دوّن فاروق الشرع مذكراته في جزأين، صدرا عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ". حمل الجزء الأول عنوان "الرواية المفقودة"، روى فيه بداياته في العمل الدبلوماسي، وكشف تفاصيل المفاوضات الشائكة مع إسرائيل، وانتهى عند لحظة مفصلية تمثّلت في وفاة حافظ الأسد عام 2000.
أما الجزء الثاني فصدر بعد سقوط نظام بشار الأسد، ويغطي الفترة الممتدة من عام 2000 إلى عام 2015.
الجزء الأكثر جرأة في مذكرات فاروق الشرع
يُعدّ هذا الجزء الأكثر جرأة، والأقرب إلى أن يكون اعترافًا أخيرًا؛ لذلك أوصى الشرع ألّا يُنشر إلا بعد وفاته. غير أنّ انهيار النظام السوري وفرار بشار الأسد إلى روسيا دفعه إلى تغيير قراره.
في هذه المذكرات، يفجّر فاروق الشرع قنابل مدوّية عن التوريث والقمع ووأد الإصلاح، وعن علاقات بشار الأسد المرتبكة بالزعماء العرب، وكراهيته للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لأنه كان يناديه: "ابني بشار".
ويروي الشرع أيضًا تفاصيل الخلاف العاصف بين بشار الأسد ورئيس الحكومة اللبناني الراحل رفيق الحريري وتداعيات اغتياله، ثم اللحظة الفاصلة المتمثلة في اندلاع الثورة السورية والانهيار من الداخل.
علاقة فاروق الشرع ببشار الأسد
تعرّف فاروق الشرع إلى بشار الأسد في بداية التسعينيات، حين ساعده في استخراج تأشيرة سفر إلى لندن لمتابعة دراسة الطب.
ورآه مجددًا حين عاد على وجه السرعة بعد الوفاة المفاجئة لشقيقه الأكبر باسل الأسد، الذي كان يُعَدّ لخلافة حافظ الأسد، قبل أن يغيّبه الموت في حادث سير ما تزال تفاصيله غامضة
منذ البداية، لم تكن العلاقة ودّية بين السياسي المخضرم والوريث الشاب. فعقب المؤتمر القطري التاسع لحزب البعث عام 2000، طُلب من فاروق الشرع أن يلقي كلمة يبايع فيها بشار الأسد، لكنه رفض، ورأى أنه لا يوجد ما يبرّر الإشادة به. ولم ينسَ بشار الأسد أبدًا هذا الموقف.
يقول الشرع إن خلافه مع بشار الأسد لم يكن شخصيًا، بل نابعًا من مواقف سياسية حاسمة، أبرزها اعتراضه على قمع "ربيع دمشق".
فقد ضاق الرئيس الجديد بتلك المنتديات التي رفعت سقف الحوار السياسي، فأغلقها واعتقل منظميها، ليعلن مبكرًا أن "العهد الجديد" لم يكن سوى استمرار لنهج القمع.
وكان الوجود السوري في لبنان من أكثر محطات نفوذ الأسد تعقيدًا وغموضًا.
وحين قرر حافظ الأسد إعداد ابنه للحكم، لم يمنحه وزارة أو منصبًا داخليًا، بل سلّمه ملف لبنان، ليكون ميدان الاختبار الأول للوريث.
ومع تولّيه الرئاسة، سعى بشار الأسد لإثبات قدرته على فرض الهيمنة كما فعل والده. وفي عام 2004، قرر التمديد للرئيس اللبناني الأسبق إميل لحود، متحدّيًا رفضًا واسعًا في الداخل اللبناني، ومعارضة دولية قادتها واشنطن وباريس.
محضر الاجتماع العاصف بين بشار الأسد ورفيق الحريري
لكن العقبة الأبرز كانت رئيس الوزراء رفيق الحريري ، الذي عارض التمديد خوفًا من انفجار داخلي، غير أن بشار الأسد لم يكن مستعدًا للتراجع.
ينشر فاروق الشرع في مذكراته محضر اجتماع عاصف بين الأسد والحريري، عُقد في 26 أغسطس/ آب 2004.
في ذلك اللقاء، وجّه بشار الأسد إلى رفيق الحريري اتهامات مبطّنة بالتواطؤ مع فرنسا، وهدّده بأن بقاءه في موقعه مرهون بالحماية السورية.
ويقول فاروق الشرع إنه حاول إقناع بشار الأسد بالتراجع، محذرًا من أن دعم إميل لحود سيفتح النار من واشنطن وباريس، لكن بشار لم يُصغِ.
