وأظهر الفيديو الأخير تحولاً لافتاً في موقف الفصيل، إذ أكد قائده شادي أبو لطيف على كلام الشيخ موفق طريف بأن "السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا الواحدة الموحدة"، متجنّباً ذكر اسم الشيخ الهجري نهائياً، في إشارة إلى تصدّع داخلي وتمرد ضمن الصفوف التي كانت سابقاً محسوبة عليه. ويُنظر إلى هذا الموقف على أنه تحول رمزي مهم في المشهد السويدائي، إذ يعكس بداية انقسام داخل الفصائل المسلحة نفسها حول مستقبل المحافظة وموقعها من الدولة السورية، بعد تراجع الدعم الخارجي، وخصوصاً الإسرائيلي، الذي كان يُعوّل عليه لإدامة مشروع الانفصال..
وقال الخبير في العلاقات السورية الإسرائيلية خالد خليل إن "ملف السويداء يتجه نحو الحلحلة، وإن كان بشكل بطيء، مع تفكيك شبكات التوظيف السياسي التي حاولت استجرار العدو الإسرائيلي وتدويل الجنوب، واستدعاء سيناريوهات الانفصال والسلخ عن الوطن"، مؤكداً أن "هذه الخطوة تعكس إدراكاً متزايداً لدى الفاعلين المحليين بأن رهاناتهم على الدعم الخارجي قد سقطت".
وأضاف خليل في حديثه لـ"قدس برس" أن "الهجري فقد أوراقه الداخلية مع توجه الملف نحو التهدئة، وذلك نتيجة سياسة الاحتواء وضبط النفس التي تنتهجها دمشق، رغم إصراره على المقامرة بمصير المحافظة واستغلال حالة الغليان الشعبي بعد أحداث تموز الماضي، متجاهلاً التحذيرات التي تلقاها من إسرائيل ومن موفق طريف قبل شهرين".
وأشار إلى أنه "بعد اجتماع باريس 2 بين وزير الخارجية أسعد الشيباني ورونديرمان ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، خرج بيان من دمشق وأكدته الصحافة الإسرائيلية بأن الطرفين اتفقا على وحدة الأراضي السورية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والذهاب نحو التهدئة"، مضيفاً أن "دمشق استطاعت عبر دبلوماسيتها النشطة سحب ورقة السويداء من يد إسرائيل التي حاولت استغلالها عبر بوابة حماية الأقليات".
وأوضح خليل أن "الهجري هو من قدم شماعة حماية الأقليات لإسرائيل دون حسابات وطنية، وهذه سياسة تفتقر إلى الصوابية، ولا تزال تخدم مشاريع اليمين المتطرف في إسرائيل، الذي يروّج منذ عقود لمخططات تفتيتية مثل دولة باشان وممر داوود".
ولفت إلى أن "هذه المشاريع ليست جديدة، بل تمتد جذورها إلى خطة يانون التي طرحها الدبلوماسي الإسرائيلي عوديد يانون عام 1982 لتفتيت سوريا عبر تأجيج النعرات الطائفية"، مضيفاً أن "إسرائيل اليوم تقود حكومة هي الأكثر يمينية وتطرفاً في تاريخها، بشهادة دوائر صنع القرار الغربية، في ظل سيطرة التيار الديني الصهيوني على المشهد السياسي".
وقال خليل إن "هذه المشاريع الأيديولوجية مرتبطة أيضاً بأسباب شخصية لدى نتنياهو الذي يواجه أزمات داخلية عميقة وانقسامات بين المستوى السياسي والعسكري، وغلياناً شعبياً متصاعداً منذ ما قبل حرب غزة"، مشيراً إلى أن "خطة التعديلات القضائية التي طرحها العام الماضي كانت انعكاساً لمحاولته الهيمنة على مفاصل الدولة وتحقيق مكاسب سياسية على حساب الاستقرار الداخلي".
وأضاف أن "تغييب شادي أبو لطيف لاسم الهجري، الذي انجرت إليه نخب سياسية وأحزاب كانت معارضة للنظام، يعكس إدراكاً متزايداً داخل السويداء بفداحة المغامرة بمصير المحافظة لصالح أطراف خارجية معادية، في مقدمتها إسرائيل التي أثبتت التجربة أنها لا تتخلى عن مصالحها ولا تقدم دعماً مجانياً لأي جهة".
وأكد خليل أن "الأطراف الفاعلة في السويداء تمر اليوم بحالة من التخبط وعدم اليقين، بعدما اكتشفت أن خطاب الانفصال لم يحقق سوى عزلة داخلية وتصدعات اجتماعية، بينما استطاعت دمشق عبر الصبر السياسي والاحتواء أن تحيد كثيراً من القوى المحلية عن الصدام المباشر".
ولفت إلى أن "الهجري حاول احتكار القرار في المحافظة رغم وجود زعامات أخرى كالحناوي والجربوع، في حين أن موفق طريف، الزعيم الروحي للطائفة في فلسطين المحتلة، قال له بوضوح بعد اجتماع باريس 2: لا طريق إلا إلى دمشق"، مشيراً إلى أن "الهجري أعجبه لعب دور الزعيم فتمادى في أوهامه بإقامة كيان خاص، وهو ما أفقده توازنه السياسي".
