أنيسة عبوَد
أعرف أني لن أراها .
و أعرف أن منزلنا القديم , ليس أكثر من كومة ذكريات مغبرة . بابه الأخضر قشره الهجر , و نوافذه ذات القضبان الحديدية الثخينة جداً ما تزال تطلَ على مقبرة القرية . أحيانا أشعر أن أرواح الموتى تتصادم تحت النافذة لتدخل بيتنا , و أحيانا أسمع وقع أقدامهم على العتبة . مرة قلت لامي ذلك , فقالت مبتسمة " هذه خيالات مراهقة "
الآن كبرت .. و غادرت ذلك المنزل منذ زمن , لكني حتى الآن أسمع وقع أقدام تعبر مسرعة في الليالي الممطرة . الآن أنا واثقة بأنها دعسات أمي . البارحة شعرت بها تغطيني , هي تعرف أن البرد يؤذي معدتي , و أني أصير كقطفة حبقٍ ذابلة . أنا أنسى أن أداري نفسي , لكن أمي لا تنسى أبداً .
" ماذا أهديك في عيد الأم يا ماما ؟ "
" هديتي أن تنجحي "
مع ذلك ما كنت أكتفي بهذا . فقد كنت أشعر بالقهر و أنا أرى زميلاتي في المدرسة يتسوقن الهدايا لأمهاتهن , و أنا ما كنت املك ما أشتري به هدية لأجلها . فكرت أن أخبئ لها كعكة المدرسة المرشوشة بالسماق ..
كنا نسميها " كعك البريوش " و لا أعرف من أين جاء هذا الاسم .. كل ما أعرفه طعمها اللذيذ و هي تذوب في الفم لكثرة رهافتها و طرواتها .. شعرت بالجوع في جيب المحفظة المدرسية .. عندما انتهى الدوام لم أجد أمي في المنزل ، لم تكن قد عادت من حقل البرتقال , حيث كانت تجني ثمار اليافاوي و ترتبها في عبوات بلاستيكية . انتظرت عودتها بلهفة , حضنتها , فسقط منديلها عن رأسها .
أسرعت ترفع المنديل و تغطي خصلات شعرها البيضاء المتماوجة . أخرجت الكعكة و أنا أعيدَها .. " هذه الكعكة لك يا أمي " قبلتني .. أمسكت بالكعكة و أنا أعيدَها .. (( هذه الكعكة لك يا أمي " قبلتني ..
أمسكت بالكعكة ثم أعادتها لي و هي تبتسم (( كليها أنت يا حبيبتي ))
(( لا .. إنها لك يا أمي ))
(( اعرف .. ها أنا آخذها .. ثم أهديك إياها .. سأفرح أكثر إذا أكلتها أنت ))
كبرت فعلاً . لذلك اعرف أن الأم تفرح أكثر إذا أكل أولادها و كبرت لأني أدرك الآن ما لم أدركه سابقاً , لقد يبست الكعكة و صعب على أمي أن تأكلها .. لقد فقدت الكثير من أسنانها . شعرت بالأسى قليلاً , غمرت رأسي في حضنها ثم قلت (( ما معي مصاري لأشتري لك حذاءً جديداً كالذي اشترته هالة لأمها ))
ربتت أمي على كتفي , ثم نهضت تشعل قنديل الكاز و تعلقه إلى الساموك الذي يتوسط بيتنا الكبير . تحت القنديل علَقت مصحفاً صغيراً . . كنت آخذ المصحف و أقرأ لامي آيات من القرآن و هي تجلس صامتة على المصطبة تراقب قرص الشمس و هو يسقط شجرة التوت المواجهة , ثم نقول (( الله يعطيك العافية .. حان وقت الدرس يا ابنتي ))
