة الكرامة (18 آذار)، قُتل أول شهداء الثورة على يد قوات الأمن في درعا، بينهم حسام عياش ومحمود جوابرة.
وامتدت الهبّة الشعبية في جمعة العزة (25 آذار) لتشمل دمشق، حمص، حماة، بانياس، واللاذقية، حيث قام متظاهرون بإسقاط تمثال حافظ الأسد في درعا، في لحظة رمزية شكّلت بداية الانفصال الرمزي عن هوية الدولة السلطوية.
وقد برزت خلال الأشهر الأولى مئات التنسيقيات والمجالس المحلية، لا سيما في ريف دمشق، ودرعا، وحمص، وإدلب، وقدمت نموذجًا تمثيليًا غير مأدلج، قائمًا على الخدمة والشرعية المجتمعية.
وحسب تقرير معهد كارنيغي فقد وصف هذه المجالس بأنها "نواة لهوية سياسية مدنية، تستند إلى الفعل المحلي، لا الانتماء الإيديولوجي أو الولاء الفصائلي".
ومع ذلك، واجهت تلك الهويات صعوبات كبيرة، أبرزها غياب الإطار القانوني، التفتت الجغرافي، وانعدام الدعم المؤسسي.
ومع بدء العسكرة وانبثاق الهويات المسلحة نرى أنه في ظل القمع الممنهج، بدأ أفراد من الجيش السوري بالانشقاق، وكان أبرزهم المقدم حسين هرموش الذي أسّس حركة "الضباط الأحرار"، ثم العقيد رياض الأسعد الذي أعلن في 29 تموز 2011 تأسيس الجيش السوري الحر لحماية المتظاهرين.
وبحلول نهاية عام 2011، خاض الجيش الحر مواجهات في الرستن، وتلبيسة، حمص، وريف إدلب.
وبدأت عسكرة الثورة تأخذ طابعًا رمزيًا جديدًا، حيث أصبحت الهوية السياسية في بعض المناطق مرتبطة بالفصيل المسيطر، لا بالمشروع الوطني.
ففي 2 تشرين الأول 2011، أُعلن تأسيس المجلس الوطني السوري في إسطنبول، كمظلة سياسية تضم قوى إعلان دمشق، والإخوان المسلمين، وممثلين عن المجالس، وتنسيقيات الحراك.
ورغم الترحيب الشعبي الأولي، إلا أن المجلس واجه انتقادات تتعلق بتغليب تيارات معينة، وضعف الاتصال بالأرض السورية.
في 11 تشرين الثاني 2012، تأسس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، في محاولة لتوسيع التمثيل، وضمّ فصائل جديدة، لكنه اصطدم لاحقًا بمشكلة الفجوة بين الداخل والخارج، حيث لم يتمتع الائتلاف بسلطة فعلية على الأرض، بينما بقيت المجالس المحلية والمجتمعات المدنية بدون اعتراف دولي واضح.

ومع دخول الثورة مرحلتها المتقدمة، كانت سورية قد انقسمت إلى مناطق نفوذ:

  • في إدلب وريف حلب، برزت هيئة تحرير الشام بصيغة تمثيل شرعي خاصة.
  • في مناطق شرق الفرات، طرحت قوات سورية الديمقراطية نموذجًا فيدراليًا يتبنى هوية سياسية متعددة القوميات.
  • في جنوب سورية والغوطة، تفرقت الهيئات المدنية والعسكرية دون مرجعية سياسية موحدة. وقد وصف فريدريك هوف، المبعوث الأميركي السابق إلى سورية، هذه الحالة بأنها "انفصام تمثيلي"، حيث تعترف الدول بكيانات غير فاعلة، بينما يُقصى الفاعلون المحليون من أي عملية سياسية جدية.
لم تنجح الثورة، رغم زخمها الرمزي الكبير، في إنتاج هوية سياسية جامعة؛ بل إن التعددية التي ظهرت تحولت إلى تجزئة لا تلاقٍ، وعاد المواطن السوري إلى سؤال محوري: من أنا سياسيًا بعد الثورة؟
هل أنا منتمي لفصيل؟ أم عضو في مجلس؟ أم مجرد مدني في منطقة خارجة عن السيطرة؟
وهكذا، بقيت الهوية السياسية الثورية دون عقد تأسيسي، ودون دستور أو مشروع وطني موحد يمكنه أن يُعيد صياغة الانتماء على أسس جديدة.

