نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


الغضب يليق بأمجد ناصر





كثيرون لا بد قد لاحظوا أن نص الشاعر أمجد ناصر، ونشره أخيرا، "قناع المحارب" قد اتسم بالغضب، لا بالشجن وحده، فهو بين قلةٍ من شعراء يحضر الموت جزئيا، عابرا وجانبيا، في قصائدهم، باستثناء المراثي. يصعب تقصّي ثيمة الموت في شعره، إذا كان الأمر يرتفع إلى مصافّ ملمحٍ رئيسي، ثابت ومتكرر. لقد اتسمت قصيدته الأخيرة (وما تخللها من مقاطع سردية تقريرية)، بين ما اتسمت به، بنبرة غضب من "الشيء القائم": ما مشكلتك معي؟ وحين يقدح الغضب، فإن النفس تجنح إلى الشجار وترتفع وتيرة التقريع: لا تسترد دينك من الذين يمرّون في هذه الدنيا/ كما تمرّ أنفاس الرعاة في قصب الناي..". هكذا واجه أمجد الخطر الداهم بأكبر قدر من الشعور بالكرامة الإنسانية، محتفظا بطبع الغضب الذي نشأ عليه، "سوف ألقنك مواثيق الرجال/ كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة"، وبرقّة الشاعر الذي هذّبته الكلمات وهذّبها، في مسيرة غير قصيرة حافلة بالتجديد، إذ ظل معنيا بتجديد ذاته الشاعرة، والخروج منها وعليها، بأكثر مما كان معنيا بتجديد الشعر برمته.