أحيانا أشعر بحاجة شديدة لأن أتحدث مع أمي , و لأن اخبرها تفاصيل يومي و تفاصيل الأولاد و الأوضاع و ما يجري في البلاد . هي في عالم و أنا في عالم . لكن هي تسمعني بالتأكيد . لماذا أخطبها إذن ؟! البارحة أخبرتها بأني سأسافر إلى بلد أجنبي , و أن الأجانب لا يحبوننا .. وان الصهاينة " أولاد الكلب " شوهونا في عيون الغرب . و أخبرتها بأن الوظيفة لم تحررني, بل جعلتني عبدة و جارية من جديد للزوج و الأولاد و الحياة الاستهلاكية التي تورطنا بها . و أخبرتها أن العرب يسيرون إلى الوراء . و أن شعبنا في فلسطين يذبح كل يوم .. و أن أشجار البرتقال تروى بدم الشهداء في الأرض المحتلة . و قلت لها " كل الاتفاقيات السابقة كانت كذبة " و كأني سمعتها تلعن .. و أخبرتها أن ابن أختي الذي غاب تحت القذائف الإسرائيلية لم يرجع حتى الآن .. قلت و قلت .. كنت أجهز طبقاً من التبولة , و كنت أشعر بها تهزَ رأسها . ثم سمعتها تمشي بهدوء نحو النافذة و تغلقها لان الهواء برد . كنت أغسل البقدونس عندما راحت تبتعد عني دعساتها , ثم سمعت صوت الباب الخارجي ينطبق .
تركت باقات البقدونس و رحت أتبع أثرها .. سمعت خطواتها على السلم , ركضت باتجاه النافذة التي تطل على المدخل . و رأيت امرأة تمضي وحيدة . كانت ترتدي ما يشبه ثياب أمي , لكنها كانت أقصر قليلاً و أكثر انحناءً .
أجل .. كبرتُ . تخرجت في الجامعة و صار بإمكاني أن أشتري لأمي هدية . مع ذلك لم أنعم كثيرا بتلك الأمنية .. لقد صارت أمي أكثر زهداً و رفضاً للأشياء الجديدة بعد موت أبي , ثم فقدت بصرها .. كانت تتحسر لأنها عاجزة عن رؤية أولادي و هم يكبرون .. و كانت تتلمس شعر الفتاة الصغيرة مشددة على عدم قصَ شعرها .. كانت تعرفنا من تلمس شعرنا , و من رائحتنا ..
و كنت إذ أدخل المنزل كانت تنصت و تقول (( هذه دعسات عالية )) و لكن كنت أتأخر عليها بالزيارة أحياناً .. و كانت ترسل إليَ أن أجيء لتراني . و حين تنثر عتبها الشفيف و هي تسألني (( ألستِ أمَاً ؟ )) كنت اخجل من لهفتها و لكن كنت اعرف ان غضب الأم لا يدوم . لذلك كنت أعدَ القهوة و أبدأ بترتيب المنزل و أنا أغني لها (( سكابا يا دموع العين سكابا . . ))
كان صوتي يهدهدها .. و كانت تقول (( عالية ترضيني بموال )) لكن دائماً كنت أعجز عن إكمال أي موال إذ كنت أبكي و أنا أراها تنصت و تحدق في المجهول , و هي تفرد كفيها المثقلين بالسنين العجاف و رزم الحشيش و الفم و سلال البرتقال .
(( أكملي الموال يا ابنتي .. ))
(( .. آن . لقد نزع الدخان صوتي يا أمي "
" أصبحت تدخنين ؟ .. متى ؟ "
لم أكن أدخن , غير أني كنت اختلق الحجج للتوقف عن الغناء قبل أن يخنقني البكاء و أنا أرتب عمري في زوايا بيتنا .
حين سافرت إلى مصر جلبت لأمي حذاءً جميلاً , كان بلا كعب ... و كان واسعاً بما يكفي لراحة قدميها المتعبتين . فرحت لأني اشتريت لأمي حذاء و شالاً من القطن المعرق الناعم . رجوتها أن تجرب الحذاء , غير أنها رفضت .. رجوتها ثانية كي آخذها مشواراً في سيارتي . هزت رأسها غطت عينيها بيديها المجعدتين , تركتها و ابتعدت .. كنت أريد الهروب من أوجاعها .. لكنها سرعان ما راحت توصيني و تقول " سوقي على مهلك " توكلي على الله . .
