لقد حيّدت معظم تهديداتها الإقليمية الخطيرة، ولم تدخل أي دولة عربية في حرب مباشرة معها منذ عقود. كما واصلت إضعاف خصومها من غير الدول، محققة انتصارات استخباراتية وعسكرية لافتة ضد حزب الله في لبنان، وواصلت عمليات “قطع الرأس” لقيادات حماس في غزة. أما هجومها على إيران فقد حقق نجاحًا عسكريًا لا يمكن إنكاره عبر تدمير المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية، وأظهر اختراقًا استخباراتيًا عميقًا من خلال اغتيال قيادات عسكرية وعلماء نوويين بارزين. وقد عزز قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانضمام إلى الهجوم من شعبية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو داخليًا.
ومع ذلك، فإن هذه الانتصارات ليست مطلقة. فقد شكك خبراء في مدى الضرر الفعلي الذي أصاب البرنامج النووي الإيراني، بل واعتبروا أن الهجمات قد تزيد من تمسك القيادة الإيرانية بتطوير السلاح النووي. كما استمرت هجمات الحوثيين الصاروخية والطائرات المسيّرة على إسرائيل، مما يدل على أن تقويض شبكة وكلاء إيران ما زال جاريًا. وقد أقرّ رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، الفريق أيال زامير، في تصريحات أواخر يوليو، بأن “إيران ومحورها لا يزالان في مرمانا؛ والحملة ضد إيران لم تنتهِ بعد”. ومع كل هذه التحديات، لا تزال النظرة العامة في إسرائيل ترى أن ميزان القوى الإقليمي يصب في صالحها.
وقد تكون هذه اللحظة هي الأنسب لإسرائيل لاستثمار تفوقها الاستراتيجي وتحويل النصر العسكري إلى مكاسب دبلوماسية، عبر استئناف مفاوضات مع الفلسطينيين تفضي إلى استقرار طويل الأمد، وتشجع جيرانها العرب على التطبيع. بعد حرب 1973، استخدم الرئيس المصري أنور السادات إنجازاته العسكرية لاتخاذ قرار استراتيجي بالسلام.
لكن نتنياهو لا يقود بلاده في هذا الاتجاه. فرغبته في “نصر كامل” غذّت حملة عسكرية مدمرة في غزة وخارجها، دون اكتراث يُذكر لما خلّفته من أضرار على علاقات إسرائيل الإقليمية والدولية، فضلًا عن الآثار الإنسانية الكارثية.
وإذا كان نتنياهو يفكر في المستقبل، فإنه يرى في النجاحات العسكرية خلال الـ18 شهرًا الماضية فرصة لصياغة نظام إقليمي جديد، من خلال أجندة حدّية. إذ يعتقد أنه بإمكانه التوصل إلى اتفاقات تطبيع وعدم اعتداء مع قوى عربية كلبنان والسعودية وسوريا، دون تقديم تنازلات جدية في الملف الفلسطيني أو الحدّ من حرية إسرائيل في استخدام القوة. حتى لو أحرزت إسرائيل تقدمًا محدودًا في هذه الاتفاقات بعد انتهاء الحرب في غزة، فإن أي اتفاقات لا تعالج جوهر الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ستفتقر إلى الدعم الشعبي في الدول المجاورة، وقد تكون شرارة لصراعات جديدة.
وكان العديد يأملون أن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران في يونيو سيحيي الجهود الدبلوماسية بشأن غزة، بعد شهور من الجمود. فوفقًا لهذا المنطق، فإن نجاح نتنياهو ضد إيران سيزيل الخوف من أن إنهاء الحرب يهدد بقاءه السياسي. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن معظم الإسرائيليين يريدون إنهاء القتال في غزة لتأمين إطلاق سراح الرهائن. استُؤنفت المفاوضات في 6 يوليو في الدوحة، لكنها لم تثمر اتفاقًا؛ بل كانت المباحثات تدور حول وقف مؤقت لإطلاق النار وتبادل محدود للأسرى، لا حول إنهاء الحرب بالكامل.
في غضون ذلك، تواصل القيادة الإسرائيلية تنفيذ خطط ترحيل سكان غزة إلى مناطق “إنسانية” محدودة في الجنوب، والهدف الضمني – المفهوم على نطاق واسع – هو الإخراج التدريجي لغالبية السكان من القطاع. وقد وصف باحثون إسرائيليون، بل وحتى موشيه يعلون، هذه الخطط بأنها ترقى إلى جرائم حرب. ويبدو أن مسؤولي إسرائيل يعتقدون أن ترامب يدعم هذا المسار، لا سيما أن ذلك يتماشى مع مقترحه السابق بتحويل غزة إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”.
