تدلّ التنميطات المناطقية الساخرة في سوريا على انقساماتٍ قديمةٍ وشعورٍ متراكمٍ بالتهميش أو التفوّق..
فيما وراء مظهر العفوية، تمثّل وسائل التواصل الاجتماعي في سوريا اليوم فضاءً يعيد تشكيل الرموز والهويات تعبيراً عن تاريخٍ طويلٍ من الهرمية الثقافية والتهميش. وترتبط الظاهرة بجذور العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبنشأة المدن السورية الحديثة والسياسات التي عمّقت الفجوة بين المركز والأطراف. بدءاً من المزحة الرقمية ومروراً بتاريخ التحضّر السوري ووصولاً إلى تحوّلات الحراك الشعبي في السنوات الأخيرة، يمكن قراءة هذا المشهد السوري على وسائل التواصل الاجتماعي لا بوصفه أزمة تواصلٍ فحسب، بل باعتباره يؤدّي وظيفةً رمزيةً تعيد إنتاج علاقات الهيمنة وتخفي العنف الاجتماعي تحت غلاف المزاح. كذلك يمثّل المشهد صراعاً على الاعتراف والموقع، وتعبيراً عن إشكاليةٍ مزمنةٍ في تشكّل الدولة الحديثة.
تشرح نظرية الهوية الاجتماعية، التي وضعها عالما النفس الاجتماعي هنري تاجفيل وجون تيرنر سنة 1979، أن الفرد يسعى غريزياً إلى الانتماء لجماعةٍ تمنحه شعوراً بالقيمة وتعزيز الذات. في العادة يستثمر الفرد عاطفياً وذهنياً في الانتماء لهذه الجماعة، وهو ما ينمّي لديه تحيّزاً إيجابياً تجاهها، ونظرةً إيجابيةً لذاته عضواً فيها. في المقابل، يقلّ تماهي الفرد مع من هم خارج هذه الجماعة. وقد يتحوّل هذا في أحيانٍ كثيرةٍ لتحيّزٍ سلبيٍّ يحكمه التنميط والنظرة الاستعلائية تجاههم. تصبح صورة الفرد الإيجابية عن نفسه وجماعته أساساً لهويته، ومعها يُمسي الطعن بهذه النظرة للذات، أو التقليل من شأنها، طعناً بهوية الجماعة.
ومن هنا، فإن أيّ استهزاءٍ بلهجةٍ أو منطقةٍ يُعَدّ مساساً مباشراً بالهوية الجمعية لأصحابها. وهو ما قد يفسِّر ردود الفعل الحادّة التي يثيرها منشورٌ على وسائل التواصل الاجتماعي يبدو للوهلة الأولى مجرّد دعابة. يتعلق الأمر هنا بفهمٍ جمعيٍّ ضمنيٍّ لدى المتلقّين المستهدَفين، مفاده أن "النكتة" هذه ليست بريئةً، وإنما محاولةً لإعادة ترسيم علاقات قوةٍ تاريخيةٍ أو ترسيخ تفوقٍ طبقيٍّ أو جغرافيٍّ لطرفٍ على حساب آخَر. بهذا تتجاوز الصور النمطية، من قبيل "الريفي الساذج" أو "التاجر الحلبي" أو "الحربوق الشامي"، حدود الدعابة إلى ما يشبه أدواتٍ ثقافيةً لإعادة إنتاج السلطة.
يؤطِّر عالم الاجتماع ستيوارت هول هذه الظاهرة فيما أسماه "نظرية التمثيل". ترتكز النظرية على أن التمثيلات في الإعلام – لجنسٍ أو نوعٍ أو مجموعةٍ بشريةٍ ما – ليست محايدةً تماماً أو بريئةً، بل نتاج تصوراتٍ نمطيةٍ عن "الآخَر". لا تخلق هذه التمثيلات بحدّ ذاتها الانقسام بين "هم" و"نحن"، أي بين مجموعةٍ وأخرى. لكنها تثبّته بلغةٍ رمزيةٍ يسهل تداولها، وتغلِّف عنفها بصيغةٍ "طبيعية". عبر هذه التمثيلات النمطية، يصبح "الآخَر" في الفضاء العام أشبه بشخصيةٍ كاريكاتيرية متكرّرة الاستخدام وتُستبدَل ماهيّته بصورةٍ منمّطةٍ مشوّهةٍ تبدو وكأنها الحقيقة، ما يجعل تحقيره أو السخرية منه أمراً شبه بديهيٍّ ومقبول.
