
الرواية مشروع لكتابة الثورة. ولكنّها لا تتورّط- بوصفها مشروعا- في نقل أحداث الثورة أو محاكاتها محاكاة آليّة باهتة مثلما هو شأن أغلب الروايات التونسيّة التي كُتبت بقدرة قادر وصدرت بعد الرابع عشر من جانفي ودماء الشهداء لم تجفّ بعد، حتّى خلنا أصحابَها من أهل الكرامات والنبوءات. بل هي محاولة للحفر عميقا في بنية مجتمع تآكلَ من الاستبداد والقهر والتهميش وفضحِ نظامٍ جعلَ التجهيل مقصدا والقمع أداةً والفرحَ زيفًا لا وجود له خارج شاشات التلفاز أو ملاعب كرة القدم. وكلّ شيء بالساعة معقودٌ. فهي في التاريخ رمز الانقلاب الذي نفذّه بن علي على الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة، وفي تشييدها بدلا من تمثاله الذي كان منتصبا هناك إبدالٌ لذاكرة بأخرى. وهي في الرواية جسرُ عبور من مرحلة إلى غيرها، من مرحلة كان تسلّق الساعة فيها مقرونا بالفرحة العمياء، وكان حدث السقوط من عليائها قادحا للقمع والتخويف "لم يجرؤ أحد على الاقتراب من الساعة منذ سنتين بعدما سقط منها أحد مشجّعي كرة القدم فرحا بفوز فريقه بكأس الجمهورية." إلى مرحلةِ كسرِ حاجز الخوف والتلاعب برمز النظام في إشارة إلى تصدّعه. وبذلك يغدو السقوط وسط النافورة المحيطة بالساعة أشبهَ بطقس العبور. "يسقط أحد الضحايا في النافورة التي تحيط بالساعة، يتلوّن ماؤها بسرعة وتتحوّل المياه الراكدة إلى دماء ساخنة. نحاول إخراجه، تنهال علينا العصي والرصاص فتلتحق بالنافورة جثثٌ أخرى".
تنطلق أحداث الرواية في إهاب من السكون يلفّ قلب العاصمة التونسيّة، ولا يجرحه غير كائن صغير بحجم الإصبع تسلّل في غفلة من الجميع ليتسلّق بسرعة الساعة المنتصبة في قلب المكان. "عند الساعة الواحدة بعد الظهر تقريبا. كانت الريح تدحرج علبة جعة منهوبة الروح في الشارع المقفر. سكون كبير يصل قوس بَابْ بْحَرْ ببرج الساعة العملاقة عند تقاطع شارع محمد الخامس وشارع الحبيب بورڤيبة (…)كان الناس ينعمون بقيلولة شهر أغسطس المقدّسة. الحرارة تعدّت الخمسين درجة وشيطان منتصف النّهار يفلي عانته من بقايا لذّة هاربة. فجأة ذبحت أصوات سيارات الإسعاف والشرطة القيلولة النائمة فهرع الجميع ببقايا نعاسهم أو ما تيبّس عليهم من منيّهم إلى شارع الشوارع. كان الحدث هناك، عند الساعة الشاهقة. أحزمة من الشرطة تسيّج المكان. رجال "التدخّل السّريع" يختفون وراء خوذاتهم الباردة، يدفعون بعصيّهم المتفرّجين الذين هطلت بهم أبواق السيارات من كل مكان. بشرٌ بلا عدد يرفعون رؤوسهم إلى قمة السّاعة القاسية. كائن صغير بحجم الإصبع، يتراءى للجميع من بعيد، يتسلّق بسرعة الصرصور الساعة أمام دهشتهم ليعلن القيامة."
