وما يزيد من حدة الازمة، أن الإصرار على هذا الهدف صار يعني تأمين خرجية يومية لتسيير أمور سورية من قذائف المدفعية ووفود الطائرات إلى رواتب الجيوش والموظفين، وما بينهما من تأمين الطحين والوقود وسواه من مستلزمات الحياة اليومية، في ظل وضع لا أفق لتغييره لا في الامد القريب ولا حتى المتوسط والبعيد وفي ظل حرب باتت الإنجازات فيها تقاس باستعادة السيطرة على مبنى بتكلفة تتجاوز مئات ملايين الدولارات كما يحصل في جوبرّ.
التسريبات التي تم إلتقاطها من طهران ان مجموعة من القيادات الايرانية مثل رئيس مجلس تشخيض النظام هاشمي رفسنجاني وامين عام مجلس الامن القومي علي شمخاني، بالإضافة الى التكنوقراط الحكومي وعلى رأسهم الرئيس حسن روحاني نفسه، باتوا على قناعة بخطأ الرهان على بشار الأسد فضلا عن عدم واقعيته وتكاليفه الباهظة، وإستحالة الإستمرار بهذا المسار وغض النظر عن الأخطار الكبيرة التي يجلبها على بلد محاصر إقتصاديا ويعاني من علاقات سيئة مع جواره الإقليمي، وخاصة في ظل توجهات لتصعيد خليجي قادم، كان تخفيض أسعار النفط جزء من جبل جليده في إطار حرب استقطابية لن يعلم احد الى اين ستصل وماذا ستكلف؟
يدرك هذا التيار أن المحرقة السورية هي التي تسببت بكل هذا الصداع الإيراني، ذلك أن نفوذهم في العراق لم يكن مكلفا بهذا الحجم على إعتبار أن العراق بلد قادر على الإنفاق عن نفسه ولن يكلف ايران شيئا من هذا القبيل، كما ان العالم كان قد تكيّف مع وجود نفوذ ايراني في العراق لم تعترض عليه حتى الدول العربية، وفي لبنان طالما جرى النظر لنفوذ إيران على إعتبار أنه حالة من تقاسم النفوذ مع السعودية، وحتى في اليمن ورغم الدعاية الكبيرة لسيطرة الحوثيين فإن المعادلة هناك لن تلبث أن تصحح نفسها وترجّح كفة الأكثرية هناك في مواجهة الحوثيين، الوضع في سورية مختلف تماما لترافقه مع كارثة إستفزت البيئة العربية السنية في المنطقة بكاملها وشكلت عاملا ضاغطا على حكام المنطقة دفعتهم لإتخاذ إجراءات اكثر تشددا تجاه إيران، وهي حرب لا مصلحة لإيران فيها.
الإدراك الجديد لدى نخبة من القيادات الإيرانية يتمثل بإن إيران قد تستطيع تثبيت بشار الاسد على بعض الأرض السورية وربما لوقت طويل لكنها لن تستطيع جعله يستعيد السيطرة على ثلثي سورية التي خسرها، لكن مقابل ذلك، فإن إيران ستضمن تجميد تطوير إقتصادها وعلاقاتها، في وقت باتت تقاس فيه فعالية الدول ومدى تأثيرها بحجم تطورها الإقتصادي وإنجازاتها العلمية وإسهاماتها الفكرية، ويتزامن ذلك بدرجة كبيرة مع ظهور تيارات داخل المجتمع الإيراني تنحاز الى ثقافة الإستهلاك والرغبة في الإندماج مع المجتمع الدولي ومنظوماته القيمية والثقافية، ويحصل ذلك في وقت يتراجع تأثير النخبة التي صنعت الثورة الإسلامية حيث تعيش طهران في عهد أخر رموز تلك النخبة فيما تظهر في اوساط الشباب رموز فكرية وثقافية جديدة ومختلفة لا تبهرها شخصية مثل قاسم سليماني الذي يبدو انه معروف في الجوار العربي أكثر منه داخل إيران.
الواضح وجود توجهات ايرانية تسعى الى تطوير صيغ وبدائل سياسية جديدة على مستوى السياسة الإقليمية لإيران تتناسب والتقديرات التي تجريها الجهات التي تقف وراءها عن التغيرات الحاصلة في المجتمع الإيراني، والواضح أنها توجهات جدية وواقعية في أهدافها، فهي تنظر للمشروع الإيراني، من زاوية واقعية جدا، من زاوية وصوله إلى ذروته وتوسعه بدرجة كبيرة تفوق طاقات إيران وقدرتها كدولة محاصرة وذات إقتصاد يعتمد على النفط والغاز، ومجتمع منفجر سكانيا ويحتاج لموارد ضخمة لتلبية إحتياجاته في الصحة والتعليم والسكن ووضعه على سكة التطور، وأن إيران يكفيها ان تتقاسم النفوذ مع بعض القوى في الإقليم التي لن تسمح لها بأكثر من ذلك.
ويقف المرشد الخامنئي بوجه تطوير تلك التوجهات، إذ يبني سياساته على أسس مذهبية بغض البصر عن مدى تكاليفها وعوائدها على الداخل الإيراني، ويمتلك تأثيرا كبيرا على أدوات تنفيذ مشروعه المذهبي، من حرس ثوري وأذرع خارجية، ما يعني ان إستمرار هذا النمط من السياسات مرتبط بإستمراره، وتذهب الكثير من التقارير إلى أن صحة الخامنئي في تراجع نتيجة إصابته بمرض البروستات، وقد تتفاقم هذه الحالة في 2015، لدرجة قد تقعده عن ممارسة السياسة وتبعد ظلال تأثيره، الامر الذي قد ينعكس على ملفات إيران الخارجية وخاصة الملف السوري ومصير بشار الاسد بدرجة كبيرة.
------------- أورينت نت