الهوية السياسية في مناطق ما بعد التحرير (من التمثيل المحلي إلى عقد السيادة الجديد):


تُعد مناطق ما بعد التحرير، لا سيما في شمال سورية، مختبرًا سياسيًا تجريبيًا لإعادة تشكيل الهوية السياسية بعيدًا عن المنظومات السلطوية التقليدية، وبعيدًا عن فوضى الانقسامات الفصائلية التي اتسمت بها سنوات النزاع.
وقد شهدت هذه المناطق منذ عام 2017 صعود هياكل محلية ذات طابع إداري–سياسي، تحاول سدّ الفراغ التمثيلي، وبناء شكل أولي للعلاقة بين المواطن والمؤسسة، بما يؤسس لنموذج من التعدد التمثيلي والمواطنة المتفاعلة.

أولًا: المجالس المحلية وتبلور الهوية السياسية القاعدية:

أُنشئت مئات المجالس المحلية في المناطق المحررة، لا سيما في إدلب، وعفرين، الباب، جرابلس وغيرها، وقدّمت نموذجًا إداريًا مدنيًا يشرف على الخدمات الأساسية (الماء، الكهرباء، التعليم، المرور)، وينسّق مع المنظمات الإنسانية والجهات الإقليمية.
ووفق دراسة أعدها مركز عمران للدراسات الاستراتيجية فإن "المجالس المحلية شكّلت نواة لتمثيل سوري غير مركزي، يقوم على الانتخاب المحلي، الشرعية الأهلية، والشراكة المجتمعية"، رغم الاختلاف في مستويات الاحتراف والتمثيل.
وقد نظّمت بعض هذه المجالس انتخابات داخلية بدعم من المجالس الفرعية والنقابات المحلية، وبدأ يظهر مفهوم "الفاعل المدني السياسي"، الذي يعبّر عن ذاته في المجال العام، لا عبر الانتماء الفئوي أو الولاء العقائدي، بل من خلال الخدمة والانخراط الأهلي.

ثانيًا: تجربة الحكومة السورية المؤقتة – أزمة شرعية فوقية:

تأسست الحكومة السورية المؤقتة في نوفمبر 2013 من قبل الائتلاف الوطني، كمحاولة لتوحيد المؤسسات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.
ورغم الدعم النسبي من بعض الجهات الدولية، إلا أن الحكومة عانت من فجوة تمثيلية واضحة، حيث تم تعيين وزرائها خارج الأراضي السورية، دون انتخابات، ولم تنجح في إدارة المجالس المحلية أو إرساء مؤسسات حكم مستقلة.
ويمكن وصف هذه التجربة بأنها "تمثيل فوقي غير منبثق من الأرض"، حيث بقيت الهوية السياسية الرسمية منفصلة عن الفعل المحلي.

ثالثًا: حكومة الإنقاذ وهيمنة التمثيل الشرعي المؤدلج:

ففي مناطق إدلب، أُنشئت حكومة الإنقاذ السورية عام 2017 بدعم من هيئة تحرير الشام، لتدير الشأن العام عبر وزارات ومجالس تابعة لها.
ورغم وجود مؤسسات رسمية (وزارة عدل، تعليم، محكمة شرعية)، إلا أن الشرعية السياسية ظلت موضع جدل بسبب الانتماء الفصائلي والديني، وغياب انتخابات مستقلة أو إشراك حقيقي للمجتمع المحلي.
وقد وثّقت هيومن رايتس ووتش (2021) عدة تقارير عن التدخل الأمني في عمل المجالس، وإعادة تشكيل المؤسسات وفق اعتبارات غير مدنية.


رابعًا: الخصوصية الجغرافية ونمط الهوية السياسية المتغايرة:


في شرق الفرات، برز نموذج مختلف قائم على الفيدرالية، حيث تبنّت الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية نمطًا سياسيًا يستند إلى تمثيل متعدد القوميات (كرد، عرب، سريان)، وشارك فيه الحزب الديمقراطي الكردي كمكوّن رئيسي.
أُجريت عدة انتخابات محلية منذ عام 2017، وشُكّلت مجالس "تشريعية" تدير البلديات والخدمات.
إلا أن هذا النموذج واجه رفضًا شعبيًا وسياسيًا في مناطق أخرى من سورية، بسبب افتقاده للشرعية الوطنية الجامعة، وارتباطه بجغرافيا حزبية–إثنية معينة.