تنفتح الرواية بهذا المقطع معلنة منذ البدء عن الحدث الرئيسيّ وما أثاره من تحوّل حاسم في حالة الشخصيّات والسكون الذي كان يسود المكان. تحوّل يُطالعنا للوهلة الأولى موغلا في الغرابة والغلوّ إذا قارنّاه بطبيعة الفعل الذي أنتجه "تسلّق ساعة". ولكنّ هذه الغرابة سرعان ما تحتجب حين يتعلّق الأمر بساعة السابع من نوفمبر وما تكتسبه من رمزيّة في علاقة بالنظام حتّى غدت وثيقة الصلة بالمحظور وغدا انتهاك فضائها انتهاكا لأحد المقدّسات رغم الحراسة المشدّدة عليها فـ"الصّعود إلى أعلى الساعة جرم كبير ومعصية لا تُغتفر وما حدث يومها مسألة تمسّ الأمن، والشرطة في مأزق. كيف يمكن أن تسيطر على الأمر والفضيحة تحدثُ أمام الجميع: أهالي وأجانب والبلاد في عزّ الموسم السياحي؟
يكاد الضابط يأكل وجه شرطي مهزوم وهو يسأله للمرة الألف: "كيف وصل ولد القحبة إلى هناك؟ أين كنتم يا بهايم؟ كيف تركتموه يقترب من السّاعة ويتسلّقها أيضا؟"
وفيما كنّا ننتظر بقيّة الأحداث وقد بدأت السخرية تسري في النصّ وتتولّد من صلب المفارقات التي يطفح بها هذا المشهد بين طبيعة الفعل وأبعاده وبين حجم الشخصيّة أعلى الساعة وحجم الحشود تحتها بل ومن دقّة وصف جهاز أمنيّ يحاول أن يستر عورتَه بعد أن عبث بغروره هذا الكائن الصغير، يقطع علينا الراوي هذه الضجّة ويترك بطله معلّقا، ولم ير منه شيئا "كائن صغير بحجم الإصبع"، ويعود بنا إلى ماضي هذه الشخصيّة ويصحبنا معه في رحلة للتعرّف إلى مسارها عبر سلسلة من الرواة هو إحدى حلقاتها في متاهة سرديّة أقرب إلى لعبة "البيزل" ففي كلّ مرّة يقدّم لنا جزءا من الشخصيّة ومرحلة من حياتها دون ترتيب تاركا لنا مهمّة تركيبها من جديد، فإذا نحن قبالة "صالح" الطفل في إحدى ديار الأيتام واللقطاء الذين اصطلح على تسميتهم بـ"أطفال بورقيبة" دلالةً على احتضان الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة لهذه الفئة المهمّشة في المجتمع التونسيّ." قبل ثلاثين عاما كانت دار الأطفال قبلة الأزواج الذين فقدوا الأمل في الإنجاب. يذهبون إلى هناك ليختاروا ما يناسبهم من اللقطاء أو الأيتام. مثل محل للروبافيكيا(بيع الملابس المستعملة-التحرير) يُعرض الأطفال من الدرجة الثانية يوم الأحد فيتطايرون إلى فوق بين أيادي الزائرين. كان هو كالمعطف الأسود الخشن في فصل الصيف ما من زبون يريده، يُركل أو يُحشر في زاوية أو يُلفّ كوسادة" ولكنّ محنة "صالح" لا تقف عند حدّ الجهل بالأبوين أو قضاء الطفولة الأولى في ملجإ أيتام، وإنّما تتجاوزه إلى لعنة اللّون، ولعنة التسمية. أمّا لعنة اللون فتتمثّل في سواد البشرة لذلك كان خلافا لأقرانه موضع صدّ من قبل الجميع ولم يقع تبنّيه إلاّ حين انعدم الاختيار في وجه "ساسية" وزوجها "عيّاد" وقد قدما من إحدى القرى النائية. وأمّا التسمية فلم تعد مصدر فخر لارتباطها باسم الزعيم بورقيبة وإنّما صارت مولّدا لجملة من المترادفات النابية ولعنة تلاحقه بين أترابه فـ"عندما عيّره أطفال القرية لأوّل مرة بأنّه من "أطفال بورڤيبة" ابتسم ابتسامة عريضة مثل ابتسامة بورڤيبة تماما وكأنه يؤكّد النسب. لكنّه لم يبتسم بعدها أبدا عندما انهالت عليه مترادفات العبارة:كبّول، ولد حرام، ملقوط، batard، فرخ. رأى ساعتها أسنان بورقيبة مثل قواطع وحش يتقدّم نحوه ليكسّر عظامه". إنّ هذه السمات التي أضفاها كمال الرياحي على شخصيّته المحوريّة وهو يتفنّن في نحتها هي التي جعلتها شخصيّةً مأزومة، قلقة، كافرةً بكلّ الأعراف والنواميس وقد تجلّى أوّل مظهر من مظاهر تمرّدها في إطلاقها الرصاص على قبر الزعيم بورقيبة وكأنّها تحاول أن تتنصّل بذلك من ذاكرة موبوءة أو في البول على قبر الأب في إشارة رمزيّة إلى قتله. ليتحوّل من طفل بورقيبة إلى "الغوريلا" وهي التسمية التي أطلقت عليه لما يعتمل في دخائله من عنف.