لا .. و لا .. " أحياناً كنت أرى وصاياها ثقيلة و أحيانا أقول لها " لقد حفظت وصاياك يا أمي .. إني أقسم "
الحذاء الذي اشتريته لامي ظل سنوات تحت سريرها لم تلبسه أبداً لأنها سقطت و انكسرت قبل أن تجرب الحذاء . فقدت قدرتها على المشي مع ذلك كانت بين الفترة و الأخرى تسألني :
هل ما زال حذاؤها تحت سريرها ؟
" اجل . إنه تحت السرير "
" هاته يا عالية "
حملت أمي الحذاء بين يديها . تلمسته و صمتت طويلاً , ثم قالت " خذيه لك يا ابنتي . يبدو أني لن أمشي بعد الآن " تجاهلت طلبها فكررت عبارتها (( خذيه )) قلت (( هذا حذاؤك يا أمي .. غداً تمشين . ثم إنه كبير على قدمي ))
حين أسمع دعسات أمي أتخيل أنها ترتدي الحذاء الذي اشتريته لها من القاهرة و حملته معي إلى الإسكندرية , و إلى المينا , و حملته إلى " إلهساسنتر "
ثم عدت به إلى القاهرة , ثم دمشق , ثم إلى قريتي قرب النهر . حلمت كثيراً أن تنهض أمي .. ترمي الكاز و تلبس حذاءها و تمشي على الطريق المشجَر بالصفصاف و الزنزرخت , و لكنها رحلت .
لقد جاء عيدَها و لم أشتر لها هدية هذا العام . شعرت بالقهر لم يعد لي أمٌ أرتبك في عيدها و أنا أبحث عن هدية لها ، هكذا قلت لعلي صديقي . و قلت له : كأني بلا سقف .. و بكيت حين حمل الأولاد هداياهم إليَ . شعرت بوخزة في القلب , شكرت الأولاد و قبلتهم ثم دعوتهم على طبق الحلوى الذي أعددته لأجلهم . كانوا يتضاحكون و كنت أتجه إلى الشرفة . ظهرت سلسلة الجبال الممتدة خلف قريتي .
لأول مرة أنا في المنزل في مثل هذا اليوم دون خطة لزيارة أمي . شعرت بهواء ثقيل في صدري و قد أصبت بالصمت . تسللت بهدوء و أنا أحمل مفاتيح سيارتي – انتبه الأولاد لخروجي . مدَوا رؤوسهم الصغيرة " إلى أين يا ماما ؟ " لم أستطع الرد . اتجهت إلى السوق .. رحت أستعرض الواجهات الملونة و أقرأ عبارات " كل عام و الأمهات بخير " شعرت باليتم فعلاً .. لقد كبرت , أجل . لكني أشعر باليتم . اجتاحتني الرغبة لتحدي هذا اليتم . اجتاحتني الرغبة لتحدي هذا اليتم .
فكرت بشراء هدية لأمي . لن أعترف بأنها رحلت إلى الأبد و أني لن أراها ثانية و لن توصيني " سوقي على مهلك "
على مهلي أسوق . الهدية إلى جانبي في المقعد المجاور . أقود باتجاه القرية , بيتنا الكبير يتوسط بيوت أعمامي المهجورة كلهم هاجروا إلى المدينة . الحقول مشكوكة بالأزهار البرية . مفرق القرية يتموج بالخضرة .. هاهي شجرة المشمش المهجورة .. و هناك شجرة الكينا الضخمة التي كنَا نسميها بالمقهى هنا القبر . غاص قليلاً .. ياه .. كأن أمي قد رحلت منذ ألف عام .. النهر جرف التربة حول القبور . و كسر شجيرة الزيزفون الغربية . العشب نما بكثافة .. هدوء و صمت فظيع . أشعلت البخور و قرأت الفاتحة .. أخذت أعشب حول قبر أبي ثم قبر أمي و تحدثت إليهما .. لم يرد احد علي .. أفزعني الصمت .. الأشجار صامتة أيضاً .. مشيت بهدوء حتى لا أزعجها .