وأضاف أن "سلوك الهجري يعكس انسجاماً غير معلن مع الأيديولوجية الإسرائيلية التي تقوم على إقامة نظم أقلوية تدور في فلك إسرائيل، وهذا ما يفسر الترويج لمشاريع التقسيم في سوريا تحت غطاء الفدرالية أو حماية الأقليات"، موضحاً أن "إسرائيل حاولت تسويق تلك المشاريع منذ الثمانينات، لكنها تعود اليوم بشكل جديد يتناسب مع مصالح حكومة نتنياهو التي تبحث عن متنفس سياسي في ظل الضغوط الداخلية والدولية".
وقال خليل إن "سياسة دمشق في المقابل قائمة على التهدئة وضبط النفس وإعادة احتواء المكونات المحلية دون صدام، وهي سياسة بدأت تؤتي ثمارها تدريجياً من خلال تفكك البنى التي كانت تستأثر بالقرار داخل السويداء"، مشيراً إلى أن "المرحلة الحالية تشهد تقارباً حذراً بين الدولة وأبناء المحافظة عبر قنوات مدنية وإدارية وأمنية متوازية".
وأضاف أن "محاولة الهجري وإسرائيل استغلال المرحلة الانتقالية في سوريا مستمرة، لكنها تصطدم بالدبلوماسية النشطة التي تبديها دمشق، وبالإجماع الإقليمي الداعم للتجربة الجديدة في سوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع"، لافتاً إلى أن "زيارة الشرع المرتقبة إلى البيت الأبيض في العاشر من هذا الشهر ستكون محطة مفصلية في مسار التهدئة الإقليمية، إذ من المقرر أن تتناول الملفات الأمنية المشتركة وفي مقدمتها الجنوب السوري".
وأكد خليل أن "أهالي السويداء باتوا يدركون أن محافظتهم لا تمتلك الشرعية الأخلاقية ولا السياسية ولا الاجتماعية للقطيعة مع دمشق، وأن أي محاولة للانفصال ستؤدي إلى عزل المحافظة عن عمقها العربي والإسلامي"، مضيفاً أن "العقل السياسي في السويداء يميل اليوم إلى التهدئة والبحث عن حلول داخل إطار الدولة".
وختم بالقول إن "سياسة الاحتواء التي تنتهجها دمشق أثبتت فعاليتها، إذ نجحت في سحب الذرائع من أيدي الخارج، وتحويل الجنوب السوري من منطقة رمادية إلى مساحة حوار وطني خاضعة لمنطق الدولة، وهو تحول جوهري يشير إلى نهاية مرحلة الانفصال وبداية عودة السويداء إلى حضن الوطن".
من جانبه، قال رشيد حوراني الباحث في مركز جسور للدراسات إن "المشروع الإسرائيلي المعروف بممر داوود وُلد ميتاً، لأنه جاء بالتزامن مع تطورات الساحة السورية ومحاولة الكيان الإسرائيلي تهدئة مخاوفه من الإدارة الجديدة في دمشق بادعاء دعم بعض المكونات"، مضيفاً أن "الدمج المتسارع للإدارة السورية الجديدة في البنية الأمنية الإقليمية والدولية جعل المشروع يلفظ أنفاسه الأخيرة".
وأشار حوراني في حديثه لـ"قدس برس" إلى أن "الفساد داخل الفصائل وعدم وجود أرضية اجتماعية داعمة لها، إضافة إلى صمت الشارع السويدائي، كلها مؤشرات على ضعف هذه المشاريع"، موضحاً أن "الزعامة التقليدية التي يمثلها الهجري تواجه تمرداً واضحاً حتى داخل مشيخة العقل، إذ تُصدر البيانات من دون توقيع الشيخين الجربوع والحناوي".
وأضاف أن "الحكومة السورية تعمل على إعادة دمج السويداء تدريجياً ضمن مؤسسات الدولة، من خلال التواصل مع الجهات العسكرية والمدنية كمديريات التربية والكهرباء والمياه والمطاحن، لتفريغ ظاهرة الهجري دون مواجهة مباشرة"، مقدّراً أن "عملية الدمج ستستغرق نحو ستة أشهر".
وختم حوراني بالقول إن "هذه التحركات ليست مناورة، بل مسار حقيقي لعودة مؤسسات الدولة إلى المحافظة، ويتضح ذلك في قرارات جامعة دمشق القاضية بدوام طلاب السويداء في فروع الجامعة داخل المدينة، في مؤشر واضح على استعادة الدولة لسلطتها تدريجياً".
وتُظهر المعطيات أن السويداء تسير نحو التهدئة، مع تفكك الفصائل التي تبنت خطاب الانفصال وتراجع نفوذ الشيخ حكمت الهجري. وبينما تنجح دمشق بسياسة الاحتواء في إعادة المحافظة إلى إطار الدولة، تبدو مشاريع التفتيت الإسرائيلية، وفي مقدمتها “ممر داوود”، وقد فقدت أدواتها ، لصالح استقرار سياسي قد يعيد الجنوب السوري إلى توازنه الطبيعي.
-------------
قدس برس


الصفحات
سياسة