ولئن كان الراوي في هذا الأثر الإبداعيّ راويا عليما فإنّه لم يحكم قبضته على السرد بل فسح المجال إلى عدد من الشخصيّات لتسرد جانبا من سيرة صالح أو "الغوريلا" وهو ما أسهم من الناحية السرديّة في تعدّد زوايا النظر وكشف جملة من العلاقات الاجتماعيّة المعقّدة مثل "الجطّ" تاجر المخدّرات وخرّيج السجون الإيطاليّة سابقا أين تعلّم "فنّ البطرنة" و قطع عضو أحد المساجين بسكّينه أو "حبيبة" عشيقة "الغوريلا" التي "اختطفها من بين أحضان الجط عارية وفرش لها معطفه. ولم يغتصبها رغم أن الأمر كان في يده وهي لا حول لها ولا قوّة". أو شكيرا المثليّ الذي حاول التحرّش بصالح داخل قاعة السينما. ولعلّ الشخصيّة الأبرز من بين هذه الشخصيّات جميعا هي شخصيّة "علي كلاب" ضابط الأمن الذي تربطه بـ"الغوريلا" علاقة عداوة شخصيّة بعد أن رفض تقديم رشوة له ممّا يدرّه عليه عمله دون رخصة في حراسة موقف للسيّارات لذلك اعتبر علي كلاب "الذي روّع شطّار الجبل الأحمر وحي الزهور وروّض مجرمي الكبّارية وحي النّسيم والملاّسين" هذا السلوك تحدّيا لشخصه من قبل "مجهول أسود". ومنذ تلك اللحظة ستنعقد علاقة بين "علي كلاب" و"الغوريلا" لا محرّك لها سوى الحقد والكراهيّة ولا منطق يحكمها غير ثنائيّة الخفاء والتجلّي. ينمو حقد "علي كلاب" أو "عزرائيل كلاب" كما يحلو له أن يُنعت بعد حادثة موقف السيّارات فيكلّف سبعةً من المشبوهين ليقطعوا الطريق على "الغوريلا" ويشبعوه ضربا بالسلاسل والهراوات. بعدها يتمّ تنصيب "رشيد بوخا" بدلا من "الغوريلا" ولكنّ "بوخا" يُقتَل مطعونا في عرس أحد "البانديّة" من قِبل "رجل أسود غريب فرّ بعدها عبر سكة القطار"، فتعاظم حقد "علي كلاب" على "الغوريلا" ولم يتردّد في أن يزجّ باسمه "مع المطاردين من المتهمين في أحداث مدينة سليمان التي راح ضحيتها عدد غير قليل من الشرطة ومن الإسلاميين". بعد ذلك يكشف القضاء أن لا علاقة لـ"الغوريلا" بهذه الأحداث، ويجمّد "علي كلاب" في رتبتِه ويُوبَّخ من مرؤوسيه، فيبلغ حقده الذروة. وحين سيقع إخبارُه بقصة الرجل الأسود المعتصم فوق الساعة، سيقطع إجازته في طبرقة ويطير بسيارته نحو العاصمة. وهو نفسُه الذي سيتفنّن في تعذيبه ويتسبّب في موتِه عبر الصعقات الكهربائيّة في محاولة لإنزاله من أعلى الساعة.