هنا، يكشف وزير الإعلام اللبناني الأسبق باسم السبع مفاجأة مدوّية.
فالسبع، الصديق المقرّب من رفيق الحريري، يروي في مذكراته أن اجتماعًا بين الحريري ووزير الخارجية السوري آنذاك وليد المعلم ألمح إلى أن فاروق الشرع كان متورطًا في تأجيج الخصومة بين الحريري والأسد
يثني فاروق الشرع على رفيق الحريري، لكنه لا يخفي انتقاداته المبطّنة بين السطور.
ويقول إن الحريري كان ثريًا إلى حدّ يصعب تقديره، وإنه لم يكن يهتم بتفاصيل السياسة إلا من زاوية تأثيرها على ثروته وعلاقاته بالمسؤولين في الرياض وباريس.
لكن هذه العلاقة الودّية لم تدفع الشرع إلى تحذير الحريري من أن غضب بشار منه وصل إلى درجة خطيرة.
وفي صباح 14 فبراير/ شباط 2005، وقع انفجار ضخم هزّ بيروت، قُتل فيه 22 شخصًا، بينهم رفيق الحريري. ووجّهت إثره أصابع الاتهام مباشرة إلى النظام السوري.
تدخّل مجلس الأمن، وتشكّلت لجنة تحقيق دولية أوردت في تقريرها الأول أسماء مسؤولين سوريين اتُّهِموا بالتورط في عملية الاغتيال، على رأسهم اللواء السوري غازي كنعان، الحاكم الفعلي للبنان طوال عقود.
وبينما كانت الضغوط تتصاعد، وقبل أن يُستدعى للتحقيق، أُعلن عن "انتحار" غازي كنعان. لكن التوقيت لم يكن بريئًا، ولا الطريقة كانت مقنعة، فشبهة التصفية بدت أقوى من فرضية الانتحار.
في مذكراته، يكشف فاروق الشرع عن واحدة من أكثر العمليات حساسية بعد اغتيال رفيق الحريري، من خلال إدخال الشك في الرواية التي اتهمت النظام السوري، وصدّقها حتى حلفاؤه من الروس والصينيين وبعض الحكّام العرب.
وأُوكلت المهمة إلى وزارة الخارجية، بقيادة الشرع، لتبرئة النظام السوري من دم الحريري.
وتحت الضغط الدولي، انسحب الجيش السوري من لبنان في أبريل/ نيسان 2005، وتكبّد بشار الأسد خسارة كبرى، بفشله في الحفاظ على النفوذ التاريخي الذي راكمه والده في لبنان.
في ذلك الوقت، بدا أن بشار الأسد يتحيّن الفرص لتقليص نفوذ المحيطين به، وكانت أولى ضرباته موجّهة إلى وزير خارجيته فاروق الشرع، حيث استدعاه وأبلغه بقرار إعفائه من منصبه وتعيينه "نائبًا للرئيس".
اقترح الشرع أن يُمنح هذا المنصب صلاحيات واضحة، إذ بدا له غامضًا ومفتقرًا إلى مهام محدّدة، لكن الأسد أبلغه أن مهمته الأساسية ستكون القيام بما يكلّفه به الرئيس.
في مارس/ آذار 2011، اندلعت شرارة الثورة السورية عبر احتجاجات خجولة بدأت من درعا، سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم، ووصلت إلى أغلب المحافظات السورية.
يسرد فاروق الشرع في مذكراته ما وصله من معلومات حول الأيام الأولى للثورة، وينقل مشاهد الارتباك داخل الأجهزة الأمنية، واستخدام القمع المفرط ضد المحتجّين، واعتقال حتى الأطفال.
لكن اللافت كان موقف الرئيس نفسه ممّا يجري، إذ يقول الشرع إن المراوغة كانت السمة الأبرز في سلوك بشار الأسد خلال الأشهر الأولى للثورة.
ففي اجتماعات الحزب، كان يتحدث عن إصلاحات محدودة، أما في خطاباته للعامة فلم يأتِ على ذكر أي إصلاح، بل ظلّ يكرّر سردية "المؤامرة الخارجية"، ويترك لأجهزته مهمة حشد المسيرات لتأييد كل ما يقوله.
وفي المقابل، واصلت الأجهزة الأمنية حملات القمع، مطلقة الرصاص الحي على المتظاهرين، فيما غصّت السجون بآلاف المعتقلين.
