-
- لعلّ سوريا لم تحتوِ على فاعلين في شأن ثقافي أو اجتماعي أو علمي مثلما احتوت على المدققين اللغويّين، وليس من المبالغة القول إن في كل بيت سوري مدقق لغوي، يضمنُ أصالة الجملة ويُصحح شطط المتحدّثين، من منطق جذري صلب يُقرّ أن استقامة اللغة قبل أي استقامة، وأن صفاءَ التعبير لغويّاً هو الحاملُ الأولُ للمعنى. أنتجت وغذّت مراراً هذه القاعدة كلُّ المؤسسات التعليمية والثقافيّة السوريّة، ووضعت من حيث تدري ولا تدري مقاييسَ مرتبطة باللغة لأي مُنتَج. وَلَّدَتْ تلك الجذريّة محروميّة غير معلنة لفنون وظواهر ثقافية واجتماعيّة ليس أساسها اللغة. في وقت كانت الثقافة والفنون في بلدان عربية أخرى، أوّلها مصر، تخلع عن نفسها قدسيّة اللغة الواجبة في كل مُنتَج، وتعتني بما خلف اللغة أكثر من اعتنائها باللغة ذاتها. تلك الظواهر كانت بالنسبة لصنّاع الفن والثقافة السوريين على مدار عقود منتجات فاقدة للقيمة طالما أن لغتها غير مستقيمة.
عاشت الدراما السورية، وخلفها حشدٌ من الفنانين والكتّاب والفنيين عُقَدَ تفوّقٍ واضحة مرتبطة باللغة العربية الفصحى، تأتّتْ من الشهرة العربية الكبيرة التي حازتها مجموعة كبيرة من الأعمال التاريخيّة. الأعمال التي تمسّكت بعصمة اللغة القديمة، بل واختبأت خلفها في إنتاجات كثيرة، غطّت بها اللغةُ على الموضوعات وأحاديّة الطرح وفشل التناول وتقليديّة القصص، فكأنَّ اللغة إذا استقامت قَوَّمَتْ ما لحقها. وصار حين ذاك أَصلُ تَميُّز المُنتَج الفني السوري، للمُسلِّمينَ بهذا التميُّز، هو أصلٌ لغوي، سواء أدرك ذاك المدافعون عن هذا المُنتَج أو أهملوه. ذاك لا يلغي مكانة حازتها ندرة من الأعمال الفنيّة السوريّة التاريخية التي لم يكن شكل المنطوق فيها أُسَّ تَفوُّقِها، بل جودة التراكيب والمعنى.
حملت العربيّة الفصحى، في الغالبية العظمى من تمثُّلاتها، القيمَ التقليديّة العربية المرتبطة بالقوميّة والدين بالدرجة الأساسية، وبناء عليه كانت وما زالت هي الشريعة الناظمة للحياة والثقافة. وعليه فإن القيمة النابعة من نصٍّ فصيح، تحتوي في ذاتها بشكل من الأشكال على مستلزمات أحقيتها، وعلى صوابية توجهها. أو على أقل تقدير فإن فصاحة النص تضمن له نفاذيّة قيميّة في المستوى الشعبي. ذلك ما منحَ اللغويِّين أو الذين كانت أدواتهم في الإنتاج هي الفَصاحة قيمةً ليس بالضرورة أن تتأتّى من أهليّة أو ضرورة أو جودة المعنى.
طبعت الفصحى القديمة، بشكل مباشر وغير مباشر، المُنتَج الفنّي والثقافي السوري لعقود، لم يقتصر الأمر على الدراما التلفزيونية التاريخية فقط، وإنما كانت الدراما هي الأكثر وضوحاً وانتشاراً في العقود الأخيرة. بُذِلت جهود جهيدة في موقع الشكل اللغوي، أضعافَ ما بُذِلت في مضمونه. وفي ظلّ الجزالة والجمالية، لطالما نما في العربية سرطان التكرار، والخطاب الأجوف، والفارغ. ولعلَّ سوريا كانت، وتستمر، بيئة خصبة قادرة على الاستثمار في اللغة المعجميّة المُفعَمة بالتشكيل، والمُثقَلة بالأوزان والقواعد والقوافي، التي تُثير متانةُ صياغتها التصفيقَ المديد. يمتزج في هذا المعنى ما هو في السياسة بما هو في الفن، وفي المجتمع، في كل الأوساط التي يلعب فيها فنُّ الخطابة دور البطولة، وتكثر الآذان التي تطرب بهذا الفن.
تُطالعنا الشاشات السوريّة منذ سقوط النظام السابق – وهي أحد الرموز الخالدة في صناعة الفصحى الجوفاء – بخطاب يَنحتُ في صخرة اللغة، في محاولة يائسة لتجنُّب التكرار، فلا يجد سوى إعادة ترتيب الكلمات والجمل. تقود هذا الخطابَ القديمَ الجديد عصبةٌ لغويّة جديدة (جدلاً)، تتمسّك باللغة من جديد لمحاولة حشد الجموع. فتطفو على السطح شعريّة مكررة تتقاسم المنابر التي خوت من شعراء الأمس، الذين يحرق الكثير منهم كتبهم اليوم كي لا تكون مُستمسكاً عليهم في فضاءات محاكم السوشيال ميديا. شعريّة تَفترِضُ أنها جديدة – من مبدأ أن كل ما في البلاد اليوم جديد – فتنبشُ في أدب الجاهليّة والأمويّة، لتُعيد استخدام ذلك الفعل مع تلك الصفة، تلّونها بفائض علب التلوين التي تُتيحها الفصحى. ثم تتلوها – شعراً بالغالب – على المنابر المتوالدة من بعضها. تفتح وزارة الثقافة الباب مُشرَعاً للشعر، بوزير لا يوفّر طاولةً بلا قصيدة. وخلفه حشدٌ من المؤسسات الثقافية الوليدة، وخلف الجميع بلا شك حشدٌ من الشعراء، توفّر لهم البلاد بكل ما فيها من ألم وأمل قصائدَ لسنين طويلة قادمة.
