صباح الإثنين الماضي، في 14 أيلول (سبتمبر) الجاري، صدرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية الواسعة الإنتشار، تحمل مقالاً بتوقيع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو.
لم يكن المقال توطئة لزيارة "تاريخية" سيقوم بها بومبيو لباريس، ولا لحدث يجمع فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، بل كان شرحاً لرؤية الإدارة الأميركية لكل من إيران و "حزب الله" اللبناني. هذه الرؤية المناقضة، تماماً، لسلوك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، سواء في مجلس الأمن الدولي تجاه إيران، كما في لبنان تجاه "حزب الله".
ذهب المقال بعيداً في انتقاد نهج ماكرون، فأشار، عشية انعقاد قمة دول الإتحاد الأوروبي والموعد المفترض، وفق الروزنامة الفرنسية لتشكيل حكومة لبنان الجديدة، إلى أنّ الرئيس الفرنسي يتوهّم أنّ هناك جناحاً سياسياً ل"حزب الله" الذي "يتحكّم به، بشكل كامل، إرهابي واحد، هو حسن نصرالله، وأبدى أسفه لامتناع باريس عن إدراج "الحزب" ككل، ضمن لائحة الإرهاب، كما فعلت دول أوروبية أخرى، متهماً ماكرون بأنّه هو من يحول دون ذلك أيضاً، ضمن "الإتحاد الأوروبي".
ولم يتردد رئيس الدبلوماسية الأميركية في التحريض "بلا أي دبلوماسية" على الرئيس الفرنسي، في هذا المقال، إذ استهجن لقاءه، في بيروت، برئيس الكتلة النيابية لـ"حزب الله" محمد رعد، وسأل القرّاء الفرنسيين:" كيف يعقل أن يلتقي ماكرون مسؤولاً بارزا في "حزب الله" في بيروت؟".
وفي خطوة تهدف الى التأكيد أن النهج الأميركي ضد سلوك ماكرون تجاه "حزب الله" ليس معزولاً عن رؤية فرنسيين آخرين، ذكّر بالعريضة التي وقعتها سبع وعشرون شخصية فرنسية، ضد "التساهل مع "حزب الله" الذي يتحمّل مسؤولية ما وصل إليه لبنان من انهيار".
وكانت هذه العريضة قد نُشرت في 14 آب (أغسطس) الماضي، ووقّعها رئيس حكومة سابق ووزراء ونواب سابقون وسياسيون وناشطون حقوقيون.
وكما قوبلت عريضة ال 27 بصمت رسمي كذلك كان مصير مقال بومبيو، ممّا يعني أن ماكرون مصمّم على نهجه ورؤيته.
إنّ مقال بومبيو، لا يعني أنّ العلاقات الفرنسية-الأميركية، بخصوص الملفين الإيراني واللبناني، متباينة فحسب، بل يشي، أيضاً، بأنّ القنوات الدبلوماسية والسياسية التي تربط البلدين الحليفين لم تعد تُجدي نفعاً، في هذه المرحلة.
ولكن، ما هي تأثيرات هذا الخلاف وماذا يمكن أن تكون تداعياته؟
من الواضح أن الإدارة الأميركية في تعاطيها مع فرنسا، تربط دورها في الملف الإيراني بمبادرتها في لبنان.
وتريد واشنطن أن تفرض نفسها على أعمال قمة الإتحاد الأوروبي، بهجوم على النهج الفرنسي، على اعتبار أن باريس هي الأكثر تشدداً في العمل على سياسة أوروبية مستقلة عن مصالح الحليف الأميركي.
وتتحضّر الإدارة الأميركية، لموعد العشرين من أيلول(سبتمبر)، وهو التاريخ الذي حدّدته، من أجل إعادة العمل بالعقوبات الأممية التي سبق وفرضها مجلس الأمن الدولي على ايران، بسبب الملف النووي.
وسبق ووقفت باريس وبريطانيا في مجلس الأمن ضد واشنطن، في توجهها هذا وضمّتا صوتيهما المعترضين الى صوتي الصين وروسيا، بدعم من ألمانيا.
