.
لعل أولى المسائل التي أرادت السلطة تصديرها وتعزيزها لدى الرأي العام هي نفيُها لاختزال النصر العظيم للثورة بقوى عسكرية محدّدة، سواء أكانت هيئة تحرير الشام أو سواها من القوى العسكرية، بل ما أرادت تأكيده على الدوام هو أن انتصار الثورة كان مُنجزاً أسهم فيه جميع السوريين، سواءٌ ممّن حمل السلاح أو تظاهر أو تشرّد وهُجّر، أو من ركب البحار، أو ممّن ناضل بالكلمة الحرة أو اعتُقِل، أو من الضباط والمسؤولين الذين أعلنوا انشقاقهم عن النظام وانحازوا لثورة أهلهم السوريين. ويأتي هذا الخطاب ليؤكّد أيضاً عدم الإقرار أو العمل وفقاً لمقولة "من يحرّر يقرّر"، التي طالما أرادت السلطة الحاكمة التبرؤ منها. إلّا أن واقع الحال يُفصح أن ظاهر هذا الخطاب يُضمِر سلوكاً آخر، يترجم ما هو مستورٌ في ثناياه، وهذا المستور ليس تكهّناً ولا ضرباً من التحليل أو الاستنتاج، بل هو وقائع تترجمها معظم التعيينات وإشغال المناصب وتولّي المسؤوليات والوظائف في جميع مرافق الدولة، والتي جاءت وفقاً لمبدأ "اللون الواحد" كما يُقال، وتعزيزاً لمفهوم الولاء على سواه من المعايير. وما وُجد مخالفاً لهذا النهج من استثناءات إنما هو من الشاذ الذي لا يفسد القاعدة بل يؤكّدها. ومن وجهة نظر شخصية، أرى أن هذا السلوك ليس بدعةً أو أمراً طارئاً في تاريخ الحركات التحررية والثورية التي وصلت إلى سدّة السلطة واقتصرت في إدارة الدولة على أعضاء من فضائها. حتى الأحزاب أو الكيانات السياسية التي وصلت إلى سدّة السلطة وفقاً للأعراف الديمقراطية، غالباً ما احتكرت المفاصل السيادية في إدارة الدولة لأعضائها أو المقربين منها. وأرى لو أن قيادة البلاد جاهرت بتلك المسألة، لكانت أكثر انسجاماً مع ذاتها وابتعدت عن التناقض الذي وقعت فيه، ولكن – وممّا لا يخفى على أحد – أن ثمّة ما يحول دون ذلك، أعني مجمل الاستحقاقات التي يشترطها الخارج الدولي، والتي قد تُلزم السلطة بإجراء بعض التطعيمات من ألوان أخرى تلبيةً لاشتراطات دولية ذات صلة بمسائل الاعتراف بشرعية السلطة.
يرى الإسلاميون أن مجمل الانتقادات التي تطول شيوع الشعائر الإسلامية لا يمكن اعتبارها سعياً نحو الأسلمة، ذلك أن المجتمع السوري ذو غالبية مسلمة، والشعائر الدينية هي حالة اجتماعية أكثر منها حالة دينية.
ما تؤكّده السلطة في ظاهر خطابها هو أن الآخر المختلف عنها شريك في الحكم، مهما كان انتماؤه الفكري أو العرقي أو الديني، ولكن المستور في هذا الخطاب يقول: إن السلطات المتعاقبة على الحكم، سواء في سوريا أو غيرها، هي في معظمها سلطات علمانية، وقد نكّلت بالإسلاميين شرّ تنكيل، وأودعتهم السجون لسنوات طويلة، وجعلت منهم فزّاعةً تستر توحّشها واستبدادها الذي فاق التصورات، فليس من المنطقي – والحال كذلك – أن تُتاح لهذه القوى من جديد المشاركة في الحكم والتسلّط، ليكون الإسلاميون هم ضحاياها مرة أخرى. فضلاً عن الحقيقة التي يجب أن يعلمها الجميع – وفقاً للإسلاميين – وهي أن القوى التي تتمثّل منها السلطة الحاكمة هي من أسقطت نظام الأسد، ولولاها لبقي العلمانيون وسواهم يكتفون بالمطالبة بتطبيق القرار (2254) ربما إلى سنوات مقبلة لا أحد يعرف كم تطول.
في الضفّة الأخرى، تسعى بعض القوى العلمانية (أحزاب وتجمعات وأفراد) إلى تصدير خطاب لا ينطوي على أي تحفّظ على حيازة الإسلاميين للسلطة وإدارتهم لحكم البلاد، مؤكّدين دائماً أن الجانب الجوهري في الأمر لا يكمن في "من يحكم"، بل في "كيف يحكم". واستناداً إلى ذلك، تتمحور مجمل انتقاداتهم للسلطة حول سعيها لـ**"أسلمة الدولة"**، فيمضي العلمانيون في إحصاء جزئيات هذا المسعى نحو الأسلمة بكل دأب وجهد، ابتداءً من اللحية واللباس وافتتاح الكلام بالبسملة، وشيوع بعض المصطلحات التي يستخدمها الإسلاميون، كلفظة "شيخ"، مروراً بتتبّع أنشطة بعض الجماعات الدعوية في الأماكن العامة وتدخّلها في الشؤون الخاصة للمواطنين. إذ يصرّ العلمانيون على أن هذه الجماعات تنشط في ظل حماية السلطة وتشجيعها، خلافاً لما تروّجه السلطة من تبرّؤها من هكذا جماعات. كما يحرص العلمانيون على تعقّب أية حادثة في أي بقعة من الجغرافيا السورية (كحوادث الخطف أو الاغتيال أو السطو أو الانتقام) بشكل يومي، وإن لم يجدوا خبراً جديداً، عادوا إلى خبر سابق لإعادة الحديث فيه من جديد. ويدّعي أصحاب هذا المنحى أن جميع هذه الممارسات ليست عبارة عن سلوكيات فردية كما تزعم السلطة، بل هي ممارسة ممنهجة – وفقاً للعلمانيين.
