حفظ السلام الإقليمي والوطني يتطلب دبلوماسية معقدة لدرء تداعيات عدم اليقين والموجات الارتدادية
في محاولة لتقييم تداعيات الحرب الإسرائيلية / الإيرانية على سوريا، لجأنا بداية، لدراسة موسعة باستخدام بروتوكولات الرياضيات التطبيقية المدعمة بالذكاء الصناعي، لتقييم المخاطر، واستجلاء اتساق وميول الأحداث، والسيناريوهات المحتملة. وصفت الدراسة الرياضية الوضع في سوريا والفضاء المحيط بها، بأنه "فائق التعقيد والعشوائية، ويحتمل شلالات متفاقمة من المخاطر".
استفدنا، في هذه الورقة المختصرة، من بحثنا السابق الموسع، بعد الحرب الإسرائيلية – الإيرانية. حيث كانت النصيحة الجوهرية، "ضرورة التحلي بأقصى درجات الحذر الاستراتيجي، في التصرف إزاء التحولات المحيطة بسورية".
بقرار إسرائيلي، اندلعت الحرب التي أكد نتنياهو أنه يخطط لها منذ عقود. لتنفلّت المخاطر الكامنة وتتداخل عوامل الفوضى (صناديق باندورا المتراكبة) وتتجاوز تمامًا إرادات البشر، وتوافقاتهم، بل لتنتج صدمة عشوائية في نظام إقليمي ودولي هش – (هيلبينج)، حيث تكون أية خطوة ردع تقليدية خاطئة، مقدمة لتصعيد جامح.
لدراسة هذه التداعيات، نقترح تحليل ثلاث منظومات:
-
المنظومة الأولى: عوامل الفوضى وعدم اليقين في الصراعات الدولية.
-
المنظومة الثانية: إقليميًا عدم الاستقرار القريب والبعيد حول بلاد الشام والذي تمتد تداعياته نحو الخليج العربي.
-
المنظومة الثالثة: الفضاء السوري بتعقيداته التي تكاد تصل حد الاستحالة.
كيف انتهت هذه الحرب؟
وكيف تخترق هذه الهزة التي مثلتها، مجمل الأطر الاستراتيجية المحيطة بسوريا، لتتضافر عوامل الفوضى والعشوائية، وتولد حلقات تغذية راجعة تفاقم بعضها بعضًا، بحيث تنقلب الروابط بين الصديق والعدو (تشانغ وآخرون، PNAS Nexus (2023))، وحيث تطلق التحولات الطفيفة العنان لتداعيات معقدة، ليصبح من المستحيل اعتماد السيناريوهات "المعتدلة"؟
المنظومة الداخلية السورية
تمر المنظومة السورية بتحولات داخلية تولد اضطراباً شديداً يصل لجذور نموذج الدولة الممكنة، بما يجعل سوريا فضاء فائق الحساسية لاضطرابات الوضع الإقليمي والدولي.المنظومة الإقليمية
إسرائيل: في الحرب، تمكنت من تأكيد تفوقها الهجومي الكاسح لكنها لم تؤكد، بذات القدر، مناعتها الدفاعية. وانكشفت العيوب البنيوية في وضعها الاستراتيجي. وبالمقابل اختبرت إسرائيل عملياً التزام الولايات المتحدة تجاهها، لكنها اختبرت أيضاً سقف الاستعداد الأمريكي للتورط.
لكن إسرائيل التي قررت بعد 7 أكتوبر حسم الحرب الباردة الإقليمية لصالحها، وتكريس السلام الإقليمي الإسرائيلي، لم تتمكن من تحويل نجاحاتها العسكرية والأمنية لمنجزات سياسية تؤمّن انكساراً نهائياً للإرادة القومية الإيرانية وإنهاء العداء للدولة العبرية. ولم تحسم الملف النووي ولا الصاروخي. ولا يبدو أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تملك استراتيجية للخروج من دوامات حروبها، بما في ذلك فشلها تغيير وضعها الاستراتيجي بينها وبين سوريا. لتجدها تعود لدورة جديدة من "قص العشب" والحرب الباردة مع خصوم إقليميين جدد.
إيران: ثبت ترهل وهشاشة العديد من منظوماتها السياسية، والأمنية، والدفاعية، والاستراتيجية. بل تداعت قبلها متاريس أذرعها الإقليمية. لكنها تماسكت وحاربت إسرائيل وعينها على أمريكا. فراهنت على غياب إرادة أمريكية لاستكمال الحرب. وكعادتها، كانت قادرة على تلقي الصفعة والذهاب نحو التفاوض المديد، في انتظار استرجاع ردعها القومي، وإعادة تشكيل تحالفاتها مع روسيا وباكستان والصين، في وقت تتعرض فيه، هي ذاتها، لتحول داخلي بنيوي عميق.