بالنظر لصور التنميط الاجتماعي وبتطبيقها على الفضاء الرقمي، تقول الباحثة في التواصل الرقمي أليس مارويك في كتابها "ستاتس أبديت" (تحديث الحالة) المنشور سنة 2013 إن ما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي لا يقتصر على الترفيه أو التعبير العفوي. بل يشكّل، كما في الواقع المادّي، فعلاً اجتماعياً يُستخدَم لتأكيد الهوية واستعادة الكرامة، أو استهدافاً علنياً لشخصٍ ما أو جماعة. فالمزحة هنا، أو التعليق الساخر، قد تبدو سطحية. لكنها في الحقيقة تُستخدَم لترسيخ موقعٍ معيّنٍ داخل الجماعة، وللتمييز بين من يُعَدّ "واحداً منها" ومن يُنظر إليه باعتباره "آخَر" غريباً أو مرفوضاً. وهو ما يبدو تطبيقاً في الفضاء الافتراضي لما طرحه تاجفيل وتيرنر في نظرية الهوية الاجتماعية.
ولا ينتهي التقسيم الاجتماعي والتنميط بمجرد الكلمات المنشورة. تُسهم خوارزميات المنصات الرقمية – مثل فيسبوك وإنستغرام – أيضاً بتعزيزه عن طريق "الإيموجيز"، وهي الرموز التي تعبّر عن التفاعل العاطفي مثل الضحك أو الغضب. تُضحِك المزحة بعضَ الناس ويبرِزون هذا بصرياً باختيار إيموجي ضاحك، فتمنحهم شعوراً بالقوة والتفوق، خصوصاً لو شاركهم آخَرون هذا التعبير. بينما يُقصَى أو يهمَّش آخَرون، ما يجعل السخرية وسيلةً خفيّةً لإعادة إنتاج علاقات القوة داخل الفضاء الرقمي. ناهيك عن ما تحمله هذه السخرية، على ما يبدو فيها من عفويةٍ، من تَتْفِيهٍ لقضايا اجتماعيةٍ غايةٍ في الجدّية في جوهرها. تتحوّل معها "التفاهة" في الفضاء الرقمي إلى نوعٍ من العنف الرمزي الناعم، على حدّ وصف الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه "لا ميديوكريتي" (نظام التفاهة) المنشور سنة 2015.
وفي الحالة السورية، قد تبدو النكتة على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تسخر من لهجةٍ أو لباسٍ أو نمط حياةٍ معيّنٍ، "دعابة". لكنها في الواقع تعبيرٌ عن انقسامٍ اجتماعيٍّ بين "نحن وهم"، على حدّ تعبير تاجفيل وتيرنر. تعيد هذه الدعابة ترسيخَ تفوّقٍ رمزيٍّ للمدينة على الريف، وللمركز على الأطراف، دون أن تترك مساحةً للاعتراض أو النقاش تحت حجّة عدم الجدية. وبهذه الطريقة لا تمارَس الهيمنة بالعنف المباشر، بل رمزياً بالتسلية التي تُقصي وتُضحك وتُخضع في آنٍ واحد. فما يبدو في ظاهره صراعاً رمزياً خفيفاً حول المناطق السورية على وسائل التواصل الاجتماعي ليس سوى مظهرٍ لتراتبيةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ. وهو ما يستدعي فهماً أعمق لعلاقة الدولة بالمجتمع السوري، وكيف أَنتجَت هذه العلاقة انقساماتٍ عميقةً بين المركز والأطراف.
تعود جذور الاضطراب التاريخي بين المركز والأطراف في سوريا إلى عاملَيْن. الأوّل مسيرة التحضر العمراني للمدن السورية الناشئة حديثاً، وهي جميع المدن السورية باستثناء الحواضر التقليدية، دمشق وحلب وحمص وحماة. والثاني، سياسات الحكومات السورية المتعاقبة على تاريخ الجمهورية.