ورغم أن إسرائيل تقول إنها لا تنوي البقاء في غزة، فإنها تسيطر فعليًا على معظمها. وفي تصريحات لسفيرها لدى الأمم المتحدة، قال إن إسرائيل “ستحتفظ بحقها الأمني في غزة، كما هو الحال في يهودا والسامرة” – وهو الاسم الإسرائيلي للضفة الغربية المحتلة. وهذا يعني أن الاحتلال العسكري مرشح للاستمرار، بل وربما التوسع ليشمل أجزاء من غزة أيضًا.
كل ذلك يشير إلى أن الحرب مع إيران لم تغيّر وجهة نظر نتنياهو الجوهرية تجاه المنطقة. فهو يرى أن النصر العسكري يؤكد أن القوة تؤتي ثمارها، ما يجعل التسوية مع الفلسطينيين غير ضرورية لتحقيق أهدافه الإقليمية. من وجهة نظره، على المنطقة أن تتكيف مع الرؤية الإسرائيلية، لا العكس. ويرى أن قادة العرب يتوقون للاستفادة من القوة التكنولوجية والعسكرية لإسرائيل. ورغم البيانات الغاضبة والقمم العربية الرافضة للحرب في غزة، فإن أياً من الموقعين على اتفاقيات أبراهام لم ينسحب منها. كما لم تلوّح مصر أو الأردن بإلغاء اتفاقات السلام، بل إن الأردن ساعد في الدفاع عن إسرائيل ضد هجمات إيرانية في العام السابق. ويعتقد نتنياهو أن هذه الدول – في العمق – تتقاطع مع مصالح إسرائيل في احتواء إيران، التي يعتبرونها التهديد الأكبر.
يعتقد بعض الإسرائيليين أن السعودية سترضى بالقليل بعد أن تنتهي الحرب. لكن الرياض، التي قدمت تنازلات سياسية كبيرة بربط التطبيع بالدولة الفلسطينية، لن تتراجع بسهولة. كما أنها لا تحتاج لإسرائيل كي تُرضي واشنطن؛ فصفقات الاستثمار والسلاح خلال زيارة ترامب الأخيرة كانت كفيلة بتحقيق ذلك.
في الوقت ذاته، سعت السعودية ودول الخليج لتخفيف التوتر مع إيران، وفضلت الانخراط الدبلوماسي بدلًا من الحروب، في ضوء تركيزها على التنمية الداخلية. وعلى الرغم من ترحيبها بتقليص قدرات إيران، فإنها لم تُبارك الهجمات الإسرائيلية، التي وضعت المنطقة على حافة الحرب الشاملة. وكان الهجوم الإيراني الانتقامي على قاعدة أمريكية في قطر تذكيرًا بأن النزاع الإسرائيلي-الإيراني يعرض الخليج للخطر.
ويُنظر اليوم إلى إسرائيل – خاصة بعد حرب غزة وضرباتها في سوريا – كقوة مقلقة للاستقرار، وليست منقذة للمنطقة. ففي سوريا، رُصدت ضربات إسرائيلية لمواقع حكومية في دمشق بذريعة حماية الطائفة الدرزية. لكن القيادة السورية الجديدة رأت فيها محاولة لتقسيم البلاد، وأكد المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، أن التوقيت كان سيئًا، وعقّد الجهود الأمريكية لتحقيق الاستقرار.
لقد دعمت إدارة ترامب رفع العقوبات عن النظام السوري الجديد، وأرسلت إشارات دعم سياسي واضحة عبر لقاء رفيع في الرياض بين ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع. وكانت واشنطن تأمل بترجمة ذلك إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل، وربما ضمّ سوريا إلى اتفاقيات أبراهام. لكن التصعيد الإسرائيلي أعاق هذه الخطوة.
لقد سُخر من شمعون بيريز عندما تحدث عن “شرق أوسط جديد” يقوم على التعاون الاقتصادي والتكامل الإقليمي انطلاقًا من السلام مع الفلسطينيين. أما الحديث اليوم عن شرق أوسط جديد قائم على الهيمنة العسكرية الإسرائيلية دون أفق سياسي، فليس أقل طوباوية – بل أكثر خطورة. فهو يعيد إسرائيل إلى النقطة التي بدأت منها.
