لا سيما في ملف إعادة الإعمار وتوجيه الاستثمارات، وسط غياب شبه كامل للرؤية الموحدة واتخاذ القرارات والبدء في التنفيذ من قبل السلطات المحلية وقيادات المدينة.
*أولاً: ما وراء إعادة الإعمار*
من الناحية الظاهرية، قد يبدو التدخل التركي وكأنه يسدُّ فراغاً في القدرة المحلية على التحرك، خاصة في ظل هشاشة البنية التحتية الإدارية، وضعف أدوات التخطيط الاستراتيجي والحضري، وتأخر مشاريع التطوير العمراني. إلا أن هذا التدخل يتجاوز الإطار الخدمي أو التنموي، ليأخذ طابعاً جيوسياسياً بامتياز. فتركيا لا تتعامل مع حلب باعتبارها مدينة سورية متضررة فحسب، بل تنظر إليها كبوابة تاريخية واقتصادية ذات امتداد استراتيجي باتجاه عمق الأناضول ومصالحها في الإقليم وأكثر
تركيا، من خلال شركاتها، وبلدياتها، وحتى مؤسساتها التعليمية والصحية، تسعى إلى فرض نموذجها التنموي، وبناء “رأسمال رمزي” داخل المدينة، يشكل لاحقًا ركيزة للنفوذ السياسي والاقتصادي والديموغرافي وربما للتفاوض في حلول أو محاور سياسية في سورية.
*ثانياً: الأزمة المحلية – غياب الحوكمة واتخاذ القرار، لا غياب الموارد*
على الجهة المقابلة، تعاني السلطات المحلية في حلب من حالة “شلل إداري” لا يمكن تفسيره فقط بنقص الموارد، وإنما بغياب استراتيجية متكاملة، وتشتت الصلاحيات، وتناقض الرؤى بين مختلف الجهات وجهود كثيرة غير منسقة أو موحدة تحت مظلة استراتيجية واحدة. فبدلًا من أن تكون هناك قيادة موحدة تمتلك خارطة طريق واضحة لإعادة إعمار المدينة وتطويرها وبنائها، نجد مشهدًا من التنافس الداخلي والتردد والتنازع بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.
هذا التخبط انعكس بشكل مباشر على تأخير البدء بتطوير المخطط الاستراتيجي والتنظيمي، وتعطيل أو تأخير مشاريع البنى التحتية، وإضعاف البيئة الجاذبة للاستثمار، ناهيك عن إهمال الحوكمة المجتمعية وإقصاء الكفاءات الحلبية والسورية المؤهلة من مراكز اتخاذ القرار.
*ثالثاً: أهمية وجود خطة استراتيجية شاملة للمدينة*
في ظل التداخلات المتعددة والضغوط السياسية والاقتصادية التي تواجهها حلب، تصبح الحاجة إلى خطة استراتيجية متكاملة أمرًا بالغ الأهمية لا يحتمل التأجيل. فمثل هذه الخطة لا تقتصر على رسم الخطوط العريضة للتنمية، بل تشكل رؤية موحدة تعبّر عن تطلعات المدينة وسكانها، وتُحدد بوضوح الأهداف طويلة وقصيرة المدى، وتُترجمها إلى خطط عمل تنفيذية قابلة للقياس والمتابعة. كما أنها تساهم في تنسيق الجهود بين مختلف الجهات الفاعلة — من بلديات ومؤسسات حكومية، إلى قطاع خاص، ومنظمات مجتمع مدني، وجهات دولية مانحة أو شريكة — وتمنع الازدواجية والتضارب في القرارات والمشاريع. وجود مثل هذه الخطة هو ما يضمن الانتقال من منطق “ردة الفعل” إلى منهجية استباقية مدروسة، تُعيد لحلب مكانتها الاقتصادية والتاريخية التي اكتسبتها، وتضعها على سكة التنمية الحقيقية والمستدامة.
*رابعاً: مكاسب قصيرة الأمد، مخاطر طويلة الأمد*
من الإنصاف القول إن التدخل التركي، من الناحية التنفيذية، أحدث حراكاً ملحوظاً في بعض القطاعات. هناك مشاريع خدمية جارية، وبنى تحتية يتم ترميمها، وربما نوع من الانفتاح الاقتصادي المحدود. إلا أن هذه المكاسب تبقى قصيرة الأمد، ومربوطة بإرادة طرف خارجي ليست أولوياته متطابقة بالضرورة مع المصلحة الوطنية السورية أو الحلبية بشكل خاص.