يرى المؤرخ الأميركي دانيال بايبس في كتابه "ذا غريتر سيريا: ذا هيستوري أوف آن أمبيشن" (سوريا الكبرى: تاريخ طموح)، المنشور سنة 1990، أن سوريا لم تكن لديها هويةٌ وطنيةٌ متماسكةٌ حتى سنة 1946. لم يعد سكانها أنفسهم أفراداً في أمةٍ سوريةٍ جامعةٍ، وإنما كانت انتماءاتهم تتحدد وفق الطائفة أو القبيلة أو مكان الإقامة. كان نشوء المدن الحديثة في سوريا خلال القرن العشرين استجابةً لاحتياجات السلطة أو تحولاتٍ اقتصاديةٍ طارئةٍ، ما جعلها مثل مراكز إدارية زراعية. فعلى عكس الحواضر التاريخية، التي تراكمت فيها وظائف السوق والسلطة والدين والثقافة عبر قرونٍ (دمشق وحلب وحمص وحماة)، توسّعت المدن الحديثة من نوىً كانت في الأصل قرىً أو مراكز صغيرةً أو نقاط عبور. ثم رُفعت إلى مرتبة مدينةٍ بقرارٍ إداريٍ – من فترة الانتداب الفرنسي بين سنتَي 1920 و1946، مروراً بحكم حزب البعث في الستينيات وما تبع ذلك – أو عبر مشاريع تنمويةٍ زراعيةٍ أو إعادة توطين.
يقول بايبس إن هذه المدن لم تُبنَ على تراكمٍ اجتماعيٍّ أو ثقافيٍّ، بل استنسخت وظائفَها من خارجها. فقد كانت المؤسسات والسوق مجرّد طبقاتٍ مُضافةٍ على فضاءٍ لم يستوعب بعد تحوّلَه من ريفٍ إلى مدينة. وفي قسمٍ منها، لم يكن ثمّة تماسكٌ سكانيٌّ أو شعورٌ جماعيٌّ بالانتماء. بل نسيجٌ اجتماعيٌّ هشٌّ يقوم على خليطٍ من سكانٍ محلّيين وفلاحين نازحين، وموظفين من مدنٍ أخرى، وتجارٍ يبحثون عن فرصٍ في سوق المدينة الناشئ.
ويوضح كتاب "أوربن دايفيرسيتي" (التنوع الحضري) الصادر سنة 2010، وحرّرته الباحثة في جامعة أوكسفورد كارولاين كياتو، أن الأدبيات الحضرية تربط مفهوم المدينة بنشوء طبقةٍ وسطى وسوقٍ متنوعٍ وتعددٍ مهنيٍّ وثقافي. وهي العناصر التي افتقدتها المدن السورية الحديثة في نشأتها. فقد كانت مدناً تخدم الاقتصاد الزراعي المحيط بها، الذي كان مركزه القرى الزراعية بالغالب. كذلك أُديرت هذه المدن بعقلية المركز الذي أنشأها، في الحواضر القديمة مثل دمشق وحلب، لا بروحٍ محلّيةٍ تنبع من داخلها وتحمل صفات وطبائع ومتطلبات سكان المنطقة التي أقيمت بها. وهذا لعلّه ما أَخَّر تشكّل نخبٍ محلّيةٍ مستقلةٍ فيها، إذ بقيت خاضعةً لنخبٍ "مستوردة" إدارياً من خلال التعيينات البيروقراطية.
أسهم هذا النمط من التحضّر المفروض من فوق، من المركز، بإنتاج عمرانٍ غير مكتمل. فنشأت مدنٌ بالشكل، ولكن دون روحٍ أو نمط حياةٍ مدينيٍّ فعليٍّ. فبات سكّانها، لاسيّما الأوائل منهم، يعيشون في مدينةٍ دون أن يشعروا أنهم "أبناء مدينة". ويقول المؤرخ السوري جمال باروت في كتابه "التكوّن التاريخي الحديث للجزيرة السورية"، المنشور سنة 2013، إن العلاقات الاجتماعية في هذه المدن الجديدة ظلّت تدور في فلك علاقات القرية أو العشيرة. وقد احتاجت مرورَ أجيالٍ لتبدأ إنتاج أنماطٍ مدينيةٍ صلبة. وغالباً، كان الارتباط العاطفي بالمنبت الريفي القبلي أو المرجعية الطائفية أقوى من الشعور بالانتماء للمدينة الناشئة.