خامسًا: في ملامح العقد السياسي الجديد:

رغم التباينات الكبيرة، فإن تجربة مناطق التحرير تشير إلى وجود خمسة ملامح مبدئية لهوية سياسية ناشئة:

  1. التمثيل المحلي كمدخل للشرعية، إذ الشرعية لم تعد مرتبطة بالمركز، بل بالمجتمع المحلي: من يُقدّم خدمات، من يُنتخب، من يُحاسَب.
  2. فصل المجال الأمني عن المجال المدني، حيث برزت مطالب قوية لعزل السلطة العسكرية عن المؤسسات المدنية، رغم عدم تحققها الكامل.
  3. بروز التعدد السياسي والإداري، ففي بعض المناطق، توجد أكثر من جهة تمثيلية، ما يطرح الحاجة لعقد تأسيسي يُوحّد المرجعية دون إقصاء.
  4. تجذر الهوية الأهلية مقابل الهوية الفصائلية، حيث بدأ المواطن يُعرّف ذاته كمشارك في الشأن المحلي، لا كمؤيد لفصيل.
  5. ضعف الصيغة الوطنية العامة، فرغم بروز الهويات المحلية، لا تزال الهوية السياسية الوطنية غائبة أو مفككة، مما يعيق إعادة بناء الدولة على أساس عقد جامع.

إشكالية الهوية الوطنية الجامعة: من شظايا التمثيل إلى سردية السيادة الجديدة:
أحد أكثر الأسئلة تعقيدًا في المرحلة الانتقالية السورية هو:

هل يمكن بعد سنوات النزاع والانقسام والهويات الفرعية أن يُعاد إنتاج سردية وطنية سياسية جامعة؟ وهل تستطيع هذه السردية احتواء التنوع الإثني والديني والمناطقي دون نفي أو إقصاء؟ أم أن إعادة بناء الهوية الوطنية ستقع في فخ المركزية القديمة أو إعادة تدوير السلطة بصيغ جديدة؟

أولًا: تفكك السردية الوطنية بعد الثورة:

منذ عام 2011، ومع تفكك سيطرة النظام البائد على أجزاء واسعة من البلاد، بدأت تتآكل السردية الوطنية المركزية التي كانت تروّج لها الدولة.
وأصبح المواطن يُعرّف نفسه من خلال موقعه الجغرافي أو الفئوي أو الثوري:
  • "أنا من إدلب المحررة"
  • "أنا تابع للمجلس المحلي في الغوطة"
  • "أنا عضو في الإدارة الذاتية لشمال سورية"
  • "أنا عسكري في الجيش الحر"

    هذا التمثيل المجزأ نتج عن تفاعل ثلاثة عوامل:
  1. انهيار سلطة الدولة الرمزية.
  2. غياب مرجعية دستورية جامعة.
  3. صعود الهويات المقاومة بدل الهويات التأسيسية.

ثانيًا: التجارب المقارنة – هل يمكن بناء هوية وطنية بعد النزاع؟
تشير التجارب الدولية إلى أن بناء الهوية الوطنية بعد الصراع لا يتم إلا عبر سردية تأسيسية تتجاوز الانقسامات، كما في:

  • جنوب إفريقيا بعد الفصل العنصري، حيث تم اعتماد خطاب "الطاولة الواحدة" ودمج الهويات عبر الدستور والرموز الجامعة.
  • البوسنة بعد الحرب الأهلية (1995)، ورغم وجود هياكل تمثيلية معقدة، إلا أن غياب السردية الوطنية أدى إلى استمرار الانقسام السياسي.
  • رواندا بعد الإبادة (1994)، حيث تبنّت السلطة خطابًا وطنيًا جامعًا قائمًا على الهوية المدنية والمساءلة التاريخية. يُظهر هذا أن بناء الهوية الوطنية لا يتم بالإنكار أو الدمج القسري، بل عبر الاعتراف، والتمثيل، والعدالة.

ثالثًا: التحديات السورية في بناء هوية وطنية جامعة:
في الحالة السورية، تبرز عدة تحديات:

  • التباين الجغرافي–السياسي، حيث تختلف المكونات الاجتماعية والسياسية بين الشرق (قسد)، والشمال (الحكومة المؤقتة)، والوسط (هيئة تحرير الشام).
  • غياب السردية الدستورية، إذ لا يوجد حتى الآن نص تأسيسي أو مشروع وطني يُعرّف المواطن ضمن إطار تعددي.
  • انعدام الثقة بين المكونات، بين العرب والكرد، السنة والعلويين، بين التيارات الإسلامية والعلمانية، وبين المدنيين والعسكر.
  • التدخلات الخارجية، التي أعاقت نشوء خطاب وطني ناتج عن الداخل.
     