لقد سخّر كمال الرياحي كلّ العوامل ضدّ بطله وكأنّه يحاول أن يضيء في كلّ مرّة صورة الضحيّة فيه، وسدّ في وجهه كلَّ سُبل ِ الخلاص فكان نتاجَ تواطئات شتّى، قدر قذفه في هذا العالم بغير أبوين، ومجتمع لفظه لخطيئة لا يد له فيها، ومؤسسة أمنيّة في أكثر وجوهها تغوّلا حاصرتْه وطاردته أينما حلّ، فلم يعد أمامَه من خلاص إلاّ الذهاب في المحنة إلى أقصاها والمعاناة إلى ذُراها البعيدة. وليس من باب الصدفة أن تتصدّر هذه الرواية جملةُ توماس سانكارا "أجد نفسي مثل من يركب درّاجة هوائية ويتّجه نحو القمة وعلى جنبيه جرفان… ليس أمامه سوى أن يدوس على الدوّاستين وإلاّ فإنّه سيسقط". ولئن كان "سانكارا" أو "تشي جيفارا إفريقيا" رمزَ المقاومة الإفريقيّة ووجهَها المضيء بعد تحرير بلادِه من الاستعمار الفرنسيّ وتغيير اسمها من "فولتا العليا"وهو الاسم الاستعماري القديم إلى "بوركينا فاسو" أو ما يمكن ترجمته بـ"بلد المستقيمين" فإنّ استدعاءَ خطابِه على عتبة هذا العمل الروائيّ له أكثر من دلالةٍ حين يتعلّق الأمر بتهافت كلّ الخيارات ما عدا خيار المقاومة، وكذلك كان شأن "صالح الغوريلا" عندما كفر بكلّ الضوابط والأغلال وتسلّق قمّة الساعةِ التي ترمز للنظام ولم يعد بإمكانه النزول. وهل من باب الصدفة أن يكون التصدير الثاني لـجان جينيه من كتابه يوميّات لصّ "كلّما كبر ذنبي في عيونكم.. صارت حريتي أكبر..!" فكلّما ازداد حصاره، صار أكثر تنصُّلا من المؤسّسة على اختلاف أشكالها، وخرج من المتماثل والمتشابه إلى الفريد. ولعلّ ما يلفت الانتباه ههنا هو تقاطع سيرة "صالح الغوريلا" في بعض تفاصيلِها مع سيرة جان جينه؟ فكلاهما نشأ في مؤسّسة اللقطاء، وكلاهُما قضّى حياتَه محاصرا، ناقما على كلّ السلط، فارّا من مكان إلى آخر. ولكنّ الأوّل وجدَ جون بول سارتر ليكتُب عنه كتابا كاملا في 690 صفحة بعنوان "ممثلا وشهيدا" ويتدخّل لدى رئيس الجمهوريّة للإفراج عنه بعد أن حكم عليه بالسجن مدى الحياة. ولم يجد الثاني غيرَ كمال الرياحي يرفعُه دليلَ إدانة في وجه سياسة القهر والتهميش. وإذا كان جينيه أقرب إلى المثقّف الوجوديّ على حدّ عبارة سارتر منه إلى "الغوريلا"، فقد جاء التصدير الثالثُ مباشرًا فظّا ألصقَ بالشخصيّة المحوريّة من التصديريْن السابقين. "آنا الحاكِمْ ما نِسْتَعْرَفِشْ بيهْ". بهذه العبارة الموجزة باللهجة التونسيّة لعلي شورّب أحد أكبر النماذج "clochard" في تاريخ تونس وذاكرتها الشعبيّة يضع الكاتب شخصيّتَه وجها لوجه أمام النظام. ولئن كانت عبارة "الحاكِمْ" في معناها التونسيّ المتداول تعني رجلَ الأمن فإنّ العربيّة توسّع من دلالتِها لتشمَل كلَّ أشكال الحكم والتسلّط بما في ذلك المجتمع والعادات والقيم لا المؤسّسة الأمنيّة فقط، أمّا العبارة الثانية "ما نِسْتَعْرَفِشْ بيهْ" أي "لا أعترف به" فقد وردت لتُحدّد طبيعة العلاقة التي تربط المتكلّم بالمؤسّسة وهي علاقة قوامُها النُكران إذ تخلع الذات عن هذه المؤسّسة كلّ شرعيّة وتعصف بوجودها نفسه. ولقد كانت هذه العلاقةُ في ما يخصّ "الغوريلا" معقودةً من الجانبيْنِ معا، فمثلما لفظتهُ المؤسّسة سيلفُظها، ومثلما رفضت اندماجه فيها سيرفض الانصياع لقوانينها. رفضٌ برفض ونكرانٌ بنكران وذلك منطق الأشياء.
توماس سانكارا، جان جينيه، علي شورّب، أصواتٌ ثلاثة فرّق بينها المكان (إفريقيا/أوروبا/تونس) والمجال (الدولة/الثقافة/الشارع) ولكنّها اجتمعت تحت راية واحدة هي راية التمرّد. الأوّل رمز الدولة تمرّد على الاستعمار الفرنسيّ المباشر وحين صار رئيسا لبلاده وسّع من تمرّده ليُناهض الإمبرياليّة العالميّة، والثاني رمزُ الثقافة الحرّة تمرّد على الثقافة الطوباويّة الراقية لأنّ الثقافة عنده فعلُ وجود واكتواء بنار التجربة. وتمرّد الثالث على صورة المجتمع للرجل المثال فغدا أنموذجَ الفقراء والمهمّشين في الأحياء الشعبيّة، على منوالِه ينسجون وحولَه يسردون الحكايات والأساطير. أصواتٌ ثلاثةٌ التقت عند عتبة الرواية فأضاءت جانبا من شخصيّة "الغوريلا" دون أن تكون مثالا لها، وتداخلت بها دون أن تطابقها. فليس للبطل وعيُ مناهضة الإمبرياليّة لدى سانكارا، ولا الوعي الوجوديّ لدى جينيه، ولم يكن يصدر في سلوكه العنيف عن رغبةٍ في أن يكون مثالا أو للفت الأنظار إليه مثلما هو شأن علي شورّب في مرحلة من حياتِه.