فإيران بعد هذه الحرب، لن تعود قط كما كانت! وبحسب ما يُقرأ من جدل في مراكز الأبحاث الإيرانية ووسائط الإعلام، كما أشرنا في بحث سابق في هذه المجلة العتيدة، يلف عدم اليقين صراع الأقطاب في طهران، الذي يجري خلسة وعلناً، داخل مؤسسة الحكم وخارجها، بدءاً من البازدران، والبيروقراطية العسكرية والحكومية، إلى البازار والقوى المجتمعية والإثنية المختلفة. على رأس ذلك كله تطرح…
أكدت أمريكا في حرب الـ 12 يوماً تسيدها الاستراتيجي لكنها فشلت في حل الأزمة مع إيران بل كل أزمات الإقليم ولم تظهر التزامها بأمن الخليج
خلاصة القول إن الوضع الإقليمي في غاية السيولة ويحتمل الكثير من السيناريوهات المتناقضة
المنظومة الدولية:
الولايات المتحدة: أكدت أمريكا في حرب الـ 12 يوماً تسيدها الاستراتيجي العالمي تجاه خصومها الدوليين من جهة، وأكدت عودتها العاصفة للإقليم. لكنها أكدت فشلها في وضع حل للأزمة مع إيران بل فشلها إزاء كل أزمات الإقليم، ولم تستطع إظهار التزامها بأمن الخليج العربي.
وفيما تتجاذب الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية مقاربتين متناقضتين:
المقاربة الإسرائيلية التي تراهن على تأبيد الصراع وإبقاء المطرقة الأمريكية جاهزة.
والسياق الآخر هو الاستثمار في الخيار العربي السعودي القائم على بناء السلام والازدهار والتنمية.
لكنها تجنح في نهاية الأمر نحو الخيار الثاني لكونها غير جاهزة، لا داخلياً ولا خارجياً، للانجرار إقليمياً ولا لحملة تشبه حملاتها على العراق 1991م بعد تحرير الكويت، ناهيك عن الانخراط بجنودها على الأرض. هذا في حين لا زالت إيران في اعتبار العديد من الاستراتيجيين الأمريكيين درة التاج.
وفيما كان إسقاط نظام الأسد ضربة قاصمة لاستراتيجيات إيران الإقليمية، تأمل الولايات المتحدة أن تتمكن من ضبط الصراع بين حلفائها في تركيا وإسرائيل على تقسيم العمل الإقليمي. وفي نهاية الأمر تعمل الاستراتيجية الأمريكية دوماً لمنع تفاقم قوة أحد حلفائها، بما يخل التوازن مع حلفائها الآخرين.
روسيا: تنظر مراكز الأبحاث الروسية للاستعراض العسكري الأمريكي على حدودها، كتهديد مباشر لروسيا، ومحاولة لاستعادة التسيد الأمريكي في العالم. بل وجدت فيها الضربة الأمريكية تخريباً مباشراً لمشاريعها ونفوذها لنقل الطاقة من القفقاس ووسط آسيا. وتجد القطع البحرية على الساحل السوري محاصرة. لذلك يتسم الموقف الروسي من سوريا بالترقب واقتناص فرصة الشقوق في التحالفات الأمريكية بهدف إيجاد دور لها في تقسيم العمل الإقليمي الجديد. ورغم وجود خطوط تواصل قوية مع الإدارة الأمريكية، لم تتمكن روسيا من اجتراح دور لها لا في سوريا بعد الأسد، ولا فيما يتعلق بالمفاوضات النووية.
تركيا: بغض النظر عن العداء العقائدي، الذي غالباً ما كان فولكلورياً، تصاعدت العداوة بين تركيا وإسرائيل بشكل جذري، خاصة بعد غزة 2023م، وبعدما أكدت تركيا دورها كعمود راسخ على الجناح الجنوبي الشرقي لحلف الأطلسي. وبعد أن حسمت الحرب الأرمنية الثانية، نجاحات عسكرية واستراتيجية تركية حول خطوط نقل الطاقة من وسط آسيا.
شكل انتصار حلفاء تركيا من السلفيين الجهاديين في سوريا ضربة استراتيجية لاثنين من منافسيها الإقليميين: روسيا وإيران. لكنها في ذات الوقت توافقت في مصلحتها المشتركة مع إسرائيل والولايات المتحدة، بإسقاط نظام الأسد.
يشير مجمل هذه اللوحة، لصعود موقع تركيا بعد الحرب، خاصة حول حصتها من تقسيم العمل بين حلفاء الولايات المتحدة. لكن لا يزال على تركيا أن تفعل الكثير كي تحقق حلمها المنشود بضم سوريا لمظلتهــا الإقليمية.