لسنينَ طويلة، عاش مجمعُ اللغة العربية في دمشق، وغيره من مؤسسات ثقافية مرتبطة بالقطاع العام من اتحاد الكتاب العرب إلى سواه، في حالة وفاة سريرية مَحميّة بنعش اللغة الذهبي؛ لا نظريّة تطرح فتُثير مياهاً راكدة، ولا مشروعَ حقيقياً يُواكب ضرورات التطوّر من منطق أن كل لغة هي نظام تواصل مرتبط بالزمن. تمترسَ حُماةُ اللغة على مقاعدهم، فقضوا سنوات خدمتهم في جيش اللغة، يحاربون تَسلُّل الكلمات الغربية إلى الألسنة والنصوص. عابوا على الثقافة أي اختراق لغويّ، ومنحتهم الأصولية الدينية والقوميّة شرعيّة خالدة، فكل اختراق للّغة هو اختراق للقيم والثقافة والمجتمع والاقتصاد وكل مناحي الحياة.
بالعودة إلى مسرحيّة الزير سالم، فإنها لم تولد كمشروع إلا من رحم المسلسل الذي تناول الشخصية ذاتها، والذي نال شهرة منقطعة النظير عربياً. أدّى فيها سلّوم حداد الشخصيّة الأهم تاريخياً في مسيرته الفنية في مختلف أنواع الدراما التي قدّمها. ولعلَّ شهرة ذاك بالعمل بالذات لم تنبع من القيمة اللغويّة التي يتغنّى بها بطله. بل قد تَوفَّرَ للعمل قبل حداد، وقبل متانة الفصحى فيه، سيناريو كتبه الراحل ممدوح عدوان، منحه شعريّة وأسلوباً بدا حداثياً في كثير من حواراته، بطريقة غير مقيّدة بما يُفترَض أن تكون عليه العربية في ذاك التاريخ، إضافة إلى نحوه تجاه الأسطرة والموروث الشعبي عن القصة أكثر من التزامه المنطق التأريخي أو الوثائق. تلك الجرأة النسبيّة والمرونة في «الزير سالم» ميّزته عن عشرات الأعمال التاريخية التي لم تَحِد عن النص، ولم تتجرأ على اللغة.
يأخذ سلوم حداد على الممثلين المصريين نطقهم الجيم في العربية الفصحى كما ينطقونها في المصرية المَحكيّة، فيقول «يا أخي ذلك لا يستقيم». وذاك على ما فيه من فوقيّة، سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة، هو قضيّةٌ لا يمكن أصلاً أن تُحسَم بمنطق التدقيق اللغوي واللفظي. فلهجاتُ العربية الفصحى شتّى، وإخضاعها لأسلوبٍ واحد في اللفظ هو بلا شك ممارسة أحاديّة وديكتاتوريّة. أمّا إن كان المرجع الوحيد هو ما خطّه أبو الأسود الدؤلي أو بَسَّطَهُ سيبويه، فإن ما لا يستقيم أكثر من لفظ «الجيم» هو رفع المعطوف المجرور، ونصبُ اسمِ كان، حين قال الزير في أحد مشاهد المسرحيّة ، منبّهاً ابن أخيه إلى معنى الذل: «سلامٌ بلا خيول، أي ذلّ، ما الفرق إذاً بين حياتكم هذه والحياةُ التي كان جساساً يُجبركم عليها».
-
|
عيون المقالات
|
مقارنة بين لسانين ...محكمة الفصحى وسيف الزير سالم نعش اللغة الذهبيعلى مسرح أبوظبي الوطني قدّمت مُؤخَّراً نخبة ممن يُفترَض أنّهم محترفو أداء العربية الفصحى من الفنانين السوريين عرض «الزير سالم»، الذي أخرجه ولعب بطولته سلّوم حدّاد، الفنّان الذي أثار مؤخراً خلال أعماله التحضيريّة للعرض قضيّة إشكاليّة حوّلتها قنوات التواصل الاجتماعي إلى جدليّة مُقارنة بين اللسان السوري والمصري في العربية الفصحى في الإنتاج الدرامي. إذ عابَ الفنانُ على زملائه من المصريين نطق الجيم بالصوت المصري المحليّ بدلاً من شكلها الفصيح التقليدي. تمسّكَ حداد في هذا الموقف بما تتمسّك به حشود من الفنانين والمثقّفين السوريين، وهو جودة لسان السوريين في نطق الفصحى، وتَميُّزهم عن غيرهم من ناطقي العربية في استخدامها.نبيل محمد
الاربعاء 26 نوفمبر 2025
|
|
|
|
||


الصفحات
سياسة









