ويمنح إطار إصلاح العملة التشاركي الأولوية للشرعية الإجرائية على حساب السرعة، ويتعامل مع إعادة التصميم لا باعتبارها مهمة إدارية محضة، بل بوصفها تعويضاً رمزياً وآلية للحوار الوطني، وبهذا المعنى، يحوّل هذا النهج الإصلاح النقدي إلى ركيزة في مسار العدالة الانتقالية، بما يعكس أن الدولة الناشئة تُقدر أصوات مواطنيها بالقدر نفسه الذي تُقدر به مواردها.
سيركز هذا المقال على هذه الدلالات القانونية والانتقالية، بعيداً عن التداعيات الاقتصادية التي لا تندرج ضمن اختصاصي في القانون الدولي والعدالة الانتقالية.
الهيكل المؤسسي ومتطلبات الحوكمة
يتطلب هيكل الحوكمة الداعم لإصلاح العملة التشاركي معايرة دقيقة توازن بين حماية العملية من الاستغلال السياسي وبين الحفاظ على الكفاءة الفنية، فلا يمكن للبنك المركزي أن يتصرف منفرداً في مسألة تنطوي على هذه الكثافة الرمزية، بل يتعين عليه إنشاء هيئة مؤقتة مستقلة تشرف على الأبعاد الرمزية والاستشارية للإصلاح، مع إبقاء الاختصاصات الفنية المتعلقة بالسياسة النقدية ضمن ولايته.
ويحقّق إنشاء لجنة لإصلاح العملة هذا الهدف المزدوج، وينبغي أن تعمل هذه الهيئة بموجب ميثاق متعدد الأطراف يضم جهات معنية متنوعة، مع تفويض محدد يتمثل في اختيار صور العملة بما يعكس هوية وطنية تعددية في مرحلة ما بعد الاستبداد.
ويقارب هذا التصميم المؤسسي مناهج مطبقة في سياقات أخرى، مثل اعتماد منطقة اليورو مجموعة استشارية مستقلة تُكلف باقتراح أطر موضوعية تتجنب تفضيل أي منظور وطني منفرد.
ويتمثل المبدأ الحاكم في أن تضم اللجنة خبرات تتجاوز المجال الاقتصادي، عبر الاستعانة بممثلين عن المجتمع المدني، ومؤرخين، ومتخصصين ثقافيين قادرين على مقاربة تعقيدات الذاكرة الجماعية والتمثيل الرمزي.
الآلية التشاركية من القرار إلى الحوار
كان الفشل الجوهري في الحقبة الاستبدادية هو فرض الرموز من دون موافقة المجتمع، ويقتضي إصلاح العملة التشاركي قلب هذا المنطق عبر دورة منظمة للتشاور والتصميم والتحقق، وتؤسس العملية المقترحة ثلاث مراحل مترابطة تُرسخ ضمانات إجرائية تعزز الشرعية عبر الإدماج لا الإكراه.
تُخصص المرحلة الأولى لمشاورات وطنية تأسيسية تحدد الأطر الموضوعية قبل إنتاج التصاميم، وبدلاً من طلب صور بعينها مباشرة، تدعو هذه المرحلة إلى ترشيح موضوعات عامة مثل المعالم الوطنية، والمناظر الطبيعية، والرموز الثقافية التاريخية.
ويقلل هذا المدخل من الاستقطاب المبكر حول أسماء أو صور محددة، ويتيح مشاركة واسعة في تعريف القيم التي ينبغي أن تجسدها العملة، ومن الضروري أن تتسم هذه المشاورة بالشمول الجغرافي لتصل إلى جميع المحافظات بغض النظر عن مواقع السيطرة خلال النزاع.
وتنتقل المرحلة الثانية من تحديد الموضوعات إلى إنتاج التصاميم عبر مسابقة منظمة، وتعد إجراءات التقديم المجهولة، التي تُحجب فيها هوية المشاركين، شرطاً لازماً لضمان النزاهة والحد من المحسوبية، بما يسمح بتقييم الأعمال على أساس الجدارة.
وتختار اللجنة قائمة مختصرة وفق معيارين متلازمين: الجدوى التقنية والجودة الفنية، ثم تُعرض التصاميم للجمهور عبر آليات استطلاع رأي وحوار مجتمعي.
وينبغي أن تُفهم مشاركة الجمهور هنا على أنها أداة تقييم وكشف للمآخذ المحتملة لا استفتاء ملزماً يحسم بالأغلبية، إذ يحمي هذا التمييز العملية من موجات الشعبوية، مع المحافظة على وظيفة المشاركة بوصفها آلية إنذار مبكر تكشف الجدل غير المتوقع أو التأويلات المسيئة.
أما المرحلة الثالثة فهي مراجعة للتوضيح البصري، تُفحص فيها الرموز المختارة من منظور حقوقي وقانوني واجتماعي لضمان ألا تُسهم، ولو من دون قصد، في إعادة إنتاج الانقسام، ويقتضي ذلك استبعاد أي شخصية تاريخية قد تُستقبل بوصفها رمزاً بطولياً لدى جماعة، في حين تُقرأ لدى جماعة أخرى بوصفها رمزاً للعدوان أو الإقصاء.
ويقوم المبدأ الحاكم هنا على تجنب الضرر، بحيث يُصار عند ثبوت الانقسام إلى اعتماد صور محايدة مثل الطبيعة والعمارة والأشكال الهندسية المجردة، بما يخفف من فرص تحويل العملة إلى ساحة صراع هوياتي.
سيميائية التحول ومعايير الاختيار
إن إزالة صورة الدكتاتور الأسدي من العملة تُعد قطيعة بصرية مع الماضي الاستبدادي، لكنها لا تحسم وحدها سؤال الدلالة؛ فاختيار البديل قد ينتج مخاطر جديدة إن لم يُضبط بمبادئ واضحة، ويجب أن تشير الصورة البديلة إلى الدولة التي تطمح الأمة إلى بنائها، لا إلى إعادة إنتاج الماضي أو تدوير صراعاته.
ويُعد حظر تصوير الشخصيات الحية أهم ضمانة وقائية ضد نشوء عبادة شخصية جديدة؛ وينبغي تقنين هذا المبدأ في ميثاق اللجنة باعتباره قاعدة حاكمة غير قابلة للاستثناء، فالشخصيات السياسية الحية، مهما بلغت شرعية تمثيلها الراهن، تحمل دوماً خطر تحويل العملة إلى أداة لترسيخ النفوذ السياسي بدل تعزيز الوحدة الوطنية.
وإلى جانب ذلك، ينبغي اعتماد مبدأ التمثيل متعدد المراكز في توزيع الصور عبر فئات العملة، ويُفهم تسلسل الأوراق النقدية باعتباره لوحة بصرية واحدة تُجسد عليها البلاد بأكملها رمزياً، فإذا حملت إحدى الفئات معْلماً من الشمال، وجب أن تحمل فئة أخرى معْلماً من الجنوب، وإذا طغى التراث الحضري على بعض الفئات وجب أن تُقابلها رموز تعكس الريف والمناظر الطبيعية.
وتؤدي هذه الجغرافيا البصرية وظيفة توحيدية، إذ تربط المناطق التي فتتها الصراع ضمن سردية وطنية مشتركة، فتغدو العملة تذكيراً يومياً بالسلامة الإقليمية والتماسك الوطني بدل أن تتحول إلى مرآة لهيمنة مركز على الأطراف.


الصفحات
سياسة