أسهمت السلطات المتعاقبة على حكم سوريا الحديثة – من نهاية الانتداب الفرنسي في أواسط الأربعينيات مروراً بالحكم البعثي في عقد الستينيات وما تلاها – بإبطاء عملية التحضّر في الأطراف. لم تقم الدولة بدورها المتوقَّع في تقليص تلك الفوارق الحضرية بين مدن المركز التقليدية وتلك الناشئة، عبر التنمية المتوازنة وعدالة التوزيع، بل عزّزته من خلال تهميش الأطراف لصالح المركز.
يشير لهذا منظِّر التخطيط الحضري، الكندي جون فريدمان، في كتابه "ريجينال ديفيلوبمنت بوليسي" (سياسة التطوير الإقليمي) المنشورة طبعته الأولى سنة 1966. وقد طوَّر في الكتاب نموذج الطرف والمركز، ووفّر إطاراً نظرياً لتحليل أنماط التفاوت الإقليمي داخل الدولة الواحدة.
وبحسب نموذج فريدمان، فإن التنمية لا تتوزع عضوياً بعدالةٍ، بل تتجمع في مركزٍ حضريٍّ مهيمنٍ يحتكر القرار السياسي والموارد الاقتصادية. بينما تُختزل الأطراف في وظائف إنتاجيةٍ تخدم المركز دون امتلاكها أدوات النمو الذاتي. وهنا يتحقق ما يسمّيه فريدمان "التبعية الداخلية"، إذ تُستخرج الموارد من الأطراف دون أن يُعاد توزيعها بإنصاف. يرسّخ هذا النمط التفاوتاتِ العمرانيةَ والاجتماعيةَ مع المركز، ويُضعف من فرص نشوء انتماءٍ مدينيٍّ أو بنيةٍ حضريةٍ متماسكةٍ خارج نطاق المركز. هذا التهميش الممتد من الدولة السورية أنتج عدمَ مساواةٍ وفضاءاتٍ حضريةً متفاوتةً بين المركز والأطراف، وكذلك مواطنةً مختلفةً بينهما وأنماطاً جديدةً ومتفاوتةً من السياسة.
في سياقٍ متصلٍ، درست عالمة الإناسة تيريزا كالديرا في مقالتها "بريفيرال أربانايزيشين" (التحضّر المحيطي)، المنشورة سنة 2016، الضواحيَ التي تنشأ على هوامش المدن الكبرى. ويمكن تطبيق هذا المفهوم في حالة مدن الأطراف في سوريا، وليس فقط "أحياء المخالَفات" في محيط المراكز الحضرية السورية. ترى كالديرا أن التحضّر المحيطي يولّد أنماطاً جديدةً من المواطنين والمطالبات والنزاعات، نابعةً من ظروف الفضاء الحضري نفسه وخصائصه ونواقصه. وتشمل تلك الظروف المُلْكيّةَ غيرَ المستقرة، والوجودَ المشوّه أو المنقوص لسلطة الدولة وسيادة القانون، وهشاشةَ البنى التحتية، وإساءةَ مؤسسات النظام الحاكم المستمرّةَ للسكان، وعمليات الوصم والتمييز ضد السكان.
تخلق ظروف المناطق الطرفية مساحاتٍ لابتكار ممارساتٍ سياسيةٍ جديدة. تكون العلاقات السياسية في هذه المساحات أحياناً "زبونية"، أي قائمةً على العلاقة غير المتكافئة بين الأطراف السياسية والدولة، وقد تعتمد على المحسوبيةِ طريقةَ عمل. ولكنها في أحيانٍ أخرى تصبح مساحاتٍ للمواطَنة المتمردة. فقد خلقت الحركات الاجتماعية والمنظمات الشعبية من الأطراف خطاباتٍ جديدةً عن الحقوق والمطالب السياسية والإدارية. وكان لها حضورٌ مهمٌّ في احتجاجاتٍ ملأت شوارع مدنٍ كبيرةٍ حول العالم.