ومع ذلك يلف عدم اليقين الكثير من عناصر الدور التركي في سوريا. أولها التحولات الداخلية العميقة أو في مراجعة تركيا لتحالفاتها الإقليمية، مع إيران وروسيا وأوروبا. أو كيفية موازنة التنافس التركي الإسرائيلي على الأرض، وإدارة التنافس التركي الإسرائيلي الأوروبي الروسي على شرق المتوسط. وتبقى الذريعة التركية سلاحاً مشهوراً، لكنها لم تستخدمه إلا عبر توافقات أمريكية مضبوطة.
الصين:
رغم وجود بدائل لإيران كمصدر للطاقة من الخليج، تنظر الصين بقلق لاستعراض القوة العسكري الأمريكي في جوارها الاستراتيجي. وما من شك أن العدة الأمريكية لمحاولة الاستئثار بمنطقة تمتد من بحر العرب والمحيط الهندي وصولاً لوسط آسيا يشكل مصدر قلق جدي لها. ولا شك أنها شجعت العلاقات الإيرانية الباكستانية وفتح ممر قطارات حيوي بينها وبين إيران مما يمكن أن يسهل استعادة إيران لردعها الاستراتيجي.
روسيا والصين:
ثمة تقاطعات واحتمالات ملموسة لتوافق صيني روسي تجاه الملف السوري وآفاقه ضمن نسيج التحالفات الإقليمية. فبعد هذه الحرب، وبالنسبة للصين وروسيا لم تعد إسرائيل صديقاً محتملاً، بل صارت في الخندق المتقدم لخصومها الغربيين. فيما صارت إيران أكثر حاجة واحتمالاً في تحالف آسيوي جديد.
وتنظر الصين وروسيا بقلق لاحتمال استخدام المجاهدين التركمانستانيين والشيشان العاملين في الجيش السوري ضدهما.
سياقات عديدة ناقشنا في ورقة سابقة في المجلة هذه التحولات الدولية. ولكن ما تكشفه هذه الورقة أيضاً هو مقدار انهيار التوافقات الدولية وسيولة الوضع الدولي المحيط بسوريا التي زادتها الحرب الإسرائيلية الإيرانية تفاقماً.
سيناريوهات وتوصيات:
أمام هذا القدر من الفوضى وعدم اليقين يثير سقوط الأسد وضعاً شديد الميوعة في الداخل السوري، في زمن تعاود فيه القوى العسكرية المحلية رسم تحالفاتها.
فيما تحاول الحكومة المؤقتة مداورة المخاطر الداخلية وموازنة الضغوط الروسية والتركية والإسرائيلية والأمريكية، تستمر الاحتكاكات التركية الإسرائيلية المتصارعة على خطوط تماس عسكري جديدة على الأرض والأجواء والمياه السورية.
في الإطار الإقليمي الثاني، يسرع عدم اليقين، مستوى القلق الاستراتيجي، وتتسارع برامج التسلح العسكري للمسيرات والصواريخ لدول الإقليم. وتميل دول وقوى إقليمية عديدة للبحث عن أدوات الردع غير التقليدي بأشكال مختلفة.
أمام وضع بهذه السيولة لا تزال السياسة الخارجية السورية عرضة لتجاذبات متناقضة لا يمكننا التوفيق بينها.
فيما تحتاج سوريا لدرء المخاطر تصبح قضية السلم الأهلي وبناء عقد اجتماعي جامع جديد يحصن البلاد من التدخلات الخارجية، يغلق الوضع الداخلي أمام التدخلات الخارجية، وصولاً للمطالبة بخروج القوات الأجنبية كافة من الأراضي السورية.
يتطلب الأمر وضع أولويات واضحة للسياسة الخارجية السورية تستند أولاً للبعد العربي. لتصبح التوصية الرئيسية للمخططين السوريين والإقليميين، أنه بدلاً من الركون لسياسات الانتظار والترقب ينبغي اعتماد سياسات تهدئة حول سوريا وخلق آليات صمامات أمان، واتخاذ تدابير استباقية لدرء احتمال تحول سوريا لثقب أسود يستقطب إليه الصراعات الدولية والإقليمية.
يشكل الدور السعودي والعربي فرصة إنقاذية فريدة لسوريا، لإخراجها من فوضى صندوق باندورا الإقليمي والدولي. كما تلعب المساعدات العربية والسعودية دوراً "مخرقداً" في مواجهة الهشاشة الداخلية المفرطة، من خلال تعزيز التوجه للمصالحة الوطنية، ورسم طريق التعافي الاقتصادي والاجتماعي. وتصبح الحاجة ملحة لبناء منظومات دبلوماسية إقليمية حول سوريا لتخفيض الصراعات في إطار يشمل إسرائيل وتركيا وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي.
أظهرت الحرب الإسرائيلية الإيرانية عام 2025م ما يتطلبه الحفاظ على السلام الإقليمي والوطني من عمليات دبلوماسية معقدة لدرء تداعيات عدم اليقين والموجات الارتدادية المحيطة بسوريا الناجمة عنه.