في حين يرى الإسلاميون أن مجمل الانتقادات التي تطول شيوع الشعائر الإسلامية لا يمكن اعتبارها سعياً نحو الأسلمة، ذلك أن المجتمع السوري ذو غالبية مسلمة، والشعائر الدينية هي حالة اجتماعية أكثر منها حالة دينية، والمطالبة بتحييد تلك الشعائر وحصرها في دور العبادة فحسب، إنما هو سعيٌ لتجفيف القيم الإسلامية من المجتمع السوري، وهذا اعتداء صارخ على العقيدة، فضلاً عن كونه مستحيل التحقق.
ولعل الأهم من ذلك، بل الأكثر خطورةً في حديث الجماعات العلمانية، هو أنها تُحيل سقوط نظام الأسد إلى بواعث دولية خارجية، مؤكّدة أن ما قامت به القوى الإسلامية العسكرية لا يعدو أكثر من تنفيذ لإيحاءات خارجية. وهي ترمي بذلك – بالطبع – إلى تجريد القوى الإسلامية من أي دور فعّال في إسقاط نظام الأسد.
لعل ما هو ثابت أننا حيال خطابين متناقضين في الشكل، ومتماثلين في الفحوى، من جهة أن كلاً منهما يحاول مصادرة الوعي العام للجمهور من خلال اختزال المشهد بما تراه عينه فقط.
واقع الحال يشير إلى أن الظاهر في خطاب العلمانيين يُحيل إلى نقد سلوك السلطة وممارساتها، ولكن المستور في هذا الخطاب، والذي لا تقوله القوى العلمانية صراحةً ولكنه ماثل في مجمل مواقفها، هو أن وجود قوى إسلامية في سدّة السلطة مسألة مرفوضة بالأصل، وذلك بغض النظر عن طبيعة الحكم والدستور وبقية الاستحقاقات الأخرى. بل إن ثمّة تطيّراً من أي ملمح إسلامي، سواء في المجتمع أو الدولة، وذلك بذريعة أن السلطة الحالية تنحدر من خلفية دينية جهادية. ولكن هذه السلطة ذات المرجعية الدينية، والتي لا تحظى بثقة العلمانيين بل هي موضع ريبة ورفض، مطلوب منها في الآن ذاته – وفقاً للقوى والجماعات العلمانية – أن تفرض سيطرتها على كامل الجغرافيا السورية، كما عليها تأمين السلامة والأمن لكافة المواطنين، فضلاً عن تأمين كامل الخدمات الضرورية، كما عليها التصدّي للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على البلاد. هذا كله ينبغي أن تُنجزه السلطة بعد ستة أشهر فقط من تسلّمها لمقاليد الحكم، أي عليها أن تنفخ في الخراب الأسدي نفخة سحرية فيستحيل الخراب إلى ازدهار عظيم، ولأنها لم تفعل، ولن تستطيع ذلك، فهي دولة فاشلة.
ويمكن إيجاز ما يريده العلمانيون بما يلي:
لا مانع، أو لا بأس، إن أسقط الإسلاميون نظام الأسد، ولكن مذ ذاك عليهم العودة إلى مساجدهم وبيوتهم، حاملين معهم أفكارهم وتصوراتهم التي لا ينبغي لها الحضور في المشهد العام، كما عليهم التنحّي كلياً عن مسائل الشأن العام، لإتاحة المجال للقوى العلمانية التي هي الأجدر في حكم البلاد وإدارة شؤون الدولة، وباعتبارها الطرف الأجدر – أيضاً – بالوصاية على مسائل الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الحداثة.
لعل ما هو ثابت أننا حيال خطابين متناقضين في الشكل، ومتماثلين في الفحوى، من جهة أن كلاً منهما يحاول مصادرة الوعي العام للجمهور من خلال اختزال المشهد بما تراه عينه فقط، وليس من خلال الواقع كما هو بكليّته وشموليّته. ولعل مبعث هذا التناكف بين طرفَي الخطاب هو أن أحدهما يعدّ ذاته صاحب منجز كبير، تجلّى بالإطاحة بنظام الإجرام الأسدي، وهو بالفعل كذلك، فاستبدّت به زهوة النصر، التي ربما تحوّلت إلى حافز من الغرور، الذي يوهم صاحبه بأنه هو الوحيد الصانع لمنجزه، وبموجب هذا الرصيد يمكن له التغافل أو التجاهل لأي استحقاق داخلي ذي صلة بمصالح وحقوق المواطنين، الذين عليهم ألّا يفارقوا الشعور بالفضل الغامر للسلطة التي خلّصتهم من النظام الغاشم. في حين أن الطرف الآخر قد أخفق في تحقيق أي منجز ذي أثر مباشر، ولكنه يرفض الإقرار بإخفاقه، ويصرّ على التلطّي خلف خطابٍ متعالٍ على الجميع، موازاة مع نزعة شديدة نحو الاكتفاء بالتنظير المجرّد. وحيال هذا التلاطم بين غرور الطرف الأول ومكابرة الطرف الآخر، يصبح السوريون أمام مناخٍ شديد الخصوبة بالتكهنات حول مستقبلهم الغائم.
-----------
تلفزيون سوريا