في إسطنبول، مثلاً، كان لتمرّد "الأتراك السود"، القادمين من الريف الأناضولي للسكن في ضواحي المدينة، دورٌ في تحدّي نخبوية "الأتراك البيض" من أهل المدن ومن سيطروا على مفاصل السياسة والاقتصاد والثقافة عقوداً، بحسب الكاتب زيد اسليم في مطوّلته في الفراتس. مثالٌ آخَر نجده في تمرّد الضواحي في باريس سنة 2023، بعد مقتل أحد المهاجرين من أصولٍ جزائريةٍ على يد الشرطة الفرنسية. وينسب مراد بطل الشيشاني، في مقالته "من السراويل الطويلة إلى السترات الصفراء" المنشورة في الفراتس سنة 2024، إلى دور التهميش المتراكم للأطراف – الضواحي – في تعميق الغبن والشعور بالتهميش ثم التمرّد ضد المركز.
هنا تتضح قابليةٌ أكبر لتعميم نتائج كالديرا على مدن الأطراف السورية، من خلال مسار الثورة السورية، ونمط انخراط مدن المركز والأطراف فيها عبر تحوّلاتها من السلمية إلى العسكرة والتدمير. فقد كانت الأطراف، نتيجة السياقات السابقة من تهميشٍ وإقصاءٍ وبنيتها شبه الريفية المتماسكة، أكثر عرضةً للتحول إلى ساحات صراع. بينما حافظت المراكز التقليدية على استقرارها، مستندةً إلى تجانسها المديني الذي لا يتيح إنتاج "المواطنة المتمردة". كانت المراكز الأولى للثورة السورية طرفيةً، مثل درعا وحمص ودوما وبانياس، في حين خرجت مظاهراتٌ في المدينتين المركزيتين دمشق وحلب، لكنها لم تتطور إلى انتفاضةٍ شعبيةٍ واسعة. واستمرّت محورية الأطراف في طوْر العمل المسلّح بعد ذلك.
شكّلت تحوّلات العلاقة السياسية بين المركز والأطراف محوراً أساساً لفهم تطوّر الدولة السورية الحديثة، وتحليل بنيتها السياسية والاجتماعية. سواءً قاربنا المركز والأطرف مناطقياً، أو اجتماعياً، أو دينياً. وقد درس المؤرخ الأمريكي اللبناني فيليب خوري وعالم الاجتماع الفلسطيني حنّا بطاطو هذا الموضوع من زاويتَين مختلفتَين، وفي إطارَين تاريخيَّين متباينَين، رصداً مكملاً لتطوّر هذه العلاقة من حالة الهيمنة إلى لحظة الانقلاب الجذري.
درس خوري في كتابه "أربان نوتيبلز أند أراب ناشوناليزم" (أعيان المدن والقومية العربية) المنشور سنة 1982 دور النخب المدينية في صياغة الخطاب السياسي والاجتماعي، مستفيدةً من سيطرتها على المؤسسات التعليمية والدينية والاقتصادية. مثّلت المدينة، وخاصةً دمشق وحلب، أكثر من مجرد مركزٍ إداريٍّ، بل كانت فضاءً لولادة القومية العربية الحديثة. في حين ظلّت الأطراف تقدَّم باعتبارها مناطق تابعةً ثقافياً وسياسياً للمركز. وقد تجلّت هذه العلاقة هرمياً، إذ عُدَّت النخب المدينية وصيّةً على الأطراف، تفرض عليها خطاباً تحديثياً من موقع التفوق الرمزي.
ينتقل بطاطو، في كتابه "سيرياز بيسانتري" (فلّاحو سوريا) المنشور سنة 1999، إلى الريف محوراً للتحليل الاجتماعي السياسي. ويرى في الفلاحين وقوى الأطراف المحرّكَ الأساسي للتغيير في سوريا. فمنذ خمسينيات القرن الماضي، تحوّل الريف من هامشٍ إلى فاعلٍ ثوريٍّ. تجسّد صعوده في انقلاب "الثامن من آذار" 1963 ووصول حزب البعث للسلطة، والذي كان تحالفاً بين فئاتٍ ريفيةٍ مهمّشةٍ وطوائف كانت تاريخياً خارج السلطة، مثل العلويين والإسماعيليين والدروز. حصل هذا الصعود عبر المؤسسة العسكرية، التي أصبحت قناةً لترقية أبناء الفلاحين إلى مواقع القرار، وهو ما سمّاه بطاطو "ثورةً اجتماعيةً صامتة".