-------------
ومع ذلك، فإن هذه الانتصارات ليست مطلقة. فقد شكك خبراء في مدى الضرر الفعلي الذي أصاب البرنامج النووي الإيراني، بل واعتبروا أن الهجمات قد تزيد من تمسك القيادة الإيرانية بتطوير السلاح النووي. كما استمرت هجمات الحوثيين الصاروخية والطائرات المسيّرة على إسرائيل، مما يدل على أن تقويض شبكة وكلاء إيران ما زال جاريًا. وقد أقرّ رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، الفريق أيال زامير، في تصريحات أواخر يوليو، بأن “إيران ومحورها لا يزالان في مرمانا؛ والحملة ضد إيران لم تنتهِ بعد”. ومع كل هذه التحديات، لا تزال النظرة العامة في إسرائيل ترى أن ميزان القوى الإقليمي يصب في صالحها.
وقد تكون هذه اللحظة هي الأنسب لإسرائيل لاستثمار تفوقها الاستراتيجي وتحويل النصر العسكري إلى مكاسب دبلوماسية، عبر استئناف مفاوضات مع الفلسطينيين تفضي إلى استقرار طويل الأمد، وتشجع جيرانها العرب على التطبيع. بعد حرب 1973، استخدم الرئيس المصري أنور السادات إنجازاته العسكرية لاتخاذ قرار استراتيجي بالسلام.
لكن نتنياهو لا يقود بلاده في هذا الاتجاه. فرغبته في “نصر كامل” غذّت حملة عسكرية مدمرة في غزة وخارجها، دون اكتراث يُذكر لما خلّفته من أضرار على علاقات إسرائيل الإقليمية والدولية، فضلًا عن الآثار الإنسانية الكارثية.
وإذا كان نتنياهو يفكر في المستقبل، فإنه يرى في النجاحات العسكرية خلال الـ18 شهرًا الماضية فرصة لصياغة نظام إقليمي جديد، من خلال أجندة حدّية. إذ يعتقد أنه بإمكانه التوصل إلى اتفاقات تطبيع وعدم اعتداء مع قوى عربية كلبنان والسعودية وسوريا، دون تقديم تنازلات جدية في الملف الفلسطيني أو الحدّ من حرية إسرائيل في استخدام القوة. حتى لو أحرزت إسرائيل تقدمًا محدودًا في هذه الاتفاقات بعد انتهاء الحرب في غزة، فإن أي اتفاقات لا تعالج جوهر الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ستفتقر إلى الدعم الشعبي في الدول المجاورة، وقد تكون شرارة لصراعات جديدة.
- من موقع قوة؟
وكان العديد يأملون أن وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران في يونيو سيحيي الجهود الدبلوماسية بشأن غزة، بعد شهور من الجمود. فوفقًا لهذا المنطق، فإن نجاح نتنياهو ضد إيران سيزيل الخوف من أن إنهاء الحرب يهدد بقاءه السياسي. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن معظم الإسرائيليين يريدون إنهاء القتال في غزة لتأمين إطلاق سراح الرهائن. استُؤنفت المفاوضات في 6 يوليو في الدوحة، لكنها لم تثمر اتفاقًا؛ بل كانت المباحثات تدور حول وقف مؤقت لإطلاق النار وتبادل محدود للأسرى، لا حول إنهاء الحرب بالكامل.
في غضون ذلك، تواصل القيادة الإسرائيلية تنفيذ خطط ترحيل سكان غزة إلى مناطق “إنسانية” محدودة في الجنوب، والهدف الضمني – المفهوم على نطاق واسع – هو الإخراج التدريجي لغالبية السكان من القطاع. وقد وصف باحثون إسرائيليون، بل وحتى موشيه يعلون، هذه الخطط بأنها ترقى إلى جرائم حرب. ويبدو أن مسؤولي إسرائيل يعتقدون أن ترامب يدعم هذا المسار، لا سيما أن ذلك يتماشى مع مقترحه السابق بتحويل غزة إلى “ريفيرا الشرق الأوسط”.
ورغم أن إسرائيل تقول إنها لا تنوي البقاء في غزة، فإنها تسيطر فعليًا على معظمها. وفي تصريحات لسفيرها لدى الأمم المتحدة، قال إن إسرائيل “ستحتفظ بحقها الأمني في غزة، كما هو الحال في يهودا والسامرة” – وهو الاسم الإسرائيلي للضفة الغربية المحتلة. وهذا يعني أن الاحتلال العسكري مرشح للاستمرار، بل وربما التوسع ليشمل أجزاء من غزة أيضًا.