أصواتٌ ثلاثةٌ ينضاف إليها صوت كمال الرياحي حين ألغى في غمرة القصّ المسافة التي تفصله عن شخصيّته المحوريّة فأسبغ عليها من روحِه وكساها بعضَ ثقافتِه. ويبدو تدخّل الكاتب واضحا من خلال الوظيفة الميتاروائيّة إذ تنكفئ الكتابة السرديّة على ذاتِها وتصبح موضوعا لتقنيّاتها من خلال الإعلان عن تغيير الراوي "هناك في الأعلى لا يعرف ما يدور بعقل الغوريلا غيري. الراوي السابق ليس سوى بصّاص قديم لا يمكنه أن يخترق قلب الغوريلا وعقله، والرواة الآخرون مجرّد علامات طريق تاهت وتوّهت الراكبين". وفي الوقت الذي انتظرنا فيه الراوي الجديد ليَنقُلَ لنا ما يجيش في باطن "الغوريلا" من أفكار راوغنا فنقلَ لنا بعضَها وقفزَ لينقل لنا ما يجيش في خاطر سيّدِه السيّد كمال الرياحي وهو معلّق في مغارتِه المظلمة في رأس الجبل التي يرى من فوقها القرية صاغرةً أو في بيتِه في الطابق الثالث من منزله في إحدى عمارات المنزه. وإن أُسندت هذه الأفكار إلى "الغوريلا" فذلك من أحابيل السرد ومكائده. فمن أين لـ"الغوريلا" وهو معلّق في أعلى الساعة يفكّر في الانتحار أن يُعجَب بالمعنى المضيء لموت الروائي الأمريكي إرنست همنغواي؟ وهل له القدرة على استكناه البعد الرمزيّ لدى عَلَمٍ من أكبر أعلام الفلسفة الكلبيّة عند الإغريق؟ " يذكر برميل"ديوجين" كم فكّر في أن يعتصم احتجاجا على وجوده القسري في هذا العالم في برميل من الأحزان أمام ذاكرته وينتظر الإسكندر الأكبر ليسأله عن الشمس التي أكلها أو ربما وضعها في جيبه ورحل. وكم من الأرواح والأحلام التي وضعها في جيبه ورحل!" إنّ الذي يتذكّر هنا هو الكاتب لا الشخصيّة رغم إشارة الرياحي، على وعيه الحاد بالنسيج السرديّ وتفنّنه في اتّباع "الغرزة" حسب التعبير التونسيّ الدارج، إلى شغفِ بطلِه بالكتب حتّى يكون استحضار بعض معارفه طبيعيّا دون إسقاط. إذ جعل السجن بالنسبة إلى "الغوريلا" فضاء للقصّ وسرد الحكايات للحدّ من سطوة الإحساس بالزمان، وكانت الإصلاحيّة قبله في ظلّ غياب المدرسة فضاءً لإنماء الثقافة والتهام الكتب "كان بوخا في نظره سانكارا المغدور. الغوريلا يروي له حكايات مثيرة طوال الوقت. قال له إنّه أيام الإصلاحية كان يلتهم الكتب التهاما. كانت هناك مكتبة أجهز على كل ما فيها ثم بدأ يطلب من الحارس أن يبتاع له كتبا من نهج الدبّاغين مقابل بعض الدنانير".