في مايو/ أيار 2011، ومع اتساع رقعة الاحتجاجات، أعلن بشار الأسد تشكيل "هيئة الحوار الوطني"، وعيّن فاروق الشرع رئيسًا لها.
خطوط بشار الأسد الحمراء
كان يُفترض أن تشمل الهيئة جميع أطياف المجتمع، لكن أغلب المعارضين في الخارج بقيت أسماؤهم على قوائم المنع من الدخول، ولم يكلّف النظام نفسه عناء رفعها.
ومنذ البداية، وضع بشار الأسد خطوطًا حمراء صارمة، إذ رفض مناقشة صلاحيات الرئيس أو مجرد التطرّق إلى المادة 8 من الدستور السوري التي تنصّ على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع.
كان واضحًا أن النظام السوري لم يسعَ من خلال جلسات الحوار إلا إلى تلميع صورته.
وتأكّد فاروق الشرع من ذلك حين تجاهل بشار الأسد تمامًا توصيات المؤتمر، التي دعت إلى التعددية السياسية وتعديل الدستور.
في مذكراته، يسجّل الشرع صدمته من توجيهات سرية أصدرها بشار الأسد، يأمر فيها بالتنديد بمؤتمر حوار دعا هو بنفسه إلى انعقاده.
ويقول الشرع إن بشار الأسد كان غارقًا في حبّ الذات، لا يسمع إلا كلمات المديح الموجّهة إليه، متجاهلًا ما بين السطور في أحاديث الوافدين من مختلف المحافظات، الذين جاؤوا ليكشفوا له جوانب من الأحداث وتداعياتها التي كانت تُخفى عليه.
ومع تصاعد الأزمة، شكّلت الجامعة العربية وفدًا زار دمشق للقاء الرئيس السوري وعرض مبادرة لحلّ الأزمة.
واقترح أعضاء الوفد وقف العنف من جميع الأطراف، والإفراج عن المعتقلين، وسحب الجيش من المدن.
ويذكر الشرع في مذكراته استخفاف بشار الأسد بحديث الوفد العربي، ثم وعده بالنظر في المبادرة، قبل أن يتراجع عن هذا الوعد فور مغادرة الوفد مطار دمشق.
استبعاد فاروق الشرع
في تلك اللحظة، بات واضحًا أن بشار الأسد حسم أمره باعتماد القمع طريقًا لمواجهة الاحتجاجات.
وفي يوليو/ تموز 2013، عُقد المؤتمر العام لحزب البعث.
ويذكر فاروق الشرع أن بشار الأسد، ومن غرفة جانبية ومن دون أي تصويت، أعلن تشكيل قيادة جديدة استبعد منها جميع أعضاء القيادة القطرية السابقة، بمن فيهم الشرع نفسه، عقابًا له على معارضته للحل العسكري.
بعدها، أُغلق مكتب الشرع كنائب للرئيس، وصُرِف موظفوه جميعًا، ووصلت تعليمات صارمة بمنع زيارته أو التواصل معه من قبل أي موظف في الدولة.
ثم مضى الأسد أبعد من ذلك، فأجرى انتخابات شكلية نافسه فيها مرشحان مغموران، ليدفع البلاد أكثر فأكثر نحو نفق مظلم.
ومع إصراره على الحل الأمني، شدّد بشار الأسد قبضته على مفاصل الدولة، وشنّ حربًا شاملة ضد الشعب السوري، غير أن الميليشيات التي دفعت بها إيران إلى الداخل السوري عجزت عن إنقاذه أو إيقاف تقدّم قوات المعارضة.
بشار الأسد وحلم "الملكية العربية الأسدية"
عند هذا المنعطف الأخطر، تدخلت روسيا لتغيّر مسار الحرب وتقلب الموازين كليًا.
أنهى فاروق الشرع كتابة مذكراته عام 2019. وفي صفحتها الأخيرة، كتب أن بشار الأسد نجح في البقاء في السلطة بفضل الدعم الروسي والإيراني، اللذين تقاسما ما تبقّى من سوريا مقابل ديون ثقيلة يتعذّر سدادها.
ولفت إلى أن بشار الأسد كان يحلم بتحويل الجمهورية إلى مملكة لتصبح "الملكية العربية الأسدية"، لكن الأحداث التي تلت ذلك لم تخطر على بال.
ففي مشهد بدا أقرب إلى الخيال، انهار حكم بشار الأسد خلال 12 يومًا فقط، من دون أن يستطيع الروس ولا الإيرانيون إنقاذه.


الصفحات
سياسة