كل ذلك يشير إلى أن الحرب مع إيران لم تغيّر وجهة نظر نتنياهو الجوهرية تجاه المنطقة. فهو يرى أن النصر العسكري يؤكد أن القوة تؤتي ثمارها، ما يجعل التسوية مع الفلسطينيين غير ضرورية لتحقيق أهدافه الإقليمية. من وجهة نظره، على المنطقة أن تتكيف مع الرؤية الإسرائيلية، لا العكس. ويرى أن قادة العرب يتوقون للاستفادة من القوة التكنولوجية والعسكرية لإسرائيل. ورغم البيانات الغاضبة والقمم العربية الرافضة للحرب في غزة، فإن أياً من الموقعين على اتفاقيات أبراهام لم ينسحب منها. كما لم تلوّح مصر أو الأردن بإلغاء اتفاقات السلام، بل إن الأردن ساعد في الدفاع عن إسرائيل ضد هجمات إيرانية في العام السابق. ويعتقد نتنياهو أن هذه الدول – في العمق – تتقاطع مع مصالح إسرائيل في احتواء إيران، التي يعتبرونها التهديد الأكبر.
- سوء تقدير في قراءة المواقف
يعتقد بعض الإسرائيليين أن السعودية سترضى بالقليل بعد أن تنتهي الحرب. لكن الرياض، التي قدمت تنازلات سياسية كبيرة بربط التطبيع بالدولة الفلسطينية، لن تتراجع بسهولة. كما أنها لا تحتاج لإسرائيل كي تُرضي واشنطن؛ فصفقات الاستثمار والسلاح خلال زيارة ترامب الأخيرة كانت كفيلة بتحقيق ذلك.
في الوقت ذاته، سعت السعودية ودول الخليج لتخفيف التوتر مع إيران، وفضلت الانخراط الدبلوماسي بدلًا من الحروب، في ضوء تركيزها على التنمية الداخلية. وعلى الرغم من ترحيبها بتقليص قدرات إيران، فإنها لم تُبارك الهجمات الإسرائيلية، التي وضعت المنطقة على حافة الحرب الشاملة. وكان الهجوم الإيراني الانتقامي على قاعدة أمريكية في قطر تذكيرًا بأن النزاع الإسرائيلي-الإيراني يعرض الخليج للخطر.
ويُنظر اليوم إلى إسرائيل – خاصة بعد حرب غزة وضرباتها في سوريا – كقوة مقلقة للاستقرار، وليست منقذة للمنطقة. ففي سوريا، رُصدت ضربات إسرائيلية لمواقع حكومية في دمشق بذريعة حماية الطائفة الدرزية. لكن القيادة السورية الجديدة رأت فيها محاولة لتقسيم البلاد، وأكد المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، توماس باراك، أن التوقيت كان سيئًا، وعقّد الجهود الأمريكية لتحقيق الاستقرار.
لقد دعمت إدارة ترامب رفع العقوبات عن النظام السوري الجديد، وأرسلت إشارات دعم سياسي واضحة عبر لقاء رفيع في الرياض بين ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع. وكانت واشنطن تأمل بترجمة ذلك إلى اتفاق بين سوريا وإسرائيل، وربما ضمّ سوريا إلى اتفاقيات أبراهام. لكن التصعيد الإسرائيلي أعاق هذه الخطوة.
- العودة إلى نقطة الصفر
لقد سُخر من شمعون بيريز عندما تحدث عن “شرق أوسط جديد” يقوم على التعاون الاقتصادي والتكامل الإقليمي انطلاقًا من السلام مع الفلسطينيين. أما الحديث اليوم عن شرق أوسط جديد قائم على الهيمنة العسكرية الإسرائيلية دون أفق سياسي، فليس أقل طوباوية – بل أكثر خطورة. فهو يعيد إسرائيل إلى النقطة التي بدأت منها.
-------------
بقلم الكاتبة: د. داليا داسا كاي (Dalia Dassa Kaye) زميلة أبحاث أولى في مركز بوركل للعلاقات الدولية – جامعة كاليفورنيا (UCLA، ومؤلفة الكتاب المرتقب “العداء المستمر: صناعة السياسة الأمريكية تجاه إيران”
مراجعة وتحرير: د. طالب عبد الجبار الدغيم
مراجعة وتحرير: د. طالب عبد الجبار الدغيم
- المركز الديمقراطي العربي