رابعًا: في شروط بناء الهوية الوطنية الجديدة
تستلزم إعادة بناء الهوية الوطنية السياسية:

  1. كتابة سردية تأسيسية جامعة، تشمل الاعتراف بالتنوع، والاعتذار عن الانتهاكات، والاتفاق على المبادئ العامة.
  2. صياغة دستور يعكس التعدد وليس يموهه، بتضمين صيغ تمثيل لكل المكونات، واعتماد مبادئ المواطنة المتساوية.
  3. استعادة المجال العام كفضاء للانتماء السياسي، بإنشاء مؤسسات حوار وطنية، ومجالس تمثيلية، ومنابر فكرية جامعة.
  4. إعادة تعريف الوطن كمشروع عقدي لا كيان سلطوي، فالوطن ليس النظام، بل العقد الذي يجمع الشعب ضمن سيادة عادلة.

موقع الجماعات والمكونات السورية في الهوية السياسية الجديدة (بين الاعتراف والشراكة الفعلية):


تشكل الجماعات والمكونات السورية من إثنيات وطوائف ومجتمعات محلية وعشائرية ركائز أساسية في البناء الاجتماعي والسياسي للبلاد، لكنها ظلت لعقود عرضة للتهميش أو الاستخدام الرمزي داخل بنيات الدولة السلطوية.
ومع اندلاع الثورة، ثم إعادة تشكل المناطق المحررة، برزت فرصة لإعادة صياغة العلاقة بين هذه الجماعات والهوية السياسية الناشئة، بعيدًا عن الاستتباع أو الإنكار.

في النموذج السياسي السوري البائد، كان التمثيل الطائفي أو العرقي غالبًا صوريًا:

  • تُمنح الجماعات "مواقع ثانوية"، دون صلاحيات حقيقية.
  • يتم توظيف الأفراد منها كدليل على "التعدد"، دون بنية مؤسساتية للشراكة. فمثلًا، رغم مشاركة بعض المسيحيين والدروز والكرد في مؤسسات الدولة، لم تُعترف الجماعات سياسيًا ولا ثقافيًا بهوياتها ضمن العقد الوطني. وقد وثّق المركز العربي للأبحاث أن "الهوية الوطنية السورية تم بناؤها على محو التنوع، لا إدماجه".

ومنذ عام 2011، شاركت جميع المكونات في الحراك:

  • الكرد، أسسوا مجالس مدنية، وشاركوا في الحراك السلمي، قبل أن يتجه بعضهم إلى الإدارة الذاتية.
  • العلويون المعارضون، برزت أصوات مثل مجموعة "أنا علوي حر" مطالبةً بفصل الطائفة عن النظام.
  • المسيحيون، شاركوا في التنسيقيات، وشكّلوا جمعيات مدنية.
  • العشائر العربية، في دير الزور والرقة، ساهمت في المقاومة المدنية والعسكرية، وأسست مجالس محلية. إلا أن غياب إطار وطني جامع جعل هذه المشاركة تفقد أثرها التأسيسي، وتحولت إلى مساهمات جزئية غير منظّمة.

وفي شروط الشراكة السياسية الحقيقية ولإدماج المكونات في هوية سياسية جديدة، لا يكفي التمثيل الرمزي، بل تُشترط شروط ثلاثة:

  1. الاعتراف السياسي والدستوري بالهويات الجمعية، حيث يجب أن يُقرّ الدستور بحق المكونات في التعبير، والتنظيم، والتعليم بلغاتها وموروثها، دون أن يتحول ذلك إلى تهديد للوحدة الوطنية.
  2. بناء مؤسسات تمثيلية تشاركية، مثل المجالس التشريعية اللامركزية، أو الهيئات التأسيسية المختلطة، حيث تُصاغ التشريعات بمشاركة الجميع، دون هيمنة جهة واحدة.
  3. صياغة سردية وطنية متعددة الأصوات، فيجب أن تُكتب الرواية السورية بنبرة جماعية، تَحمل في طيّاتها قصص الاضطهاد، والنضال، والهوية، لكل جماعة دون إنكار أو تضخيم.