رغم هذه الإشارة الذكيّة التي تبرّر من الناحية الفنّـيّة ثقافة الشخصيّة المحوريّة وتُطلعنا على مصادرها فإنّ المبالغة في تشكيل وعي هذه الشخصيّة ببعض المسائل واستحضار معارفَ مخصوصةٍ في بعض المواضع تجعلنا نذهب إلى أنّ المفكّر في تلك اللحظات الدقيقة من الرواية هو الكاتب لا الشخصيّة خاصّةً في ما يتعلّق بحكاية الفيلسوف الكلبي "ديوجين" مع "الإسكندر" فهي حكاية رمزيّة allégorieأعلق بحكاية كمال الرياحي مع بن علي، من حكاية "الغوريلا" مع "علي كلاب". لكنّ الشبَه الذي يجمع الكاتب بشخصيّته المحوريّة في ما يخصّ إحساسَها بالمحاصرة والتهميش هو الذي جعله حسب رأينا يضيف صوتَه إلى صوتِها وهي تعاني وحدَها أعلى الساعة.ولعلّه من المهمّ ها هنا أن نُذكّر بالسياق الذي نُشرت فيه المقاطع الأولى من هذه الرواية لأنّها كفيلة في اعتقادنا بإضاءة جوانب عديدة منها. ولا يعني ذلك طبعا أنّنا نساوي بين الكاتب والشخصيّة أو نعتبر الشخصيّة مرآةً عاكسة للكاتب، ولكن لقناعتنا بأنّ النصّ لا يُمكن أن يُختزل في بنية مغلقة على ذاتها حاملة لكلّ مراجعها في صُلبها، بل هو محكوم برؤية كاتبه وسياقات حافّة بهذه الرؤية. فبعد عشر سنوات من التجويع والمحاصرة قضّاها كمال الرياحي يبحث عن وظيفة في تونس رغم حصوله على شهادة الدراسات المعمّقة وخوضه تجربة استغرقت أكثر من ثلاث عشرَة سنةً في الصحافة الدوليّة. وبعد انسداد كلّ الآفاق في وجهه داخل بلاده بدأ الرياحي سنة 2009 في كتابة مجموعة من الرسائل إلى رئيس الجمهوريّة على شبكة التواصل الاجتماعي "فايسبوك" ذهب صوتُه فيها أدراج الرياح وتخلّت عباراتُه خلالها عن طابَعها الرسميّ من رسالة إلى أخرى لتأخذ منحى ساخرا انتهى إلى اقتناعِه بـ"أنّه رئيس جمهوريّة نفسِه" وقد تخلّلت هذه الرسائل على الشبكة ذاتِها مقاطع مطوّلة من رواية "الغوريلا" مذيّلة بعنوانها الفرعيّ "الكتاب السري لطفل بورقيبة الأخير" فيها إدانة صارخة للنظام. فليس من العجيب إذن أن يتداخل صوتُه بصوت شخصيّته المحوريّة، ولا من قبيل الاعتباط أن يسخّر عملَه للفئاتِ المهمّشة وفضح الواجهة المشرقة لنظام أنهكه استبداده وانقلب عليه حين تساوت الأضداد في نظر مواطنيه وصارت الحياة عندهم صنوا للموت. وبهذا المعنى اعتبرنا هذه الرواية مشروعا لنقل الثورة لأنّها سعت إلى نقل الغليان الذي يعتمل داخل الذوات في بلدٍ غدا معظمُ سُكّانه "أطفالَ بورقيبة" وصارت حدودُ الملجإ الدولةَ كلّها. ولأنّها سعت من الناحية الفنيّة إلى البحث عن شكل جماليّ يقول هذا الرعب دون أن يقعَ في فخاخ محاكاتِه. فكان الشكلُ أقرب إلى تقنية التقطيع السينمائيّ وهو ما خلخل المسار الخطيّ للسرد. وحضرت الشخصيّات بوصفها رموزا، فليس "علي كلاب" سوى رمز للمؤسّسة الأمنيّة التي استشرى فيها الفساد والعسف، وفي التسمية أكثر من دلالة. وليس "صالحْ الغوريلا" سوى رمز لمجتمعٍ جُرّد من معانيه وتصحّرت قيمُه فتحوّل من "صالح" إلى حيوان كاسر جريح "غوريلا" ولم يكن موتُه إلاّ موتا لمشاعر الرهبة والخوف من سلطة متجبّرة بعد أن عبث بغرورها على مرأى الجميع ومسمعِهم. "تتقدّم فجأة مجموعة من الجماهير نحو برج الساعة. نتقدم وراءها. نصرخ بلسان واحد"قتلة… قتلة"… تهجم الشرطة علينا