حملت الهدية من السيارة و اتجهت إلى المنزل .. دفعته بيدي فانفتح . إنه ما يزال على حاله .. لم نقفله أبداً و لم اعرف له مفتاحاً في حياتي .. رحت أتلمس سرير أمي .. عكازتها معلقة إلى الساموك .. الغبار يتراكم على القنديل هي ذي خزانتها تفوح من أدراجها رائحة زمن قديم . لم يقبل احد من أخوتي أن يسكن بيتنا القديم .. تجولت في المنزل كله و نظرت في المرآة العتيقة المتآكلة . ظهر نصف وجهي و نصف جسدي , شعرت بالخوف . ما زلت احمل الهدية . شعرت بثقلها " فتحت الكيس الورقي . أخرجت حذاء نمرة (( 40 )) تلمسته .. إنه طري و مريح . (( هذا لك يا أمي . سأضعه تحت السرير )) ثم أخرجت منديلاً أبيض . تذكرت خصلات شعر أمي .. كانت تكره أن تكشف رأسها . فرشت المنديل على السرير و انسحبت . .
و أنا أعيدها . لم تكلمني . و لم ترد عليَ .. أغلقت الباب ورائي و أنا أتجه بهدوء نحو السيارة . قبل ان انطلق سمعت صوتها يوصيني ان أسوق بهدوء , و عندما رحت أبتعد نظرت في المرآة , فرأيت امرأة تتبعني و تلوح لي بمنديل أبيض .. كانت تشبه أمي و لكن أقصر قليلاً من أمي و أكثر انحناء ظللت بين الشك و اليقين إلى أن عدت بعد فترة لزيارة أمي , فلم أجد حذاء تحت السرير . لقد كان عند الباب و عليه آثار عشب و قد اهترأ قليلاً و العكاز ملقىً عند العتبة .
و أعرف أن منزلنا القديم , ليس أكثر من كومة ذكريات مغبرة . بابه الأخضر قشره الهجر , و نوافذه ذات القضبان الحديدية الثخينة جداً ما تزال تطلَ على مقبرة القرية . أحيانا أشعر أن أرواح الموتى تتصادم تحت النافذة لتدخل بيتنا , و أحيانا أسمع وقع أقدامهم على العتبة . مرة قلت لامي ذلك , فقالت مبتسمة " هذه خيالات مراهقة "
الآن كبرت .. و غادرت ذلك المنزل منذ زمن , لكني حتى الآن أسمع وقع أقدام تعبر مسرعة في الليالي الممطرة . الآن أنا واثقة بأنها دعسات أمي . البارحة شعرت بها تغطيني , هي تعرف أن البرد يؤذي معدتي , و أني أصير كقطفة حبقٍ ذابلة . أنا أنسى أن أداري نفسي , لكن أمي لا تنسى أبداً .
" ماذا أهديك في عيد الأم يا ماما ؟ "
" هديتي أن تنجحي "
مع ذلك ما كنت أكتفي بهذا . فقد كنت أشعر بالقهر و أنا أرى زميلاتي في المدرسة يتسوقن الهدايا لأمهاتهن , و أنا ما كنت املك ما أشتري به هدية لأجلها . فكرت أن أخبئ لها كعكة المدرسة المرشوشة بالسماق ..
كنا نسميها " كعك البريوش " و لا أعرف من أين جاء هذا الاسم .. كل ما أعرفه طعمها اللذيذ و هي تذوب في الفم لكثرة رهافتها و طرواتها .. شعرت بالجوع في جيب المحفظة المدرسية .. عندما انتهى الدوام لم أجد أمي في المنزل ، لم تكن قد عادت من حقل البرتقال , حيث كانت تجني ثمار اليافاوي و ترتبها في عبوات بلاستيكية . انتظرت عودتها بلهفة , حضنتها , فسقط منديلها عن رأسها .