ويمكن لسورية الاستفادة من نماذج:

  • لبنان، حيث التمثيل الطائفي الدائم أبقى الانقسامات حيّة ولم ينتج هوية سياسية جامعة.
  • تونس بعد الثورة، ضمّت الهيئة التأسيسية تمثيلًا متنوعًا جغرافيًا وسياسيًا، مما أفرز دستورًا مرنًا يستوعب التعدد.
  • العراق، رغم اعتماد المحاصصة، إلا أن التمثيل الإثني والطائفي لم يُرافقه اعتراف حقيقي بالهويات، مما جعل الهوية الوطنية هشّة. يُظهر هذا إذاً أن الإدماج لا يعني توزيع المناصب، بل تأسيس العلاقة بين الجماعة والدولة ضمن إطار تشاركي شرعي.

نحو مفهوم جديد للمواطنة السياسية السورية (من التبعية السلطوية إلى الفاعلية التمثيلية):


لم يكن مفهوم المواطنة في سورية، قبل الثورة، سوى موقع وظيفي داخل منظومة الولاء، حيث يُعرّف المواطن من خلال انتمائه للحزب الحاكم أو المؤسسة العسكرية، لا من خلال مشاركته السياسية أو حقوقه الدستورية.
ومع اندلاع الثورة عام 2011، ثم انهيار النظام في ديسمبر 2024، بدأت تتشكل ملامح جديدة للمواطنة، تتجاوز التبعية وتؤسس لفاعلية مدنية وسياسية حقيقية.
وقد شهدت سورية بين عامي 2023 و2025 أحداثًا مفصلية أعادت تعريف العلاقة بين المواطن والدولة:
  • زلزال شباط 2023 الذي ضرب شمال غرب سورية، وأسفر عن مقتل أكثر من 6,000 شخص، كشف هشاشة الدولة المركزية، وأبرز دور المجالس المحلية والمجتمع المدني في الاستجابة، مما عزز مفهوم "المواطنة الفاعلة" في مواجهة الكوارث.
  • عودة سورية إلى الجامعة العربية في أيار 2023، رغم استمرار القمع، أثار جدلًا حول شرعية التمثيل، ودفع قطاعات واسعة من السوريين للمطالبة بمواطنة سياسية لا ترتبط بالنظام بل بالمشاركة الفعلية.
  • الانتخابات التشريعية في تموز 2024، والتي قاطعها أكثر من 60% من السوريين، وأُجريت في ظل رفض شعبي واسع في الجنوب والشمال، أظهرت أن المواطنة الشكلية لم تعد مقبولة، وأن المواطن يطالب بتمثيل حقيقي لا رمزي.
  • سقوط نظام الأسد في كانون الأول 2024، وتولي أحمد الشرع قيادة المرحلة الانتقالية فتح الباب أمام إعادة صياغة المواطنة على أسس جديدة، حيث أعلن عن مؤتمر حوار وطني شامل، يهدف إلى صياغة إعلان دستوري مؤقت.

هذا ويُذكر أنه في شمال سورية، بدأت ملامح المواطنة السياسية تتجسد من خلال:

  • انتخابات المجالس المحلية في إدلب وعفرين والباب (2023–2024)، والتي شهدت مشاركة شعبية واسعة، رغم التحديات الأمنية، وأظهرت رغبة المواطنين في اختيار ممثليهم بعيدًا عن الهيمنة الفصائلية.
  • تجربة حكومة الإنقاذ في إدلب، التي رغم ارتباطها بهيئة تحرير الشام، بدأت بتطبيق نموذج "الحكومة الإلكترونية"، وتوسيع صلاحيات المجالس، مما أتاح للمواطنين أدوات جديدة للمساءلة والمشاركة.
  • إعلان العقد الاجتماعي الجديد في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية (ديسمبر 2023)، والذي أقرّ بحقوق المرأة والشباب، وأسس لمحكمة لحماية العقد، ومفوضية عليا للانتخابات مما يُعد تحولًا نوعيًا في مفهوم المواطنة التشاركية.

