
كيف تأتي المصادفات أحياناً متتابعة وغير منتظمة كتصفيق صبية فرحة بكفيها المحناة؟ هكذا.. قبل أيام كنت أقرأ عن بعض مقاهي بغداد وتناثر المثقفين من حولها وغيابهم القسري نحو أوجاع اليوم وتعب الفاقة، ومحو تفاصيل مدينتهم التي يحبونها كماء عيونهم، فكان الشوق وكثير من التوق لتلك المدينة، ففز القلب كحمامة بيضاء أجفلتها الريح وخشخشة الورق اليابس، ملقياً ذلك الحنين الذي لم يغب، وطال الغياب، فتمنيت لو أنها تأتي تلك الأمنية التي زاغاها القلب بخطفة ملك يوزع البشارات.. خبأت تلك الفرحة الباردة، وأغمضت عيني، وتذكرت عاداً على أصابعي كتلميذ غير نجيب في الحساب، لأجد أن الوداع الأخير قد مضى عليه واحد وعشرون عاماً إلا أياما.
بعد يومين، جاءني هاتف سنذهب إلى بغداد، فتذكرت الأمنية وتلك المصادفات التي تشبه إيقاعاً غير منتظم لكفي صبية محناة، ترى كيف هي بغداد؟ وكيف هي أحوالها بعد أعوام طوال وثقال؟ أما زال ذلك الفجر الندي له بعض من عطرها؟ وتلك اليقظة الصباحية لبيوت كانت ساهرة وعامرة بأهلها الذين يحملون تلك الرفعة، وذلك الاعتداد بالنفس الصادق، أما زالت تلك البنات القادمات من جهة أكاديمية الفنون الجميلة يتضاحكن للمستقبل وللون حين يصبح طابعاً للحياة؟ أما زالت أصابعهن الرفيعة كأعواد الأراك تتخلل ذلك الشعر المشاغب المنثال على الجبهة والعين، يفعلنها دلاً وغنجاً ما زالا يكبران مع الأنوثة التي تتستر بالقميص الأبيض عادة، أما زال سوق الشورجة بتلك الروائح التي تعلق بالثياب وتشهد عليك الناس أنك مررت ذلك النهار من هناك، وسمعت ورديت «الله بالخير» على المارين غير المستعجلين، وعلى الواقفين أمام أبواب حوانيتهم يتفحصون المتسوقين؟ أما زال شارع المتنبي ودكاكين الورّاقين والكتب المتربة؟ أما زال سوق الصفارين؟ هل خف ضجيج مقهى الشهبندر؟ أما زالت تلك العجائز المفترشات الأرض يبعن القيمر وحاجيات تصنع في البيوت؟ يسرقن من وقتهن ويدخن التتن، وسجائر من ضجر، ليتهم لم يخربوا قوس وسيف النصر، وتلك اليد العربية القابضة على شيء من مجد! وأخاف أكثر ما أخاف على كهرمانة ولصوص علي بابا، تمثال أبي جعفر المنصور قيل لي إنه قطع رأسه انتقاماً للتاريخ، والسعدون.. شارع السعدون أما زالت تلك المكتبات التي تتوسد الأرصفة تقرأ فيها المشهد العربي؟ وواجهات زجاجية يمكث عندها الناس متأملين ما يعرض من بضائع سيفرحون لو انتقلت إلى خزائن ملابسهم، هل أم كلثوم ما زالت تصدح بالغناء في مقهاها؟ لا.. لا تقولوا إن ليل بغداد تغير، وإن أبا نواس يذهب للنوم مبكراً، غير مسامر شهرزاد أو فريدة، وإن البلم صار يقلبه أقل موج دجلة.. كنت بحاجة إلى صوت أم لأقول لها دثريني يا أماه، لقد أبصرت بغداد.. وابيضّت عيناي!
أين ذلك الشارع المخضّر كغابة بلا نهاية، تحف به الأشجار عن يمين وشمال، يقودك من المطار إلى حاضرة الرشيد؟ بل أين شارع الرشيد الذي كنا نعرفه؟ لما يشبه اليوم مرآب البلديات؟ لما كل هذه الكتل الأسمنتية، والحديد الصدئ النافر منها كرماد يؤذي العيون؟ لما غابت رائحة الشواء بجانب النهر، والمسقوف خبت ناره، ولا سارت باشتهائه ريح الليل للمشائيين؟ لا تقولوا إنه ما عاد هناك خبز صمون وراشي ودبس، وأن الناس ما عادت تعمل التمر المدبّس أو المعسل بالسمسم وحبة البركة، والذي طعمه في الفم ما برح منذ ذلك الوقت حتى ما بعد اليوم، لا تقولوا إن خان مرجان كف عن الإنشاد والطرب وقول المقام البغدادي، وجرّ تلك النغمة الحسينية المتحشرجة التي فيها بكاء وحزن التاريخ، أما زال للشاي الطوخ طعم احتراق الحطب ودفء السماور، وشفافية الاستكانة البلور، وتلك القرقعة المتراقصة التي تعملها الخاشوكة الصغيرة بمرح وهي تمازج السكر، وتقول: لا تسكر!
أما زالت سيارات الأجرة أم الألوان البرتقالية تتألم من كسر في زجاجها الأمامي، وسائقوها لا يعبأوون بثرثرتهم وتعليقاتهم الفحولية تجاه أشياء الحياة؟ لا.. لا تقولوا إن تلك الفتاة التي ما تزال تتمطى فرحة بجغرافية الجسد، تهرع من شرفتها إلى السطح حالمة بأغنية بريئة لعبد الحليم أو حسين نعمة مهداة بارتباك لابن الجيران، غيبتها الوعود بالنيران، لا تقولوا إن تلك الدور كلها سافرت لإنجلترا، وهاجرت لكندا وأستراليا، وهربت إلى النرويج، ورحّلت إلى أميركا، لا تقولوا إن العجوز المتدثر ببدلة إنجليزية ذات صوف عسكري مقلم، ومفصلة عند “ترزي” قديم يعرفه، ومخلص له، ويعتمر قبعة وبرية لدب ثلجي جلبها له نضاله في تلك البقاع الشرقية، بعكازته التي تعرف الدرب قد مات كمداً على مدينته، لا تقولوا إنكم لا تعرفون قبره أو نسيتم اسمه ورسمه، وأين فتاتي “بغذاذ” تلك التي تمضغ لهجتها كحبة بلح ناضجة؟ و”تتشاقى” عليّ، وتخبئ عطرها عني في أماكن بمحاذاة القرط إلا قليلاً، في معصم ليته يقترب من الأنف قليلاً، وفي أماكن دافئة تقود البصيرة لها في عمى التمني ورغبة الفرح والبكاء!
لا تقولوا لي إن بغداد هذه، لا ليل ولا صدق ولا شعر ولا أصدقاء، لا تقولوا إن الكرادة تغيرت، وإن الكاظم غابت في السواد، ولا رصافة يحّن لها ولا جسر، ولا عيون تجلب الهوى ولا أحد يدري بما يجري، ليت شجني ودمعي يبلل عتبة تلك الدور، أشكو لتلك النخيل التي ضرها الرماد، ونهر له حنان الجد كدجلة الخير، وأرض السواد، والفرات جفت أضرعه، ولا فاد ما مضى أو عاد، سلام على أحبتي في بغداد.. عَدّ حرف الألف والباء والجيم والضاد!