أسرعت ترفع المنديل و تغطي خصلات شعرها البيضاء المتماوجة . أخرجت الكعكة و أنا أعيدَها .. " هذه الكعكة لك يا أمي " قبلتني .. أمسكت بالكعكة و أنا أعيدَها .. (( هذه الكعكة لك يا أمي " قبلتني ..
أمسكت بالكعكة ثم أعادتها لي و هي تبتسم (( كليها أنت يا حبيبتي ))
(( لا .. إنها لك يا أمي ))
(( اعرف .. ها أنا آخذها .. ثم أهديك إياها .. سأفرح أكثر إذا أكلتها أنت ))
كبرت فعلاً . لذلك اعرف أن الأم تفرح أكثر إذا أكل أولادها و كبرت لأني أدرك الآن ما لم أدركه سابقاً , لقد يبست الكعكة و صعب على أمي أن تأكلها .. لقد فقدت الكثير من أسنانها . شعرت بالأسى قليلاً , غمرت رأسي في حضنها ثم قلت (( ما معي مصاري لأشتري لك حذاءً جديداً كالذي اشترته هالة لأمها ))
ربتت أمي على كتفي , ثم نهضت تشعل قنديل الكاز و تعلقه إلى الساموك الذي يتوسط بيتنا الكبير . تحت القنديل علَقت مصحفاً صغيراً . . كنت آخذ المصحف و أقرأ لامي آيات من القرآن و هي تجلس صامتة على المصطبة تراقب قرص الشمس و هو يسقط شجرة التوت المواجهة , ثم نقول (( الله يعطيك العافية .. حان وقت الدرس يا ابنتي ))
أحيانا أشعر بحاجة شديدة لأن أتحدث مع أمي , و لأن اخبرها تفاصيل يومي و تفاصيل الأولاد و الأوضاع و ما يجري في البلاد . هي في عالم و أنا في عالم . لكن هي تسمعني بالتأكيد . لماذا أخطبها إذن ؟! البارحة أخبرتها بأني سأسافر إلى بلد أجنبي , و أن الأجانب لا يحبوننا .. وان الصهاينة " أولاد الكلب " شوهونا في عيون الغرب . و أخبرتها بأن الوظيفة لم تحررني, بل جعلتني عبدة و جارية من جديد للزوج و الأولاد و الحياة الاستهلاكية التي تورطنا بها . و أخبرتها أن العرب يسيرون إلى الوراء . و أن شعبنا في فلسطين يذبح كل يوم .. و أن أشجار البرتقال تروى بدم الشهداء في الأرض المحتلة . و قلت لها " كل الاتفاقيات السابقة كانت كذبة " و كأني سمعتها تلعن .. و أخبرتها أن ابن أختي الذي غاب تحت القذائف الإسرائيلية لم يرجع حتى الآن .. قلت و قلت .. كنت أجهز طبقاً من التبولة , و كنت أشعر بها تهزَ رأسها . ثم سمعتها تمشي بهدوء نحو النافذة و تغلقها لان الهواء برد . كنت أغسل البقدونس عندما راحت تبتعد عني دعساتها , ثم سمعت صوت الباب الخارجي ينطبق .
تركت باقات البقدونس و رحت أتبع أثرها .. سمعت خطواتها على السلم , ركضت باتجاه النافذة التي تطل على المدخل . و رأيت امرأة تمضي وحيدة . كانت ترتدي ما يشبه ثياب أمي , لكنها كانت أقصر قليلاً و أكثر انحناءً .
أجل .. كبرتُ . تخرجت في الجامعة و صار بإمكاني أن أشتري لأمي هدية . مع ذلك لم أنعم كثيرا بتلك الأمنية .. لقد صارت أمي أكثر زهداً و رفضاً للأشياء الجديدة بعد موت أبي , ثم فقدت بصرها .. كانت تتحسر لأنها عاجزة عن رؤية أولادي و هم يكبرون .. و كانت تتلمس شعر الفتاة الصغيرة مشددة على عدم قصَ شعرها .. كانت تعرفنا من تلمس شعرنا , و من رائحتنا ..