وفيما ترتاح واشنطن الى الخلاف الطارئ على ملف العلاقات الأوروبية-البريطانية، بسبب التطورات السلبية في ملف "بريكست"، وتستقطب ألمانيا، بدفع أنقرة الى الجلوس-كما تتمنّى برلين-الى طاولة المفاوضات بخصوص "اضطرابات النفط" في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، ترى أنّه يمكنها أن "تبتز" باريس بالملف اللبناني، بمعنى أنّ استمرار ماكرون في موقفه المناوئ للإدارة الأميركية في الملف الإيراني، قد يُخسره رهانه على النجاح في الملف اللبناني.
وتعتقد واشنطن بأنّ لديها "حلفاء" في لبنان لإفشال المسعى الفرنسي.
حلفاؤها في ذلك، للمفارقة، هم من "دلّعهم" ماكرون نفسه: أي "حزب الله" ورئيس الجمهورية ميشال عون.
ويكفي كيف تفاعل "حزب الله" سلباً مع الدفعة الجديدة من العقوبات الأميركية التي طالت شخصيتين حليفتين، وهما علي حسن خليل ("حركة أمل") ويوسف فنيانوس ("تيار المردة")، لمعرفة كيف يمكن أن يتفاعل عون مع دفعة مقبلة قد تشمل بعض معاونيه.
وتعتقد واشنطن بأنّ الإيجابية التي سبق وأبداها عدد من اللاعبين السياسيين اللبنانيين تجاه مبادرة ماكرون، كانت تهدف الى توسّله ليساعدها في صدّ "الهجمة الأميركية"، على أن يعود الجميع الى طبيعته، بمجرد ثبات عجز ماكرون عن ذلك.
وتشي التعقيدات اللبنانية على ملف تشكيل الحكومة الجديدة بأنّ الإدارة الأميركية ليست مخطئة أبداً في توقعاتها، فمن يفترض بهم "رد الجميل" لماكرون يتولّون بأنفسهم نسف مبادرته.
والمبادرة الفرنسية تقوم على مهل ومبادئ. المهلة الأولى التي على أساسها تحل المهل الأخرى-ومن بينها مؤتمر دولي جديدة لدعم لبنان-حلّت، وهي تتعلّق بتشكيل الحكومة، بطريقة مختلفة تماماً عمّا كانت عليه الأمور سابقاً.
الوقائع اللبنانية تؤكد أن لا المهلة جرى احترامها ولا مبادئ التشكيل.
لم يكن الأميركيون بحاجة الى الدخول على الخط. كان يكفيهم أن يفهم "حزب الله" أنّ ما يدفعونه لإيمانويل ماكرون لن يشتروا به دونالد ترامب.
وهذا يعني أنّ النيات الفرنسية في مكان و"ثوابت" الأميركيين في الحرب المفتوحة على إيران وأذرعتها في مكان ثان، وتطلعات "حزب الله" في مكان ثالث.
ماذا سيفعل الرئيس الفرنسي إنقاذا لمساره المستقل عن الإدارة الأميركية؟
إنّ هامش المناورة في لبنان ضيّق أمامه، فإمّا يبقي على مبادئه، وإمّا يطلب من حلفاء فرنسا التقليديين مزيداً من التضحيات.
هو يعرف أنه لا يستطيع ذلك، فإعطاء "حزب الله" ما يريد يمنع أن يفتح أمام لبنان "الخزنات الموصودة"، ودفع حلفاء فرنسا التقليديين الى مزيد من التنازلات يضاعف مشاكلهم الكبيرة مع الدول الصديقة الأخرى.
في روحية مقال بومبيو الذي استتبعه بمقابلة مع إذاعة فرنسية، إنّ إنجاح مقاصد فرنسا في لبنان يكون ممكناَ، فقط، إذا عدّلت في نهجها ليتناغم مع الإرادة الأميركية.
-------
النهار
النهار