 
وقد كان من الخفّة البالغة تصويره أنه يرثي نفسه في هذا النص، إذ كان، في واقع الحال، يناجي النفس ويناور لعبة الحياة، ويدعو الموت إلى النزال. وكانت تقارير صحفية زادت على حكاية رثاء النفس بأن الشاعر يرفع الراية البيضاء!. وهو استخلاصٌ عجيب، فأمجد ليس من حملة الرايات، وليس محسوبا على "شعراء الراية " حسب تصنيف فوزي كريم، الشاعر العراقي الذي رافقه في المهجر اللندني، وانسحب من الحياة في ذروة مرض أمجد، إذ إنه يكتفي بإشهار أسئلته وهواجسه، ويروي وقائع احتكاكه بالحياة. أجل احتكاك. والتعبير ينسجم مع الطابع الحسي الذي يتسم به قاموسه الشعري، وينسجم مع رؤيته الإبداعية، وذلك لتحرير المجاز من وظيفته الاستبدالية في وصف الأشياء وتسميتها.
مؤلم أن يبدو أمجد تحت وطأة العارض الصحي الجسيم عاجزا، أو شبه عاجز، عن اجتراح 
الكتابة مجدّدا، ويكاد في الأثناء يفقد ذاته التي صنعها بنفسه، عبر الترحال والتجربة والتثقيف والمثاقفة، بعد الذات الأولى التي خرجت إلى الوجود بيولوجيا. أن يعاين خسارته رأسماله الذي بناه بجهده وعرقه واختياراته الحرّة والجسورة. حيث زاوج باقتدار بين الشعر والنثر، وبين القصيدة والسرد، وكما تبدى جليا في نصه الأخير، وأن تبدو الحياة في هذه المحطة "كسرد متقطع".
من المؤلم هذا، لأن المبدع يعيش حياة ثانية، مستقلة نسبيا عن جسده البيولوجي (كلما تقدّم المرء في العمر، يختبر بسهولة كيف يستقل عن جسده، وينساه، وكيف تحلق روحُه وتهيم منفردة)، فإذا ما أصاب جسد المبدع وهن أو اضطراب، أو انكسار، فما شأن كيانه، أو إهابه الآخر بما يحدث؟ لماذا يستتبع الكيان الثاني ذاك الأول، ولماذا لا يحدث العكس بأن يأتمر الجسد بأوامر الكيان الناشئ؟ تلك هي لعبة الحياة ولعنتها، فالكائن البشري، بما فيه الخلاق المبتكر، يولد وينمو ويتزاوج ويهرم ويهدّده المصير المحتوم، شأنه في ذلك شأن أدنى الكائنات، المعروفة منها أو المجهولة، المرئية وتلك التي تتعذّر رؤيتها بالعين المجردة.
(2)
استهل أمجد حياته راديكالياً في السياسة، وفي الشعر الأول الذي لم يجمعه لاحقا. وسرعان ما أدرك أن الإبداع يشقّ طريقه الخاص، متحرّرا من كل ما يثقله من خارجه. وبقي أمينا لنزعة تحرّرية، وفي تبني قضايا بسطاء الناس، وسمت بدايته مع استخلاص الدروس من التجربة وتبريد الرأس، وإعادة النظر في محتوى مفاهيم اليسار واليمين. وقد أصيب في وقتٍ ساد الجحيم البشري في ديار العروبة وعلى أيدي أنظمة متوحشة. وهو ما يعكسه ديوانه الجديد "مملكة آدم" الذي اطلع كاتب هذه السطور على قصائد منه. وبينما تساقطت البراميل المتفجرة على بيوت الناس العزل، فقد اختار السرطان نموذجا شديد التصغير للبرميل المتفجر، لكي يستقر في رأسه، وأن ينمو هناك، ويتسبب على مدى عام بصداع للشاعر، لا يقل فداحةً عن "الصداع الكوني".
بهذا، عاد أمجد إلى الناس (من دون أن يفارقهم، بل اختار حيزه الخاص)، ليأخذ معهم حصته الكبيرة من الجحيم، أسوة بما لا يُحصى من ضحايا ومصابين ممن ضجر الأصحّاء من متابعة محنتهم... فيما اعتبرهم رفاق سابقون لأمجد بأنهم لا يستحقون الانشغال بهم، والتوقف عندهم في معمعة "النضال ضد الإمبريالية".
(3)
يصف أمجد حياته بأنها "لا توسط فيها. تطرف. مراودة الأقصى"، كما كتب في نصه الأخير، والحق أنه كان متطرّفا في ولائه للشعر وللإنسان بعامة. وخلا ذلك، كان يعرف، في دخيلته، 
أنه منذور للتعدّدية، منذ اختار يحيى نميري النعيمي (أو النعيمات) أن يتسمّى بأمجد ناصر. الكائن البيولوجي: يحيى، والإبداعي: أمجد. وقد عاد له اسمه في ملفه الطبي، وعلى ألسنة الأطباء والممرّضين، كما كان يعود إليه في أقسام الجوازات واستقبال الفنادق. وبعدئذ بات: أردنيا وفلسطينيا معا، مع احتسابه قضية فلسطين قضيته الوطنية والشخصية. ثم وقع في هوى قبرص التي لجأ إليها عقب غزوة 1982 الإسرائيلية، فكاد يصبح عربيا قبرصيا. ومع إقامته في بريطانيا، وتجنسه بجنسيتها بات عربياً بريطانياً. وفي إبداعه زاوج الشعر بالنثر. وبين كتابة الشعر والنثر الخالص. وفي حياته المهنية، زاوج بين الإعلام والإبداع. وبهذا، فقد تحالفت الأقدار والخيارات الشخصية على أن تصبح هويته مركبة، وذاته موئلاً للثنائيات والتعدّدية المتعايشة والمتجاورة كزوجات المِزواج.
(4)
لم تكتف بعض الصحافة السريعة والمتسرّعة بوصفه أنه قد رثى نفسه، إذ أضاف بعضها، قبل أيام، ما يفيد باستعجال المكروه. وتلك عادة درجت عليها بعض هذه الصحافة، ومعها منصات التواصل، في إماتة الأحياء، كما فعلت مع محمد الفيتوري ومظفر النواب وسواهما، وذلك بناء على شطارةٍ بائسة، تقوم على أن مثل هذا الحدث "متوقع"، و"يمكن الخبر يزبط" (لعله يصح)، بأن يفارق إنسانٌ الحياة، كي يصح خبرنا ــ السبق. بمثل هذه الخفّة، يتم التلاعب بمصير شاعر زميل. وهذا هو مآل بعض الصحافات، في المهنة التي اختارها الشاعر، بعدما أدركته حرفة الأدب.
-------------
العربي الجديد

محمود الريماوي
السبت 15 يونيو 2019