لم تعد العلاقة بين المركز والأطراف قائمةً على الهيمنة من الأعلى، بل أصبحت علاقةَ إعادة تموضع. تسلّلت الأطراف إلى بنية الدولة المركزية، وأعادت تشكيل خطابها وهويتها وتحالفاتها. وهكذا انتقلت سوريا من نظامٍ تحكمه نخبٌ مدينيةٌ سنّيةٌ إلى نظامٍ تسيطر عليه فئاتٌ ريفيةٌ وأقلياتٌ طائفية.
لم تؤدِّ هذه التغيّرات إلى تفكيك هيمنة المركز الدمشقي، بل أعادت تشكيلها بآلياتٍ أعقد. فقد عزّزت دولة حافظ الأسد بين سنتَي 1971 و2000 مركزيةَ القرار السياسي والاقتصادي في دمشق، ووسّعت دور الأجهزة الأمنيّة، ممّا جعل العلاقة بين المركز والأطراف تقوم على نمطٍ من السيطرة الصلبة. واستمر هذا النمط حتى صعود بشار الأسد لحكم سوريا خلفاً لوالده في يونيو سنة 2000.
يتتبع جمال باروت، في كتابه "العقد الأخير في تاريخ سورية" المنشورة طبعته الأولى سنة 2012، التحوّلاتِ الاقتصاديةَ والاجتماعيةَ والسياسيةَ في العقد الأول من حكم بشار الأسد التي مهّدت للثورة السورية سنة 2011. يشير باروت في الكتاب إلى اختلال العلاقة بين المركز والأطراف في هذه الفترة. فقد جاءت تراكماً لعقودٍ رسّخت الدولة خلالها نمطاً مركزياً في إدارة التنمية والموارد. إذ احتكرت العاصمة ومراكز النفوذ الاقتصادي والسياسي الفوائدَ، في حين بقيت المحافظات الطرفية تعاني التهميش وضعف البنية التحتية وندرة الفرص.
انتقل بشار الأسد مباشرةً بعد تولّيه السلطة من الاقتصاد الاشتراكي الذي ساد عقوداً نحو سياسات "السوق المفتوح"، تحت مسمى "اقتصاد السوق الاجتماعي"، وهو الذي يعتمد نظرياً على حرية المنافسة الاقتصادية. سجّل الناتج المحلّي نمواً مقداره 2 بالمئة مع دخول 2004، وارتفعت النسبة إلى 5 بالمئة بحلول 2010. إلّا أن تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي كان بلا آليات حمايةٍ اجتماعية. فأدّى إلى صعود طبقة شبابٍ مرتبطين بالسلطة، وتنامي ما يدعوه باروت "السلطوية الليبرالية". وعلى وقع هذا، تفاقم الوضع في الأطراف خصوصاً في ظلّ الجفاف الذي امتدّ بين سنتَيْ 2007 و2010، والذي أدّى إلى موجات نزوحٍ ريفيٍّ نحو المدن.
عمّقت هذه التحوّلات الشعورَ بالغبن. وجعلت من المناطق الطرفية بيئةً أكثر قابليةً لانطلاق الاحتجاجات، نظراً للهشاشة الاقتصادية وتراخي السيطرة الأمنية نسبياً وتماسك البنى الاجتماعية المحلية، ولاسيّما في الشرق والجنوب. ويرى باروت في كتابه أن هذه العوامل مجتمعةً أسهمت في تكثف الحراك الثوري خارج المركز. وكان ذلك التعبيرَ الأوضحَ عن فشل النموذج التنموي والسياسي الذي ساد خلال العقد السابق.
بعد تحوّل الحراك الثوري السوري نحو السلاح أواخر سنة 2011، وخروج مناطق واسعةٍ عن سيطرة الدولة المركزية، شهدت العلاقة بين المركز والأطراف تحولاً جذرياً وغير مسبوقٍ في تاريخ الدولة السورية. تراجعت عندها الهيمنة المركزية مع انهيار النموذج الأحادي للدولة التي تتركز فيها السلطة والثروة في العاصمة. وظهرت بدلاً عنها مراكز محلّيةٌ تمارس أشكالاً من الحوكمة، تفاوتت في بنيتها ومرجعياتها بين المجالس المحلية والإدارات الذاتية وسلطات الأمر الواقع.