بالهراوات والقنابل المسيّلة للدموع. نتقدم أكثر، نحاول تمزيق الغطاء البلاستيكي الأسود أين نفّذت الجريمة. تتهاطل علينا القنابل والعصي. تلتحق بالشرطة فرقٌ أخرى تهب من وزارة الداخلية القريبة، يطلقون النار في الهواء، يتساقط بعضُنا فوق بعض وهم يتوجهون نحو الساعة. يمزق آخرون الغطاء البلاستيكي فيمزّقهم الرصاص". سقط "الغوريلا" ومعه سقطت كلّ أقنعة النظام. سقط ونهض الشعب. ولكنّه نهض وقد صار آخَرَ بعدما أصبح القتلُ فعلا يُمارَس في وضح النهار وعلى مرأى الجميع. ومن رحم حركة السقوط ستنشأ حركة التسلّق من جديد ويبلغ التراجيديّ منتهاه بالانتقال من تراجيديا الذات إلى تراجيديا الجماعة فيأخذ الصراع طابعا شموليّا " تحت برج الساعة تماما ظهر الغوريلا محترقا. جثة متفحّمة في بركة من الدماء الخاثرة. تحمله مجموعة من الجماهير على أكتافها وتتشكّل مظاهرة صاخبة تتجه نحو وزارة الداخلية بينما يستولي أحد المتظاهرين على عربة الحماية المدنية يرفع سلمها نحو رأس الساعة. يتسلقها متظاهر آخر يرمي بحبل حول رأس الساعة وينزل، تتحرك الشاحنة لتسقط رأس الساعة القبيحة. تتطاير عقاربها في كل مكان محدثة هلعا بين المتظاهرين." إنّ البعد الرمزيّ في سقوط الساعة هو الذي سيحوّل خطاب الشهود من الإدانة "قتلة… قتلة…" إلى المطالبة بإسقاط أعلى هرم النظام ""بدأت الأناشيد تتوحّد منادية بإسقاط الرئيس الدكتاتور. لم نعد نسمع سوى نغم ٍ واحدٍ يردّد بالفرنسية: Dégage Dégage Dégage Dégage"" وعلى إيقاع هذا النغم ستنطلق مظاهرة بالآلاف في اتجاه شارع الحبيب بورقيبة تحت وابل الرصاص والغاز المسيل للدموع.
بهذا المشهد ينغلق المتن الروائيّ أو حكاية "الغوريلا" بعدما أشّر الكاتب على نهايتِها وتنفتح حكاية أخرى مدارها على شخصيّة الكاتب نفسه وهو ينقل لنا في شكل توثيقيّ أحداث الرابع عشر من جانفي. ولئن كانت وظيفة هذا الفصل الظاهرة متمثّلةً في العدول عن التخييل إلى التخييل الذاتي أسوةً بالمخرج البريطاني ألفريد هيتشكوك في أعماله السينمائيّة إذ يجعل من حضوره فيها ضربا من التوقيع شأن توقيع الفنّان على لوحتِه فإنّ لهذا العدول حسب رأينا وظيفة أكثر تعقيدا تتمثّل في تداخل المرجعيّ بالتخييليّ وهي السمة التي تتخلّل العمل كلّه وتشدّه من طرفيْه. فالمشهد الذي انفتحت به الرواية مشهد واقعيّ شهدته العاصمة التونسيّة في صيف 2009 وتناقله الناس على شبكة التواصل الاجتماعيّ فايسبوك ويتمثّل في إقدام أحد الشبّان على تسلّق ساعة السابع من نوفمبر وتهديده بالانتحار قبل أن يتمّ إنزاله وإعلامنا عبر الإعلام الرسميّ بأنّه مختلّ عقليّ ليس في سلوكه أيّ تهديد للأمن القوميّ أو نجاحات النظام المبثوثة في كلّ مكان. ولكنّ الرياحي لم يدع هذه الشخصيّة تغرق في المجهول الذي يلفّها وجعلها شخصيّة محوريّة في عمله بنحت معالِمها وإعادة تشكيلها من جديد لما اكتسبه الفعل الذي أقدمت عليه من رمزيّة مثّلت في نظره مؤشّرا على تصدّع النظام. ولم تكن أغلب شخصيّات العمل بمعزل عن هذا الإجراء فـ"علي كلاب" على سبيل المثال رجل أمن من لحم ودم كان لسيرتِه دويّ هائل في إحدى قرى سليانة. ولكنّ الكاتبَ انتشله من عالمه ذاك وزجّ به في قلب العاصمة فجرّده من وجوده المباشر