على المدى الطويل، يُخشى أن يؤدي هذا التغلغل إلى تكريس اعتماد المدينة على الخارج، وتعميق التشظي السيادي، وربما خلق نموذج من “اللامركزية المسيطر عليها” التي تقوّض مبدأ السيادة الوطنية. كما أنه قد يُضعف مستقبلاً من قدرة حلب على أن تتحول إلى عقدة اقتصادية مستقلة، تستقطب استثمارات محلية ودولية بشروطها الذاتية لا بشروط الآخرين.
*خامساً: توصيات للتوازن المطلوب*
*استعادة القرار المحلي*: لا بد من إعادة صياغة منظومة الحوكمة في حلب، وتوحيد المرجعيات التخطيطية والتنفيذية ضمن إطار وطني – محلي مشترك.
*تفعيل الكفاءات المحلية*: على المدينة أن تستعيد أبناءها من الكفاءات الهندسية والاقتصادية والتخطيطية المنتشرة في الداخل والخارج، وإشراكهم فعلياً في صناعة القرار.
*إعداد خطة استراتيجية متكاملة*: تشمل الاقتصاد، والحوكمة، والهوية، والاستثمار، والمجتمع، وغيره من أساسيات أي استراتيجية لمدينة مثل حلب وتكون الأساس للتفاوض مع أي طرف خارجي من موقع قوة وضمن أطر علمية متفق عليها.
*ترشيد التعاون مع تركيا*: يمكن العمل مع الجانب التركي ضمن مشاريع محددة ومؤطرة استراتيجياً وقانونياً، ولكن يجب ألا يكون التعاون على حساب استقلالية القرار أو أولوية المصلحة الوطنية.
*الخاتمة*
إن ما يجري في حلب اليوم ليس مجرد منافسة على مشاريع إعادة الإعمار، بل هو سباق على رسم مستقبل المدينة ودورها في سوريا الغد. وإذا لم تبادر القيادات المحلية إلى استعادة زمام المبادرة، فإن المدينة قد تجد نفسها مجددًا رهينة لمعادلات خارجية، تُفرض عليها، بدلًا من أن تصنعها.
*حلب*، بتاريخها وموقعها ومواردها وشعبها، تستحق أكثر من أن تكون ورقة تفاوض على طاولة المصالح الإقليمية. إنها تستحق أن تعود كما كانت، مركزاً اقتصادياً، وحضارياً، وسياسياً، تقوده نخبتها، لا تُدار من خارجها.
-----------
(*د. رشاد قنبر - مستشار استراتيجي، وخبير في تطوير المدن والحوكمة الحضرية والتحول*)
*أولاً: ما وراء إعادة الإعمار*
من الناحية الظاهرية، قد يبدو التدخل التركي وكأنه يسدُّ فراغاً في القدرة المحلية على التحرك، خاصة في ظل هشاشة البنية التحتية الإدارية، وضعف أدوات التخطيط الاستراتيجي والحضري، وتأخر مشاريع التطوير العمراني. إلا أن هذا التدخل يتجاوز الإطار الخدمي أو التنموي، ليأخذ طابعاً جيوسياسياً بامتياز. فتركيا لا تتعامل مع حلب باعتبارها مدينة سورية متضررة فحسب، بل تنظر إليها كبوابة تاريخية واقتصادية ذات امتداد استراتيجي باتجاه عمق الأناضول ومصالحها في الإقليم وأكثر
تركيا، من خلال شركاتها، وبلدياتها، وحتى مؤسساتها التعليمية والصحية، تسعى إلى فرض نموذجها التنموي، وبناء “رأسمال رمزي” داخل المدينة، يشكل لاحقًا ركيزة للنفوذ السياسي والاقتصادي والديموغرافي وربما للتفاوض في حلول أو محاور سياسية في سورية.
*ثانياً: الأزمة المحلية – غياب الحوكمة واتخاذ القرار، لا غياب الموارد*
على الجهة المقابلة، تعاني السلطات المحلية في حلب من حالة “شلل إداري” لا يمكن تفسيره فقط بنقص الموارد، وإنما بغياب استراتيجية متكاملة، وتشتت الصلاحيات، وتناقض الرؤى بين مختلف الجهات وجهود كثيرة غير منسقة أو موحدة تحت مظلة استراتيجية واحدة. فبدلًا من أن تكون هناك قيادة موحدة تمتلك خارطة طريق واضحة لإعادة إعمار المدينة وتطويرها وبنائها، نجد مشهدًا من التنافس الداخلي والتردد والتنازع بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية.
هذا التخبط انعكس بشكل مباشر على تأخير البدء بتطوير المخطط الاستراتيجي والتنظيمي، وتعطيل أو تأخير مشاريع البنى التحتية، وإضعاف البيئة الجاذبة للاستثمار، ناهيك عن إهمال الحوكمة المجتمعية وإقصاء الكفاءات الحلبية والسورية المؤهلة من مراكز اتخاذ القرار.