و كنت إذ أدخل المنزل كانت تنصت و تقول (( هذه دعسات عالية )) و لكن كنت أتأخر عليها بالزيارة أحياناً .. و كانت ترسل إليَ أن أجيء لتراني . و حين تنثر عتبها الشفيف و هي تسألني (( ألستِ أمَاً ؟ )) كنت اخجل من لهفتها و لكن كنت اعرف ان غضب الأم لا يدوم . لذلك كنت أعدَ القهوة و أبدأ بترتيب المنزل و أنا أغني لها (( سكابا يا دموع العين سكابا . . ))
كان صوتي يهدهدها .. و كانت تقول (( عالية ترضيني بموال )) لكن دائماً كنت أعجز عن إكمال أي موال إذ كنت أبكي و أنا أراها تنصت و تحدق في المجهول , و هي تفرد كفيها المثقلين بالسنين العجاف و رزم الحشيش و الفم و سلال البرتقال .
(( أكملي الموال يا ابنتي .. ))
(( .. آن . لقد نزع الدخان صوتي يا أمي "
" أصبحت تدخنين ؟ .. متى ؟ "
لم أكن أدخن , غير أني كنت اختلق الحجج للتوقف عن الغناء قبل أن يخنقني البكاء و أنا أرتب عمري في زوايا بيتنا .
حين سافرت إلى مصر جلبت لأمي حذاءً جميلاً , كان بلا كعب ... و كان واسعاً بما يكفي لراحة قدميها المتعبتين . فرحت لأني اشتريت لأمي حذاء و شالاً من القطن المعرق الناعم . رجوتها أن تجرب الحذاء , غير أنها رفضت .. رجوتها ثانية كي آخذها مشواراً في سيارتي . هزت رأسها غطت عينيها بيديها المجعدتين , تركتها و ابتعدت .. كنت أريد الهروب من أوجاعها .. لكنها سرعان ما راحت توصيني و تقول " سوقي على مهلك " توكلي على الله . .
لا .. و لا .. " أحياناً كنت أرى وصاياها ثقيلة و أحيانا أقول لها " لقد حفظت وصاياك يا أمي .. إني أقسم "
الحذاء الذي اشتريته لامي ظل سنوات تحت سريرها لم تلبسه أبداً لأنها سقطت و انكسرت قبل أن تجرب الحذاء . فقدت قدرتها على المشي مع ذلك كانت بين الفترة و الأخرى تسألني :
هل ما زال حذاؤها تحت سريرها ؟
" اجل . إنه تحت السرير "
" هاته يا عالية "
حملت أمي الحذاء بين يديها . تلمسته و صمتت طويلاً , ثم قالت " خذيه لك يا ابنتي . يبدو أني لن أمشي بعد الآن " تجاهلت طلبها فكررت عبارتها (( خذيه )) قلت (( هذا حذاؤك يا أمي .. غداً تمشين . ثم إنه كبير على قدمي ))
حين أسمع دعسات أمي أتخيل أنها ترتدي الحذاء الذي اشتريته لها من القاهرة و حملته معي إلى الإسكندرية , و إلى المينا , و حملته إلى " إلهساسنتر "
ثم عدت به إلى القاهرة , ثم دمشق , ثم إلى قريتي قرب النهر . حلمت كثيراً أن تنهض أمي .. ترمي الكاز و تلبس حذاءها و تمشي على الطريق المشجَر بالصفصاف و الزنزرخت , و لكنها رحلت .
لقد جاء عيدَها و لم أشتر لها هدية هذا العام . شعرت بالقهر لم يعد لي أمٌ أرتبك في عيدها و أنا أبحث عن هدية لها ، هكذا قلت لعلي صديقي . و قلت له : كأني بلا سقف .. و بكيت حين حمل الأولاد هداياهم إليَ . شعرت بوخزة في القلب , شكرت الأولاد و قبلتهم ثم دعوتهم على طبق الحلوى الذي أعددته لأجلهم . كانوا يتضاحكون و كنت أتجه إلى الشرفة . ظهرت سلسلة الجبال الممتدة خلف قريتي .