وفي ضوء هذه التحولات، يمكن تأطير المواطنة السياسية السورية الجديدة ضمن العناصر التالية:

  1. التمثيل المحلي والانتخابي، إذ المواطن يختار ممثليه في المجالس، ويشارك في صياغة السياسات المحلية.
  2. المساءلة والمحاسبة، عبر الإعلام المحلي، والرقابة الشعبية، بدأت تظهر أدوات لمحاسبة المسؤولين، كما في احتجاجات إدلب ضد حكومة الإنقاذ (2024).
  3. المواطنة الدستورية، مع التحضير لإعلان دستوري مؤقت في مؤتمر الحوار الوطني (شباط 2025) تم اعادة تعريف المواطن بوصفه شريكًا في صياغة العقد السياسي.
  4. الانتماء للمجتمع لا للسلطة، المواطن السوري الجديد يُعرّف ذاته من خلال دوره في المجتمع، لا من خلال قربه من السلطة أو الحزب.

ولكن، ورغم هذه التحولات، لا تزال المواطنة السياسية تواجه تحديات أبرزها:

  • غياب دستور جامع، مما يجعل المواطنة عرضة للتأويلات السياسية.
  • تعدد السلطات المحلية، بين الحكومة الجديدة، والإدارة الذاتية، مما يربك المواطن في تحديد مرجعيته السياسية.
  • ضعف الثقافة السياسية، نتيجة عقود من القمع، فلا تزال المشاركة السياسية محدودة في بعض المناطق، وتحتاج إلى برامج توعية وتأهيل.

الخاتمة (نحو هوية سياسية سورية مؤسسة على العقد والسيادة والمواطنة):

بعد مسيرة تحليلية في هذه الورقة تبيّنت ملامح أزمة الهوية السياسية السورية بوصفها انعكاسًا لانفصالٍ تاريخي بين المواطن والدولة، وبين المجال العام ومؤسسات التمثيل، وبين الجماعة السياسية والخطاب الوطني الجامع.
لقد كشفت الورقة أن الهوية السياسية في سورية لم تُبْنَ على أساسٍ تعاقدي أو مؤسساتي، بل على هيمنة رمزية، واحتكار حزبي، وتهميش فئوي، ومركزية أيديولوجية عطّلت تشكيل الذات الوطنية التمثيلية.
وعبر محاور الورقة، تبلور أن الأزمة ليست أزمة توصيف، بل أزمة تأسيس؛ فالهويات الجزئية التي ظهرت خلال الثورة، ثم الهياكل المحلية التي نشأت بعد التحرير، ورغم أهميتها التاريخية، لم تُنتج حتى اللحظة سردية وطنية جامعة ولا عقدًا سياسيًا شرعيًا.
إنها تجارب ذات أثر محلي ومؤقت، لكن غياب المنصة الدستورية، واستمرار التعدد غير المنسّق، يُبقي الهوية السياسية السورية في حالة تشظٍ انتقالي لا يستقيم معه البناء المؤسسي.
ومع دخول البلاد مرحلة ما بعد النظام المركزي (ديسمبر 2024)، والإعلان الدستوري الجديد، ربما تُتاح فرصة غير مسبوقة لتأسيس هوية سياسية سورية جديدة، تتجاوز إرث الاستبداد الفئوي وتَحتضن التنوع المجتمعي ضمن إطار تعاقدي.

هذه الهوية لن تُستورد من تجارب الدول الأخرى، ولن تُفرض من فوق، بل يجب أن تُصاغ على قاعدة:

  • تمثيل القاعدة الشعبية في المؤسسات التأسيسية، لا صياغة النخبة بعيدًا عن المجال المحلي.
  • اعتراف دستوري صريح بجميع المكونات، لا استخدامها كرموز شكلية.
  • إعادة تعريف المواطنة على أساس المشاركة والسيادة، لا الانضواء الوظيفي في البنية البيروقراطية.
  • إدماج المجال الديني–المدني في صياغة الخطاب السياسي الجديد، لا إقصاء الرؤية الفقهية أو تعطيل مقاصدها في البناء العام.
  • تنسيق المؤسسات المحلية والحكومة الانتقالية ضمن إطار تعاوني، لا التنافس السلطوي.
    وفي سياق فقهي–سياسي، فإن إعادة تعريف الهوية السياسية تقتضي العودة إلى مفاهيم العقد، والبيعة، والشورى، والولاية العامة، كمكونات شرعية تاريخية قابلة للتحديث، لا للتأبيد.
    فالعقد الدستوري في الدولة الحديثة، وإن تقنّن بلغة القانون، يظل في جوهره "تفويضًا اجتماعيًا للسلطة"، لا امتلاكًا لها، ويظل معلقًا بشرط: رضا الجماعة، وعدالة التمثيل، وحرية الانتماء، وتعدد مسالك الشرعية.
    إن المشروع السياسي السوري لا يبدأ من انتخابات، بل من سؤال: من يُعرّف المواطن؟ من يُقرّ بحقوقه؟ من يُمثّله؟ وما هي مرجعية الدولة في إدماج الجميع؟ وإذا لم يُجب الدستور القادم عن هذه الأسئلة بصيغة تعاقدية تعددية واضحة، فإن كل الهياكل ستبقى فوقية، وكل المؤسسات تمثيلًا شكليًا، وكل سردية وطنية مجرد شعار. إن بناء الهوية السياسية السورية بعد التحرير لا يتم بتبديل أسماء السلطات، بل بإعادة تأسيس العلاقة بين الفرد والمجال العام، عبر منظومة قانونية ومؤسساتية تُمكّن المواطن من أن يكون شريكًا لا تابعًا، فاعلًا لا مُدارًا، وأن تكون الدولة انعكاسًا لإرادة الأمة، لا استمرارًا لاحتكار شرعيتها.

