نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التانغو" فوق حطام المنطقة

22/05/2025 - عالية منصور

واقع الديمقراطية في سورية الجديدة

09/05/2025 - مضر رياض الدبس

(سوريا بين حرب أهلية ومشاريع تقسيم؟)

05/05/2025 - عبدالوهاب بدرخان

دلالات التصعيد الإسرائيلي في سوريا

04/05/2025 - العميد المتقاعد مصطفى الشيخ

السياسة المزدوجة

25/04/2025 - لمى قنوت


في تمظهرات الطائفية وهشاشة الدولة





كُتب هذا المقال في ضوء صدور بيان عن مجموعة من المثقفين العلويين في المغترب، تضمن دعوة صريحة لحماية دولية، وإدارة مؤقتة، واستفتاء على الحكم الذاتي، في سياق ما وصفوه بحملة إبادة وتهميش ممنهجة. لا يتناول المقال البيان بوصفه حالة منفصلة، بل كأحد تمظهرات أزمة أعمق تتعلق بغياب الدولة الحيادية، وفشل النخب السياسية السورية في إنتاج توازن شامل داخل البنية الوطنية، مما يدفع بالمجتمع إلى البحث عن ضمانات خارج هذا الإطار المنهار.


  لماذا يفشل الساسة في فهم أصول اللعبة السياسية؟

كُتب هذا المقال في ضوء صدور بيان عن مجموعة من المثقفين العلويين في المغترب، تضمن دعوة صريحة لحماية دولية، وإدارة مؤقتة، واستفتاء على الحكم الذاتي، في سياق ما وصفوه بحملة إبادة وتهميش ممنهجة. لا يتناول المقال البيان بوصفه حالة منفصلة، بل كأحد تمظهرات أزمة أعمق تتعلق بغياب الدولة الحيادية، وفشل النخب السياسية السورية في إنتاج توازن شامل داخل البنية الوطنية، مما يدفع بالمجتمع إلى البحث عن ضمانات خارج هذا الإطار المنهار.

توطئة:

في لحظة الانهيار، لا يعود المواطن معنياً بالمطالبة بحقوقه كمواطن، بل بالحفاظ على بقائه كفرد، أو كمنتمي إلى جماعة. عندما تغيب الدولة أو تتخلّى عن واجبها في أن تكون مظلّة جامعة، فإن الناس يلجأون إلى هوامشها. وهذا الهامش غالباً ما يكون طائفياً، إثنياً، عشائرياً، مناطقياً أو جهوياً.

الطائفية، في هذا السياق، ليست خياراً أيديولوجياً بقدر ما هي نتيجة طبيعية لغياب التمثيل العادل، ولانكفاء الدولة على خطابها الأحادي. ولتفسير ذلك، نحن بحاجة إلى لغة سياسية جديدة، أكثر صدقاً في مقاربة التمزق السوري، وأقل إنشائية من خطاب الوطنية الزائفة.

أول ما يجب استيعابه هو أن الحياد المؤسساتي تجاه الطوائف والمذاهب والإثنيات ليس ترفاً ديمقراطياً، بل شرط تكويني لوجود الدولة نفسها. الدولة التي تميل لهوية بعينها، أو تُنتج خطابها السياسي من داخل مذهب واحد، لا تعود دولة للجميع، بل جهازاً وظيفياً لحماية مصالح جماعة بعينها، ولو كان ذلك على حساب السردية الوطنية العامة.

صلب الموضوع:

ثم يأتي ما هو أعمق من ذلك: مبدأ التوازن بين السلطات، أو ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ Checks and Balances. هذا المفهوم لا يقتصر على توزيع الصلاحيات بين مؤسسات الدولة الثلاث (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، بل يتجاوز ذلك ليشكّل فلسفة شاملة في إدارة القوة داخل الدولة.