وكساه حلّة رمزيّة بتحويله إلى كائن ورقيّ يرمز إلى تجبّر السلطة ويفضح فسادَها، وشتّان بين الشخصيّتيْن والعالميْن معا. أمّا المشهد الأخير من هذا الأثر فليس سوى نقل حيّ لبعض تفاصيل الحياة في تونس بدءا من الرابع عشر من جانفي نشرها الكاتب في صحيفة نييورك تايمز الأمريكيّة لم يكتفِ بدقّة ما ينقله فيها وإنّما أحالنا على المقال نفسه وقد أشار إليه في حديثه مع زوجته للإعلاء من وظيفة النصّ المرجعيّة" "http://www.nytimes.com/2011/01/19/o"…" وبين البداية والنهاية لعبة ماكرة في تشكيل عالم الرواية وقلب المعطيات صار الواقعيّ بموجبها خياليّا بعد أن تمّ انتشاله من فضائه وإقحامه في فضاء جديد، وأصبح الخياليّ واقعيّا حين اخترقته جملة من الأحداث الحقيقيّة أو جاورته مثل مشهد سقوط الساعة، وما تزال منتصبة في مكانها إلى اليوم، يليه مشهد احتشاد الجماهير أمام وزارة الداخليّة مطالبةً بإسقاط النظام وقد نقلته كلّ الفضائيّات. ولئن زجّ أغلب الروائيين بأنفسهم في قلب أحداث الثورة في كتاباتهم وهم يحاكونها محاكاة آليّة، فقد طرد الكاتب نفسه من قلب الحدث وقد كان هناك قبالة وزارة الداخليّة مع نخبة من الكتاب يردّدون ما يردّده بقيّة أفراد شعبهم وقد الْتحمت الأحلام والشعارات. إنّ التعالق بين الواقعيّ والخياليّ هو الذي أكسب هذه الرواية فرادتَها وأضفى عليها شعريّة عالية. ولكنّ قيمة الشعريّة ها هنا ليست في اللغة وإن تفنّن الكاتب في إجرائها إجراءً مخصوصا يلامس الشعر في كثير من المواضع، وتلوينها حسب المقام وتركيبة الشخصيّات. وإنّما تتحدّد قيمة الشعريّة في هذا الأثر من طاقتِه الإيحائيّة إذ أُفرغت الشخصيّات والأمكنة والأحداث من دلالتها المباشرة وصارت تعمل عمل الرموز، وغدت الرواية متكوّنة من طبقتيْن طبقة ظاهرة تشدّها إلى الواقع وتجعلها بالظرفيّ ألصق، وطبقة خفيّة تخلّصُها من أسر الواقع المباشر وتفتحها على مختلف القراءات. وهي من هذه الزاوية حكاية رمزيّة ممكنةٌ" allégorie contingente" ما كان لها لتتشكّل لولا تداخلُ الواقعيّ بالخياليّ. فحدثُ سقوط "الغوريلا" من أعلى الساعة متفحّما يضيء في الذاكرة حدث اشتعال البوعزي. فكلاهما من الفئات المهمّشة، والمطاردة في لقمة عيشها. سقط الأوّل وبعده سقط النظام، واشتعل الثاني فاشتعل بموته النظام. وسيرة "الغوريلا" تحيل إلى سيرة الكاتب في كثير من تفاصيلها فكلاهما مهووس بالتهام الكتب وسرد الحكايات، وقد ضاق كلاهما ذرعا بسياسة الإقصاء والتهميش وكلاهما معدوم النسب، الأوّل لقيط اجتماعيّ قذفته الأقدار في العالم بغير أبوين، والثاني "لقيط ثقافيّ" على حدّ عبارته في حوار أجرته له صحيفة عرابيا. وما كان لهذا التداخل لينشأ لو لم تكن الشخصيّات في الرواية أوعية التقطها الكاتب وأعاد شحنها فجعلها مفتوحة على كلّ الذوات.
إنّنا إزاء مشروع في الكتابة الروائيّة يعطف على ما يبدو مهملا من التفاصيل وعابرا من الأحداث ويعيد تشكيله دون أن يذوب في رحابه. كان مُنطلقه رواية "المشرط" حيث استدرج الكاتبُ إلى عالم السرد السفّاحَ الذي روّع النساءَ في مرحلة من حياة التونسيين بمشرطِه، وتفنّن في إعادة تشكيله. ولا نخال هذا العمل وإن اختلفت تقنيّاتُه إلاّ محطةً في هذا المشروع.