لم يعبّر هذا التحول بالضرورة عن مسارٍ ديمقراطيٍّ، بل أنتج مركزياتٍ مصغَّرةً خاضعةً لمصالح فصائليةٍ أو خارجية. ومع أن هذه التغيّرات كشفت عن طاقاتٍ اجتماعيةٍ محليةٍ طالما همّشتها الدولة عقوداً، إلّا أنها أبرزت أيضاً هشاشةَ البنية المؤسسية المستدامة والهيمنةَ العسكرية على الفضاء المدني، ممّا أعاق بناء لامركزيةٍ حقيقية.
ومع سقوط بشار الأسد ونظامه في الثامن من ديسمبر 2024، هيمنت إحدى حكومات الأطراف الناشئة خلال الثورة على السلطة، وسرعان ما بدأت مشكلة المركز والأطراف تطفو على سطح النقاش العام في الفضاء الافتراضي السوري.
ظهرت هذه النقاشات بأشكالٍ مختلفة. سواءً بالتعبير الصريح عن شعور التهميش لدى أبناء الأطراف، واستحقاقهم حصد ثمار الثورة التي دفعوا فاتورتها من القتل والتدمير والتهجير، أمام مراكز نَجَت من دفع تلك الفاتورة. في الوقت نفسه يتوجس أبناء المراكز من هيمنة أبناء الأطراف وضبابية موقع المركز في الدولة الجديدة، التي تتشكل تحت هيمنة قياداتٍ من الأطراف. فمعظم قادة هيئة تحرير الشام والدولة الجديدة ليسوا من مراكز المدن الكبرى، مع أن الرئيس السوري أحمد الشرع أكد في مناسباتٍ عدة ارتباطه بمدينة دمشق. وبين الخطابين والمظلوميتين، تواجه الحكومة الراهنة في سوريا تحدّيَ إرث العلاقة المختلّة بين المركز والأطراف، ومعالجة الهواجس الشعبية من تاريخ الدولة المركزية الذي كان قمعياً أو تهميشياً. وإن عُبّر عنه رمزياً بدعابةٍ خفيفةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي.
أماطت الثورة السورية وفضاءات التعبير الجديدة في الفضاء الرقمي اللثامَ عن هويّاتٍ مغيّبةٍ تطالِب بالاعتراف، وشعورٍ متراكمٍ بعدم الثقة أو الإنصاف، ومسارٍ غير سويٍّ لعلاقة مركز الدولة بأطرافها.
ولعلّ إعادة بناء الدولة في سوريا الآن يمثل فرصةً لإعادة التوازن المفقود في العلاقة بين المركز وأطرافه، ومعالجة التراكم الاجتماعي من الهواجس المتبادلة والشعور بالتجاهل. يمكن لتخيّل الدولة على أسس اللامركزية والعدالة التنموية أن يكون الحلّ لإعادة بناء عقدٍ اجتماعيٍّ جديد. وذلك حتى لا يعيد التهميش تشكيلَ نفسه على هيئة احتجاجاتٍ رمزيةٍ أو صِداميةٍ، مثل "المواطَنة المتمرّدة" التي وصفَتْها كالديرا حين تُقصى المجتمعات من المركز وتُترك لتخترع أدواتها الخاصة للتمثيل والمطالبة.
قدّم فريدمان حلّاً لتصحيح العلاقة المختلّة بين المركز والأطراف بإعادة توزيعٍ فعليةٍ للسلطة والموارد، تتيح للأطراف بناءَ مؤسساتٍ محلّيةٍ فاعلةٍ وتطويرَ نخبٍ تعبّر عن مصالحها ضمن اقتصادٍ غير تابع. وبناءً على هذا النموذج، فقد تكون اللامركزية الإدارية الموسعة مدخلاً ضرورياً لإصلاح هذه الأزمة في سوريا.
وكما يبدو، فلا تعالَج التفاوتات الراسخة التي تجد في وسائل التواصل الاجتماعي لها تعبيراً – وإنْ مزاحاً – بالرقابة الإلكترونية أو بتجريم مستخدمي هذا المحتوى الرائج ومحاسبتهم، بل بتفكيك البنية المركزية المادية التي كرّستها على مدى عقود بمعالجة سبب الغبن وليس طرق التعبير عنه.
------------
مجلة الفراتس