السياسة ليست آلية حُكم، بل إدارة لتوازنات متغيرة. المجتمع ليس كياناً ثابتاً، بل فضاء ديناميكياً تتبدّل فيه مواقع القوى والمصالح والولاءات. وعليه، فإن أجهزة الدولة، إذا أرادت الحفاظ على الاستقرار، يجب أن تُحدّث نفسها بشكل دوري، فتُعيد تشكيل هياكلها بما يتسق مع التحولات الاجتماعية والسياسية.

عندما تظهر قوة اجتماعية أو سياسية جديدة، يجب احتواؤها ضمن هياكل الدولة، لا تجاهلها أو قمعها أو تحييدها. لأن إخراج أي قوة فاعلة من منظومة التمثيل الداخلي يحوّل السياسة إلى ما يشبه العلاقات الدولية: تفاوض من خارج الدولة، لا من داخلها، وتوازنات قوة لا تخضع لقانون أو عقد اجتماعي. وهذا هو الشكل الأوّلي للتفكك.

من هذا المنطلق، فإن البيان الذي صدر مؤخراً عن نخبة من المغتربين العلويين، والذي طالبوا فيه بالحماية الدولية، والإدارة المؤقتة، بل والاستفتاء على الحكم الذاتي، يجب ألا يُقرأ من زاوية النوايا، بل من زاوية السياق.

لم يصدر البيان من فراغ، ولم يكن وليد نزعة انعزالية، بقدر ما هو تعبير عن يأس سياسي من بنية لم تعد قادرة على تقديم الحد الأدنى من الضمان للمواطن، فضلاً عن الجماعة.

ليس من الصدفة أن تصدر مثل هذه البيانات في وقت أصبح فيه الشأن العام السوري يُدار من الخارج. لم تعد النخب السورية، على اختلاف مواقعها، تمارس السياسة من داخل مؤسسات الدولة، بل من داخل فنادق، سفارات، منصات إقليمية. ولم تعد أطراف الصراع الداخلي ترى في الداخل السياسي مجالاً للعمل أو التفاوض.

وهذا، في ذاته، مؤشر على هشاشة الدولة، لا على قوة الخارج. الدولة التي تفقد قدرتها على تنظيم التوازنات داخل مؤسساتها، ستجد نفسها عاجلاً أم آجلاً تتعامل مع قواها الداخلية كأنها كيانات أجنبية. وحينها، لا تعود الطائفية هي المشكلة، بل النتيجة.

الخطاب الذي يحمّل جماعة بعينها مسؤولية الطائفية يغفل عن أن الطائفية ليست مشروعاً تبنيه جماعة لنفسها، بل ردة فعل على انعدام الأمان السياسي. لا يكفي أن ترفع الدولة شعار المواطنة؛ عليها أن تترجمه إلى تمثيل، وحماية، وعدالة. وإلا، فإن الانتماء الوطني سيتآكل من الداخل، وسيتحول كل مكوّن إلى مشروع دولة موازية.

الطائفية لا تبدأ من الناس، بل من شكل الدولة. والمجتمع لا ينكفئ على نفسه إلا حين يشعر أن المركز لم يعد معنيّاً به. الذين يطالبون اليوم بإدارة دولية أو حماية أممية أو حتى حكم ذاتي، لا يفعلون ذلك لأنهم يكرهون سوريا، بل لأنهم لم يعودوا يرون أنفسهم في سوريا التي تُدار الآن.

إذا كانت الدولة فعلاً هي الإطار الذي يُحتوى فيه التعدد، ويُدار فيه الاختلاف، وتُوازَن فيه القوى، فإن أي خلل في هذا الإطار سينتج تلقائياً بدائل عنه. وكل بديل هو خطوة نحو التشظي، مهما حمل من شعارات مضادة.

النتيجة: السياسة، في جوهرها، ليست مشروع هوية، بل مشروع توازن دائم. وكل من لا يفهم ذلك، لا مكان له في العمل العام، لأنه ببساطة يشتغل ضد الدولة إن كان يدري أو لا يدري.

 

عزت بغدادي
الخميس 22 ماي 2025