المراجع:

  • المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2019). الهوية الوطنية في السياق السوري: بين الإنكار والتسييس. الدوحة.
  • المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2022). تحولات الهوية الوطنية في الدول الخارجة من النزاع. الدوحة.
  • المركز السوري للدراسات السياسية (2021). العسكرة الرمزية للمجتمع السوري: التاريخ والنتائج. دمشق.
  • المركز السوري للبحوث السياسية (2020). المؤسسات السورية المؤقتة: أداء الحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ. دمشق.
  • المركز السوري للبحوث السياسية (2020). التمثيل المحلي والهويات الفرعية في إدلب وحلب. دمشق.
  • مركز عمران للدراسات الاستراتيجية (2019). المجالس المحلية في شمال سورية: الشرعية والفاعلية. إسطنبول.
  • مركز الحوار السوري (2023). سورية بعد النزاع: هل توجد سردية وطنية جامعة؟ إسطنبول.
  • الجابري، محمد عابد (2002). الهوية والسلطة في الوطن العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
  • الجابري، محمد عابد (1996). الديمقراطية وحقوق الإنسان. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
  • أحمد، إبراهيم (2016). الهوية الوطنية بعد النزاع: دروس من البوسنة وجنوب إفريقيا. بيروت: دار المسبار.
  • أبو شقرا، حسن (2019). الهوية السياسية في المشرق العربي: من الولاء السلطوي إلى التمثيل المتنازع عليه. مجلة السياسات العربية، العدد الخامس عشر، الدوحة.
  • الدولة السورية (1973). الدستور السوري لعام 1973. الجريدة الرسمية السورية، دمشق، المادة الثامنة.
  • معهد كارنيغي للسلام الدولي (2013). الحوكمة المحلية في سورية: المجالس بوصفها نواة الهوية السياسية. بيروت.
  • Barash, David and Webel, Charles (2018). Peace and Conflict Studies. Routledge, London and New York.
  • Bardhan, Pranab (2001). Ethnic Diversity and the State: A Framework for Political Inclusion. Journal of Democracy, Vol. 12, No. 1, pp. 1–20.
  • Castells, Manuel (1997). The Power of Identity. Blackwell Publishers, Oxford.
  • Fisk, Robert (1990). Pity the Nation: Lebanon at War. Oxford University Press, London.
  • Friedman, Thomas (1995). From Beirut to Jerusalem. Farrar, Straus and Giroux, New York.
  • Human Rights Watch (2007). No Room to Breathe: The Repression of Political Activism in Syria. نيويورك.
  • Human Rights Watch (2014). Syria: Armed Opposition and Civil Administration. نيويورك.
  • Human Rights Watch (2021). Syria: HTS Interference in Local Governance. نيويورك.
  • Isin, Engin and Turner, Bryan (2007). Investigating Citizenship: An Agenda for Citizenship Studies. Citizenship Studies, Vol. 11, No. 1, pp. 5–17.
  • Rawls, John (1971). A Theory of Justice. Harvard University Press, Cambridge.
  • Syrian Forum – Stabilization Support Unit (2022). Governance in Northern Syria: Trends and Evaluation. إسطنبول.
  • UNDP (2017). Post-Conflict Institutional Design: Lessons from Tunisia and South Africa. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.

موقع تيار المستقبل السوري
الثلاثاء 22 يوليوز 2025