*ثالثاً: أهمية وجود خطة استراتيجية شاملة للمدينة*
في ظل التداخلات المتعددة والضغوط السياسية والاقتصادية التي تواجهها حلب، تصبح الحاجة إلى خطة استراتيجية متكاملة أمرًا بالغ الأهمية لا يحتمل التأجيل. فمثل هذه الخطة لا تقتصر على رسم الخطوط العريضة للتنمية، بل تشكل رؤية موحدة تعبّر عن تطلعات المدينة وسكانها، وتُحدد بوضوح الأهداف طويلة وقصيرة المدى، وتُترجمها إلى خطط عمل تنفيذية قابلة للقياس والمتابعة. كما أنها تساهم في تنسيق الجهود بين مختلف الجهات الفاعلة — من بلديات ومؤسسات حكومية، إلى قطاع خاص، ومنظمات مجتمع مدني، وجهات دولية مانحة أو شريكة — وتمنع الازدواجية والتضارب في القرارات والمشاريع. وجود مثل هذه الخطة هو ما يضمن الانتقال من منطق “ردة الفعل” إلى منهجية استباقية مدروسة، تُعيد لحلب مكانتها الاقتصادية والتاريخية التي اكتسبتها، وتضعها على سكة التنمية الحقيقية والمستدامة.
*رابعاً: مكاسب قصيرة الأمد، مخاطر طويلة الأمد*
من الإنصاف القول إن التدخل التركي، من الناحية التنفيذية، أحدث حراكاً ملحوظاً في بعض القطاعات. هناك مشاريع خدمية جارية، وبنى تحتية يتم ترميمها، وربما نوع من الانفتاح الاقتصادي المحدود. إلا أن هذه المكاسب تبقى قصيرة الأمد، ومربوطة بإرادة طرف خارجي ليست أولوياته متطابقة بالضرورة مع المصلحة الوطنية السورية أو الحلبية بشكل خاص.
على المدى الطويل، يُخشى أن يؤدي هذا التغلغل إلى تكريس اعتماد المدينة على الخارج، وتعميق التشظي السيادي، وربما خلق نموذج من “اللامركزية المسيطر عليها” التي تقوّض مبدأ السيادة الوطنية. كما أنه قد يُضعف مستقبلاً من قدرة حلب على أن تتحول إلى عقدة اقتصادية مستقلة، تستقطب استثمارات محلية ودولية بشروطها الذاتية لا بشروط الآخرين.
*خامساً: توصيات للتوازن المطلوب*
*استعادة القرار المحلي*: لا بد من إعادة صياغة منظومة الحوكمة في حلب، وتوحيد المرجعيات التخطيطية والتنفيذية ضمن إطار وطني – محلي مشترك.
*تفعيل الكفاءات المحلية*: على المدينة أن تستعيد أبناءها من الكفاءات الهندسية والاقتصادية والتخطيطية المنتشرة في الداخل والخارج، وإشراكهم فعلياً في صناعة القرار.
*إعداد خطة استراتيجية متكاملة*: تشمل الاقتصاد، والحوكمة، والهوية، والاستثمار، والمجتمع، وغيره من أساسيات أي استراتيجية لمدينة مثل حلب وتكون الأساس للتفاوض مع أي طرف خارجي من موقع قوة وضمن أطر علمية متفق عليها.
*ترشيد التعاون مع تركيا*: يمكن العمل مع الجانب التركي ضمن مشاريع محددة ومؤطرة استراتيجياً وقانونياً، ولكن يجب ألا يكون التعاون على حساب استقلالية القرار أو أولوية المصلحة الوطنية.
*الخاتمة*
إن ما يجري في حلب اليوم ليس مجرد منافسة على مشاريع إعادة الإعمار، بل هو سباق على رسم مستقبل المدينة ودورها في سوريا الغد. وإذا لم تبادر القيادات المحلية إلى استعادة زمام المبادرة، فإن المدينة قد تجد نفسها مجددًا رهينة لمعادلات خارجية، تُفرض عليها، بدلًا من أن تصنعها.
*حلب*، بتاريخها وموقعها ومواردها وشعبها، تستحق أكثر من أن تكون ورقة تفاوض على طاولة المصالح الإقليمية. إنها تستحق أن تعود كما كانت، مركزاً اقتصادياً، وحضارياً، وسياسياً، تقوده نخبتها، لا تُدار من خارجها.
-----------
(*د. رشاد قنبر - مستشار استراتيجي، وخبير في تطوير المدن والحوكمة الحضرية والتحول*)