لأول مرة أنا في المنزل في مثل هذا اليوم دون خطة لزيارة أمي . شعرت بهواء ثقيل في صدري و قد أصبت بالصمت . تسللت بهدوء و أنا أحمل مفاتيح سيارتي – انتبه الأولاد لخروجي . مدَوا رؤوسهم الصغيرة " إلى أين يا ماما ؟ " لم أستطع الرد . اتجهت إلى السوق .. رحت أستعرض الواجهات الملونة و أقرأ عبارات " كل عام و الأمهات بخير " شعرت باليتم فعلاً .. لقد كبرت , أجل . لكني أشعر باليتم . اجتاحتني الرغبة لتحدي هذا اليتم . اجتاحتني الرغبة لتحدي هذا اليتم .
فكرت بشراء هدية لأمي . لن أعترف بأنها رحلت إلى الأبد و أني لن أراها ثانية و لن توصيني " سوقي على مهلك "
على مهلي أسوق . الهدية إلى جانبي في المقعد المجاور . أقود باتجاه القرية , بيتنا الكبير يتوسط بيوت أعمامي المهجورة كلهم هاجروا إلى المدينة . الحقول مشكوكة بالأزهار البرية . مفرق القرية يتموج بالخضرة .. هاهي شجرة المشمش المهجورة .. و هناك شجرة الكينا الضخمة التي كنَا نسميها بالمقهى هنا القبر . غاص قليلاً .. ياه .. كأن أمي قد رحلت منذ ألف عام .. النهر جرف التربة حول القبور . و كسر شجيرة الزيزفون الغربية . العشب نما بكثافة .. هدوء و صمت فظيع . أشعلت البخور و قرأت الفاتحة .. أخذت أعشب حول قبر أبي ثم قبر أمي و تحدثت إليهما .. لم يرد احد علي .. أفزعني الصمت .. الأشجار صامتة أيضاً .. مشيت بهدوء حتى لا أزعجها .
حملت الهدية من السيارة و اتجهت إلى المنزل .. دفعته بيدي فانفتح . إنه ما يزال على حاله .. لم نقفله أبداً و لم اعرف له مفتاحاً في حياتي .. رحت أتلمس سرير أمي .. عكازتها معلقة إلى الساموك .. الغبار يتراكم على القنديل هي ذي خزانتها تفوح من أدراجها رائحة زمن قديم . لم يقبل احد من أخوتي أن يسكن بيتنا القديم .. تجولت في المنزل كله و نظرت في المرآة العتيقة المتآكلة . ظهر نصف وجهي و نصف جسدي , شعرت بالخوف . ما زلت احمل الهدية . شعرت بثقلها " فتحت الكيس الورقي . أخرجت حذاء نمرة (( 40 )) تلمسته .. إنه طري و مريح . (( هذا لك يا أمي . سأضعه تحت السرير )) ثم أخرجت منديلاً أبيض . تذكرت خصلات شعر أمي .. كانت تكره أن تكشف رأسها . فرشت المنديل على السرير و انسحبت . .
و أنا أعيدها . لم تكلمني . و لم ترد عليَ .. أغلقت الباب ورائي و أنا أتجه بهدوء نحو السيارة . قبل ان انطلق سمعت صوتها يوصيني ان أسوق بهدوء , و عندما رحت أبتعد نظرت في المرآة , فرأيت امرأة تتبعني و تلوح لي بمنديل أبيض .. كانت تشبه أمي و لكن أقصر قليلاً من أمي و أكثر انحناء ظللت بين الشك و اليقين إلى أن عدت بعد فترة لزيارة أمي , فلم أجد حذاء تحت السرير . لقد كان عند الباب و عليه آثار عشب و قد اهترأ قليلاً و العكاز ملقىً عند العتبة .


الصفحات
سياسة








